حوار مع الدكتور والباحث رشيد بوطيب
موسى الزعيم
حول المؤتمر الدّولي الّذي نظَّمهُ “الدِّيوان سنتر” البيت الثَّقافيّ العربيّ فِي برلين على مدار يومين ما بين 21 و22 يونيو 2024م، بمناسبة مرور 300 عام على ولادة الفيلسوف الألمانيّ الكبير “إيمانويل كانط” (1724 – 1804).
تحتفي الأوساطُ الأكاديميّة والفكريّة فِي ألمانيّا ومُعظم بلدان العالم فِي سنة 2024م، بمرور 300 عامٍ على ولادة الفيلسوف الألمانيّ إيمانويل كانط وفلسفتهِ التّنويريّة – الأخلاقيّة.
لتسليط الضوء على المعايير الرائدة الّتي نادى بِها كانط فِي عصر الحداثةِ الأوروبيّة لإحلال السّلام الأبديّ بين المُجتمعات، وقيم التّعايش الإنسانيّ والمُساواة.
بِهذه المُناسبة دعا “الدّيوان سنتر”عدداً مِن الخُبراء المَحليين والدُّوليين فِي مجال الفلسفة والعلوم الاجتماعيّة والعلوم السّياسيّة، للمُشاركة فِي مُناقشة أهميّة فلسفة كانط فِيالوقت الحاضر بالنسبةِ للثّقافة العربيّة والإسلاميّة المُعاصرة.
حيثُ افتتحَ المؤتمر الفيلسوف الألمانيّ”أوتفريد هوفه”، الّذي يُعرف بوصفه أبرزَ خبيرٍ بفلسفةِ كانط على المستوى الدّولي، وكانت مساهمته بعنوان، “راهنيّة كانط، فيلسوف التنوير والمواطن العالمي”. وكان ذلك إيذانًا ببدء الجلسات، فتناولتِ الجلسة الأولى “قضايا العنصريّة، والاستعمار، والحرب”، حيثُ شارك فيها البرفسور بيتر نيسن أستاذ النظريّة السياسيّة في جامعة هامبورغ، وكانت مساهمته بعنوان: “ماذا بقي من حقوق المواطنة العالمية؟ كانط والعنصرية ومناهضة الاستعمار”. ثم مساهمة البرفسور رضا المُسيبيّ وهو باحث كندي من أصل إيرانيّ، ويعمل حالياً أستاذًا في جامعة بوخم الألمانيّة، وموضوع مشاركته كان حول “كانط والتّصدي للعنصريّة العرقيّة”. ثمّ كانت مشاركة البرفسور أولريش فوغل وهو أستاذ في جامعة ماربورغ، وعنوان أطروحته “التاريخ، الحرب، السّلام عند كانط”. ثم عُقدت الجلسة العربيّة تحت عنوان: “الدّين، التربية، الكوزموبوليتية”. وافتتح الجلسة المفكر المغربي رشيد بوطيب بمساهمةٍ بعنوان “التربية الكوزموبولويتية لدى كانط: الأسس والراهنيّة”. ثم كانت مشاركة البرفسور الزواوي بغورة رئيس قسم الفلسفة بجامعة الكويت، وعنوانُ مساهمته “منزلة البيداغوجيا الكانطية ودورها في الفكر العربي المعاصر”. وأعقبها مشاركة البرفسور علي عبود المحمّداوي من جامعة بغداد، حيث قدّم مساهمةً متميّزة تحت عنوان “العَقد المثالي مؤسسًا للسلم الواقعيّ: كانط وراهنيته السياسيّة في العالم العربي”. وبعد ذلك عُقدت جلسة خاصّة للفيلسوفة الأمريكية المعروفة دوليًا سوزان نايمن مديرة منتدى أنشتاين، وحاورها الدكتور رشيد بوطيب، وكانت مساهمتها بعنوان “هل كان كانط فيلسوف المركزية الأوروبيّة؟”. ثم أعقب ذلك جلسة خاصة لمناقشة النتائج النهائية والتطبيقات العملية للأفكار المطروحة ثم جلسة ختامية. وكان الديوان قد نظّم في اليوم الأول كذلك عشاء تعارف للباحثين.
ثم إنه على هامش فعاليات هذاالمؤتمر كان لنا الحوار التالي مع*المفكر المغرب يرشيد بوطيب، مُحرر أعمال المؤتمر، فوجهت له الأسئلة التالية:
– دكتور رشيد كيف تقرأ هذا الاحتفاء الألماني الكبير بالفيلسوف كانط؛ فقد تمّإصدار عملةٍخاصّة بقيمة 20 يورو تحمل صورته، كما أقام المستشار الألماني ندوة مشهودة في صالة ضخمة اكتظت بالحضور، حيث تم الإعلان بأنّ عام 2024م هو عام الاحتفاء بمرور 300 عام على ولادة الفيلسوف ايمانويل كانط، كما تم إقرار برنامج موسّع ومكثّف لمؤتمرات وورش وندوات ستعقدُ على مدار العام الجاري في مختلف مدن الولايات الألمانية، وكذلك في عواصم بلدان أجنبية كثيرةٍ؟
ـ ليس هذا الاحتفاء غريباً على ألمانيا وسياساتها الثقافيّة. وليست هذه أوّل مرّة تحتفي بها ألمانيا كلّ هذا الاحتفاء بمثقفيها ومفكريها، وكانط، إلى جانب غوته، لاريبَ أبرزهم، وهي تحيي في هذا العام نفسهِ ذكرى مرور مئة عام على وفاة كافكا أيضاً. وهي في احتفائها بكانط، والذي لا يتمّلأوّل مرّة، تؤكد على ارتباطها بتراثٍ ألمانيّ معيّن، هو تراث التنوير وهو التراث الذي ارتبطبالحداثة السياسية وقيمها الكوزموبوليتية، ولا ننسى أنّ ذلك يتمّ في سياقٍ يتهدّدهُ اليمين المتطرّف. كما لا يجب أن ننسى أنّ الاحتفاء بكانط بدأ منذ السنة الماضية، إذ قامت العديد من دور النشر الألمانية بإصدار كتبٍ جديدةٍ حول هذا الفيلسوف، تناقش راهنيته بالنسبة للأزمنة المعاصرة. ومن جهة ثانية فإن الاحتفاء الدولي الذي نشهده من الصين إلى الأمريكيتين إنما يؤكد على الأهمية العالمية والإنسانية التي اكتسبتها أفكار كانط التنويرية.
– ما أهميّة فلسفة كانط التنويرية للثقافة العربية؟ وما أهمية أبحاثه في السياق العربي المعاصر؟
ـ لم تؤسس الأكاديميا العربية لتقاليد كانطيّة أو تقاليد لدراسة كانط، رغم الأهميّة الكبيرة لفلسفته وللأسئلة التي تطرحها فلسفتهُ العمليّة خصوصًا بالنسبة للسياق العربي. طبعًا، ستتم ترجمة بعض أعماله، ولن أغامر َبإصدار أحكام حول أهميّة تلك الترجمات ودقتّها، ولكن لا ريب أنّها ظلّت بلا تأثير يُذكر. وللأمر علاقة في النهاية بطبيعة العمل الأكاديمي والبحثي العربي، وبالإمكانيات الماليّة المُخصصة له، وفي النهاية يتعلق الأمر بمكانة الفلسفة والفكر النقدي عمومًا في ثقافتنا. وحسب علمي، فإن المؤتمر الذي نظمته مؤسسة الديوان سنتر في العاصمة الألمانية برلين، قد تمّ إقراره في مطلع أكتوبر عام 2023م، وقد شهدنا كذلك احتفاء عربيًا آخر بيوم دراسي مهم نظّمته جامعة الحسن الثاني في الدار البيضاء حول كانط، وهذا يقدّم لنا صورة عن علاقة السياق العربي بالفكر العالمي، أو العلاقة التي يريدها بهذا الفكر.
– بالنسبة لمؤتمر برلين حول الفيلسوف كانط الذي نظمته مؤسسة الديوان سنتر الثقافية، وشاركت أنت في أعماله، ما هي القضايا التي طرحتها في مساهمتكِ؟
ـ لابدّ من التنويه إلى أنّمؤتمر الديوان تشرّف بحضور شخصيتين من أكبر المتخصصين اليوم في الدراسات الكانطيّة على مستوى العالم، وذلك بفضل الجهود التي بذلها القائمون على إدارة الديوان. ونعني هنا الفيلسوف الألماني “أوتفريد هوفه”، والفيلسوفة الأمريكية “سوزان نايمن” وأنّ الشخصيتين أكدتا، كلّ بطريقته، على راهنيّة فلسفة كانط بالنسبة لزمننا المعاصر، والبعد الكوسموبوليتي لها، وقد تطرّقت جلسات المؤتمر أيضًا إلى كانط والعنصرية، وكانط ومفهومه عن السلام الأبدي بروح نقديّة، كما تدارس المشاركون العرب بالخصوص فلسفته السياسيّة، والتربويّة من وجهة نظر عربية، وانطلاقًا من السياق العربي الحالي، مؤكدين على أهميّة الفلسفة العملية الكانطية بالنسبة لهذا السياق.
– من وجهة نظرك ما أهمية مثل هذا المؤتمر الذي نظمه الديوان؟ وما هي دلالة أن يكون مؤتمرًا عن مفكر ألماني، وتنظمه مؤسسة عربية في وطنه الأم؟
ـ أولاً إنّ مؤسسة الديوان تقول للطرف الألماني بأنّ كانط تراثٌ إنسانيّ وليس فقط ألمانيًا، وأننا كعرب ومسلمين نشترك مع أوروبا في ذلك التراث الإنساني، والذي ما برحت أصوات غربية تحاول حرماننا منه، وهي تطردنا إلى خارج الإنسانية.
ثانيًا يؤكد تنظيم مثل هذا المؤتمر الدولي، الحضور الثقافي العربي في برلين، والدور الذي يمكن أن تقوم به المؤسسات العربية.وبدل الاستثمار في “الاسلاموفوبيا” وإقامة الولائم لصحفيين غربيين من الدرجة الثالثة أو شراء ذمم السياسيين الغربيين، يُمكن للعرب تحقيق الكثير عبر الاستثمار في الثقافة والحوار الثقافيّ والدبلوماسية الثقافية في أوروبا. وهذا بالضبط ما يقوم به الديوان اليوم في برلين، من خلال عشرات الندوات التي ينظمها ومعرضه الدولي السنوي للكتاب العربي، إلخ.
ـ كيف تقرأ الحراك الثقافي العربي في ألمانيا في السنوات الأخيرة، هل ترى فيه انفتاحاً على زوايا وموضوعات جديدة؟ أم أنّه تِكرار لما سبق ولا يعوّل عليه؟
ـ لا ريب أن حضور عددٍ كبيرٍ من اللاجئين السوريين، والعراقيين، ومن بلدان عربية أخرى،وفيهم الكثير من المهتمين بالثقافة،من شأنه أن يدعم الحضور الثقافي العربي في ألمانيا، ولكن هذا الحضور سيظلّ باهتًا وهامشيًا ما لم ندخل في حوار مع الثقافة والمثقفين الألمان والأوروبيين عموماً.إنّ هذا الأمر في غاية الأهميّة، ولا يمكننا الدخول في هذا الحوار دون اعتراف بالتعدد الذي يطبع الثقافة العربية. وبلغةٍ أخرى لا بدّ من تجنّب الطائفية والاقتتال الداخلي وعقلية الغنيمة التي يحملها العرب معهم في رحلتهم إلى الغرب رغم أنّهم كانوا أوّل ضحاياها، عليهم أيضا التحلّي بروح الفريق والتضامن، والوعي بأنّ السياق الوحيد الذي يمكن أن تتطور فيه ثقافة عربيّة حيّة ونقديّة هو السياق الذي تحكمه القيم الديمقراطية. إنّ ألمانيا فرصة للثقافة العربية، رغم كلّ أشكال التضييق التي نشهدها اليوم، ففي النهاية، نحن في دولة مؤسسات، ونعيشُفي ظلّ نظام ديمقراطي قادر على تصحيح أخطائه، فلنساعده على ذلك، بدل الاكتفاء بالنواح.
ـ باعتبارك محررَ أعمال مؤتمر كانط، الذي نظمه الديوان، فهل سنشهد قريبًا توثيقًا لمحتوى مشاركات الفلاسفة والباحثين بشكل مكتوب، في كتاب أو ملّخص على غرار ما يجرى في المؤتمرات الدوليّة؟
ـ بلا شك، هذا أمر في غاية الأهميّة، وذلك لكي تعمّ الفائدة من المساهمات الفكريّة والنقديّة التي قدمها المشاركون، وتصل إلى أكبر عددٍ من المهتمين والقراء في العالم العربي والمجتمع الألماني. لذلك حرص القائمون على الفعالية أن تتم ترجمة المساهمات المقدّمة خلال المؤتمر من وإلى العربية والألمانية، تمهيدًا لتحرير أعمال المؤتمر، لكي تصدر لاحقًا في عددٍ خاصٍ من مجلة الديوان الثقافية باللّغتين العربية والألمانية.وكذلك سوف يتمّ العمل على ضم أوراق جديدة لفلاسفة ومفكرين آخرين من كلا الجانبين لم يتح لهم إمكانية المشاركة المباشرة في جلسات المؤتمر، والعمل على ترجمتها وإخراجها في كتابٍ خاصّ ونشره في العالم العربي باللّغة العربيّة. وقد شرفتني مؤسسة الديوان بإسناد مهمة التحرير العلمي إليّ، وأرجو أن أتمكّن من إيفاء هذه المادة الفكريّة والفلسفية المهمة، حقها من العناية والإخراج العلمي بالتعاون مع فريق مؤتمر كانط، الذي رشحه الديوان لهذه الغاية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* المفكر المغربي الدكتور رشيد بوطيب هو أستاذ الفلسفة في معهد الدوحة للدراسات العليا ومدير تحرير دوريّة ” تبين” سابقاً، للدراسات الفلسفية والنظريات النقدية.
ـ درس الفلسفة الاجتماعية في مدرسة فرانكفورت الفلسفية النقدية،وحصل على الدكتوراه من جامعة غوته في فرانكفورت بألمانيا، عمل محاضراً في الفلسفة والأنثروبولوجيا الاجتماعية والفلسفة الإسلامية المعاصرة في العديد من الجامعات الألمانية.
ـ نشر العديد من الأبحاث بالعربية والفرنسية والألمانية والإيطالية، يدور مجملها حول قضايا الحرية والديمقراطية. كما صدر له العديد من الكتب والدراسات و له أيضا في الأدب، رواية “الحلم الألماني” بالعربية والألمانية.
ـ يعدّ بوطيب من أهمّ الفلاسفة و الباحثين العرب المعاصرين، إذ ينصبّ جُلّ اهتمامه الفكري على تجسير العلاقة المعرفية الحديثة بين الفكر الألماني والعربي من خلال مشاركته في العديد من المؤتمرات والنقاشات العربية الألمانية..