برلين تحتفي بالكتاب العربي

موسى الزعيم
القراءة عملية عقليّة تبدأ بالنّظر، والنّفس البشرية جُبلتْ على حبّ المعرفة، فمن خصائص الإنسان السّوي، شغفهُ بالفضولِ واجتهاده بفكّ رموزِ الكون، وعلى هذا الفضول المجبول بالحاجة، يسير العالم، معرفياً نحو الأعلى، من هنا فإننا نقرأ لتزدادَ معارفنا، ولنوسّع مداركنا، نقرأ كي نفهمَ العالم ونعرف ما يدور حولنا في أقاصي الأرض، نقرأ لنهربَ من واقعنا الرّاكد و نحيا حيواتٍ جديدةٍ بعددِ شخصيّاتِ الرّوايات والقصص التي نقرأها، نقرأُ كي نبحث عن الخلاص من عالمٍ متأزمٍ، لنزيدَ حصيلتنا الثّقافية والمعرفيّة واللغويّة، وحتى نبدو على قدر المسؤولية الحياتيّة، ونقرأ لأننّا من أمّة اِقرأ، نقرأُ من أجل اكتشاف ما هو جديدٌ على معرفتنا السابقة ونطوّرها. تلك الإجابات وغيرها، يدلي بها مباشرةً مَن تسألهم مرةً لماذا تقرؤون؟ وليس الهدف من القراءة هو الوصول الى المعلومة فقط، وإنّما تحسين نوعيّة الحياةّ وتوظيف هذه المعارف في خدمة الإنسان بما هو أفضل. لكن تبقى لكلّ إنسان حريّته ودوافعه وطريقته في القراءة .
القراءة للقراءة تقول الأبحاث أنَّ هناك 70% من الناس يقرؤون من أجل التّسلية فقط، تقرأ هذه الفئة الرّوايات والقصص المجلات الجرائد وغيرها من المطبوعات، تقنع منها بفائدة معرفيّةٍ قليلةٍ، حتّى لو كان الكتاب المقروء صعباً، يقرأ الفرد منهم متى يشاء، وفي أيّ ظرف كان، لا يوجد هدفٌ محدّدٌ، أو محورٌ معيّنٌ أو نوعٌ خاصٌ من الكتب، أو التركيز على اسم كاتب أو مؤلف معين، البعض يقرأ لمجرد تحريك الذّهن ولإبعاد الخَرف. بعض الناس يقرؤون من أجل الإطلاع، تشغلهم حمّى البحث عن الأسهل حياتياً والوصول إليه بشكل أسرع. لكن المشكلة أنَّ هذه الفئة من الناس، لديها الكثير من المعلومات حول قضايا معينّة لكن، مفهومها للحياة لا يتحسّن، المحاكمة العقليّة عندها تبقى ضعيفة، مثلاً هذه الفئة تقرأ عن الحريّة والحوار والآخرِ تقرأ عن العدالة و المرأة والطفل والنظافة وغيرها من القضايا التي لها صلة بحياة الفرد مباشرة .. لكنها لا تطوّر مفاهيمها السابقة، تبقى حبيسة أفكارها القديمة، أو الأفكار التي شكلّها النمطُ الإعلامي في هذا البلد أو ذاك. بمعنى آخر أنّ بعضهم كثير القراءة، لكن مركّبه العقليّ لم يطرأ عليه تغيّر خلال عشرين سنة من القراءة أحياناً. بعضهم يقرأ لتوسيع قاعدة الفهم لديه، قلّة قليلة من الناس لا يقبلون أن يُقال عنهم محدودي الفكر أو الفهم، لذلك يقومون بالقراءة، ويبذلون جهداً في ذلك حتى لو كان الكتاب أعلى من مستواهم الذّهني. عموماً الكاتب يحفر جزءاً من النّفق، وعلى القارئ أنْ يكملَ النّفق حتّى يلتقيا في النور. و الكتاب الجيّد هو الكتاب الذي فيه أشياء تستعصي على القراءة وعلى الفهم فيه أشياء جديدة أشياء تثير نوع من الجدل الخلاّق تحفّز على، وتُحدث نوعاً من الفهم الجديد للعالم.
القراءة غالباً ما ترتبط بالدوافع الدوافع الأولى تسمّى حاجات أساسيّة طعام، شراب، جنس.. بعدها تأتي الحاجات الثانوية و -هي ليست ثانوية بالمعنى الحرفي- لكن ترتيبها في الصف الثاني من سلّم الحاجات كالأمن، والمعرفة، والرفاهية، وغيرها.. في بعض بلداننا العربيّة قضايا التخلف الحضاريّ، والاقتصاديّ، و الأمنيّ، و التعليمي وغيرها مازالت ماثلة في الواقع، مما يجعل الفرد يلهث وراء تأمين الدوافع الأولى الأساسيّة وحسب القاعدة العامة فإنَّ تحسينَ نوع الحياة مقدّم على الكماليّات. من مفارقات الواقع في بلداننا العربيّة، أنّنا بدأنا ننعي الكتاب الورقيّ، كما نعينا المسرح قبله. كنّا نتداول العبارة التالية في أدبياتنا ” موت المسرح وموت الكتاب الورقيّ ” وكأننا كنا مؤهلين الكترونيا للبديل!
المفاجأة بالنسبة لنا أنّنا عندما قدمنا إلى هنا، وجدنا أنّ طقسَ القراءةِ موجودٌ وقائمٌ بذاته، كان يبهرنا منظر النّاس في الحافلات ومحطّات القطار، وهم يحملون كتباً، ويقتنصون لحظة الفراغ للقراءة .. هذه القضايا شكّلت حافزاً لكثير من الشباب العرب القادمين إلى ألمانيا على القراءة، أو إعادة النظر في كثير من القضايا المتعلقة بالفنّ و الأدب.. في البداية لا مشكلة مع الوقت، حالة الملل والفراغ، العدوى التي وصلت إليهم عن طريق الألمان، الرغبة الخامدة، والدوافع، والمحفزّات موجودة لكنّ المشكلة في تأمين الكتاب العربيّ في ألمانيا. من هذه الحاجات ظهرت بؤر نور تُعنى بالكتاب العربيّ كالمكتبات، والنوادي والجمعيات العربيّة التي أسستها مجموعة من الكتاب والمثقفين العرب.
معرض كتاب برلين من هنا تبدو المناسبة ضرورية للحديث عن معرض كتاب برلين الأخير الذي أقيم في أغسطس الماضي، هذا المعرض الذي كان له خصوصيته من خلال عدد الزائرين رغم صِغره واقتصارهِ على مكتبةٍ واحدةٍ وصالةٍ واحدةٍ، لكنه شكّل حالة ثقافيّة متفرّدة في تاريخ الكتاب العربيّ في برلين، وقد كان لدار الدليل للطباعة شرف المشاركة فيه، بعدد من مطبوعاتها التي خصصت فقط للعرض. عن فكرة المعرض: بدايةً يتحدّث السيّد محمد راشد حمود: صاحب “مكتبة العرب الألمانيّة” التي شاركت بالمعرض عن إنشاء المكتبة وعلاقته بالكتب.. أنا بالأساس قارئ نَهم للكتب، لكنني لم أكن أعمل في مجال الكتب يوماً ما، الفكرة بدأت “أون لاين” كشركةٍ صغيرةٍ منذ سنة ونصف تقريباً، لكن الآن أصبح لنا مقرّ مكتبة في مدينة أيسن الألمانيّة. عندما أتيت إلى ألمانيا عانيت من مشكلة الفراغ، فبدأت أملأ وقتي بالقراءة من خلال الكتب التي تتوفر لديّ، وكنتُ أجدُّ صعوبةً في تأمين هذه الكتب، منذ ذلك الحين خطرت لي فكرة تأسيس مكتبة صغيرة.. وعندما وصلت أسرتي إلى ألمانيا كنتُ قد أوصيتها على مجموعة من الكتب الخّاصة، بعد عدة أشهر قرأنا أنا وزوجتي الكتب التي بحوزتنا، وجرّبنا أن نبيعها على الانترنت.. كان لدينا بحدود عشرة كتب لسنا بحاجة لها، لكن الطريف أنَّ بيعها لم يستغرقْ سوى خمس دقائق! و حول تأثر شبابنا بالعادات التي يتبعها الألمان في القراءة أو الاستفادة من الوقت في وسائل النقل وغيرها يقول محمد: هؤلاء نسبتهم لا تتعدى العشرة بالمائة، لكن بالأساس نحن لدينا فئة قارئة من الناس، لكنها لا تظهر للعلن دائماً، عندما كنا نحضر معرض الكتاب في دمشق مثلاً، كان الحضور مميزاً ونسبة المهتمين كبيرة. وعن طريقة الحصول على الكتاب أو جلبه إلى ألمانيا يقول: هناك صعوبة كبيرة، في البداية كنا نُحضر الكتب من سوريا عن طريق الأصدقاء، بعد ذلك وجدنا أن زيادة الطلب وتنوع القارئ واهتماماته فرض علينا البحث عن مصادر أخرى للكتب، فقد صار لنا قرّاء من كلّ البلدان العربيّة، فمثلا هناك كتّاب سوريون، كتبهم غير موجودة في سورية، صار هناك طلب على الكتب العربية الموجودة في بلدان أخرى، فتوجّهنا بدورنا إلى بقيّة البلدان العربيّة وخاصّةً مصر ولبنان والأردن.. في البداية لم نتواصل مع دور النشر مباشرةً وذلك لأنّ الاستيراد مباشرةً من مؤسسة ما يتطلّب إجراءات كثيرة ففضلنا التعامل مع وسطاء وأغلبهم أصدقاء لنا في هذه البلدان. أمّا عن فرق السّعر الخاص بالكتاب، فالكتاب المستورد مكلف نوعاً ما خاصة مسألة الشحن بالطيران بالإضافة إلى الجمارك وغيرها يتطلّب عدة تنقلات، مع ذلك يبقى سعر الكتاب العربيّ قياساً مقارنة بالكتاب الألماني، أحياناً أرخص من الكتاب الألماني، بل أقلّ من الكتاب الألماني. أمّا عن نوعيّة الطلب على الكتب، فليس هناك مقياسٌ محدّدٌ، أغلبُ الشباب يتّجهون إلى قراءة الرواية العربيّة والعالميّة، أما كتب الأطفال فهي تختصّ بالعائلة وخاصة بما يتعلق بتعليم اللغة العربية ، وبالنسبة للكتاب الدّيني فالملاحظ هنا أنّ القارئ يميل إلى الكتب التي تشرحُ و تيسّر القضايا الدينية، لكن على العموم الاتجاه نحو الرواية وزيادة الطلب عليها. والمعرض الآن هو الرابع فقد أقمنا في “أيسن” معرضين و “دورتموند” كما أننّا نفكّر اليوم في تزويد المكتبات الألمانيّة بالكتب العربيّة. أمّا معرض كتاب برلين، فإن التجربة كانت ناجحة إلى حدّ ما، خلال يومين، فالشباب العرب صار لديهم اهتمام بالكتاب هنا، ولعل العامل الماديّ لعب دوراً مهماً في قضية القراءة. وشبابنا لديهم الاستعداد للقراءة ولعلّهم انتبهوا أكثر هنا نتيجة العادة لدى الألماني، الذي يقرأ في وسائل النقل، وفي الحديقة أو محطّة القطار، يحمل كتباً غير منهاجه المقرر الجامعي أو المدرسي، يمارس عادة القراءة، والتي خرجت عن نطاق الهواية لتصبح لديه عادةً، صارت إحدى العادات الايجابية المُحبّبة لديه، لكن بالمحصّلة نحن نقرأ لكننا انتبهنا الى ذلك هنا لعلنا انتقلنا الى مرحلة أكثر جدّية في القراءة. في بلادنا يمكن أن تجد شخصاً بين أربعين في حافلة النقل يقرأ، لكن هنا ربّما تجد النصف تقريباً يقرؤون ، ومهما كان القارئ العربي نهماً فإن معدّل قراءته السنوية لا يزيد عن الاثني عشر كتاباً. والقارئ العربي قارئ نمطيّ فهناك من يمتلك استراتيجية معيّنة في القراءة، القارئ العربي أحياناً يقرأ ما ينصحهُ بهِ صديقه، يقول له: قرأت كتاب كذا، فيقرؤه أحياناً ينظر ما يقرأ صديقه فيقرأ، ومنهم من يهتم ويقرأ لكاتب معين ، فهناك مثلا طلب على كتب “دان براون” وكذلك ديستو فيسكي وكتب الكاتب التركيّة “إليف شافاق” وخاصّة رواية قواعد العشق الأربعون ولأحلام مستغانمي وغيرهم. وعن رغبته في تطوير مشروع المكتبة يقول: أنا بدأت من بيتي وتطور مشروعي ثمّ صار لدينا مقرّ مكتبة في احد شوارع مدينة إيسن الرئيسة . نحن دائما في حركة تطوير ونسعى الآن لإنشاء “ويب سايت” للشراء المباشر من مكتبتنا أمّا عن إقامة المعرض والدعوة فقد تلقينا الدعوة من الدكتور “حذيفة المشهداني” مدير مدرسة ابن خلدون لتعليم اللغة العربية في برلين، والذي قام بدوره بالتنسيق مع السيد نادر خليل في المركز العربي الألماني والدكتور نزار محمود في المركز الثقافي العربي و الأدباء المشاركين في فعاليات المعرض ..
أمّا السيّد نادر خليل (المركز العربي الألماني) فقد كان له رأي حول تنظيم المعرض وعن علاقة الكتاب بالأسرة فيقول: بداية ً الإقبال على المعرض خلال يومين كان جيداً وغير متوقع بهذا الشكل، حتّى أنّ الصحفيّ اليمنيّ عبد الرّب الشقيري كتبَ (برلين تقرأ اليوم بالعربي) .. و تحدّث نادر خليل عن نشاطات المركز العربي الألماني فقال: وهو المركز الذي استضاف نشاطات وفعاليات المعرض.. ..عمَلنا في المركز يُعنى بالمسألة التربوية الاجتماعية، من خلال الرّعاية الأسرية، نقوم بزيارة العائلات العربية في منازلها، وملفت للنّظر أنّ الطفل الذي لا يتربّى مع الكتب تصبح الثقافة بعيدةً عنهُ، يصبح هناك قطيعة بينه وبين الثقافة، فعندما نزور العائلات لحلّ مشكلة ما وهذه المشاكل تأتينا من مراكز رعاية الشباب من محاكم الأحداث وغيرها فإننا نزور الأهل والأسرة، حتى نكوّن فكرة عن البيئة التي يعيش فيها الشّاب، أو الطّفل عندما نزور هذه الأسر نلاحظ “الصالون الفخم أو التلفاز الضخم” لكن لا نجد رفوف الكتب، أو طاولة القراءة، نحن نعرف أنّ الكتاب منبعُ النور والمعرفة، وعندما يكون الكتاب بعيداً عن الإنسان يعني أنّ هناك مشكلة معرفية ثقافية تربوية. عندما قمنا بفكرة المعرض، كنّا نقول إننا إذا نجحنا فستكون سابقةً في برلين. و من خلال تجربتي في ألمانيا التي تقارب الأربعين عاماً منها 25 عاماً في العمل الاجتماعي، لم أشهد خلالها معرضَ كتاب عربيّ في برلين. وحول فكرة المعرض تناقشنا نحن هنا في المركز ومدرسة ابن خلدون لتعليم اللغة العربية و شركاؤنا في الفكرة وكان السؤال التالي هل لدينا مكتبة عربية في برلين؟ حقيقةً لم نجد.. فكان التواصل مع السيد محمد راشد صاحب المكتبة العرب الألمانية، ونحن نعلم ونعي أن الكتاب عالمياً وليس عربياً فقط في محنة، بسبب الميديا والتّوجه إلى القراءة الالكترونية. كانت المخاطرة في هذه القضيّة أن أصحاب المكتبة الذين سوف يقومون بالمعرض سيأتون من مكانٍ بعيدٍ، وهذا يترتّب عليه تكاليف وتعب سفر ولا نستطيع نحن هنا التنبؤ أو تحديد حجم الإقبال على الكتاب. نحن الآن تفاجئنا بهذا الإقبال، وإذا كنت أقول لك إنني توقعت هكذا إقبال أكونُ بالغتُ في ذلك . هذا النجاح الذي نشهده الآن ايجابي بامتياز، بعد هذا الحدث يمكن أن نقيّم ما قمنا به والنتائج الايجابية له نودّ أن نجعله منه إذا استطعنا حدثاً سنوياً مرّة أو مرتين في السنة ، لكن هذا المشروع اليوم كان تجربة، ونحن نبني عليها بعد التقييم، كما كان لدينا البرنامج الثقافي المرافق للمعرض .. حقيقة شيء جميل أن تجد الكتب العربية في متناول اليد اليوم ونحن كنّا نجلبها من الدول العربية أو نوصي عليها من يسافر إلى هناك والمعرض والحركة الثقافية الاجتماعية ضمن أهداف المركز العربيّ الألمانيّ. نحن نعوّل على مسألة القراءة، ووجود الكتاب في حلّ بعض مشاكل الشباب، نحن نسأل دائماً هل نبدأ من الشاب أم من الأسرة؟ و هذا التنوع في الكتاب بحدّ ذاته يشكل حلاً لمشاكل الأسرة والشباب، هناك كتب لتعليم العربية وهذا أحد الحلول لإحدى مشاكل أسرنا هناك كتب تربويّة ودينيّة وغيرها. وعملنا هذا يصنّف على المستوى الثقافي، هناك فئة لم تصلها الرّسالة الثقافية من الأهل بسبب الحرب وغيرها. نحن نقول هنا ضمن قاعدة إنّ الشّاب إذا كان مثقفاً بالعربية، تسهل عليه الثقافة الألمانية وأن يكون عضواً فعالاً في المجتمع الجديد، وفي المحصلة الثقافة ثقافة وإن اختلفت اللغات.
أخيراً يذكر أنّه ضمن فعاليات المعرض، وعلى يومين متتاليين، كان هناك نشاطات أدبية وفنيّة مصاحبة، فقد كان هناك محاضرة للدكتور نزار محمود ” حوار الثقافات في برلين ” كما قرأت الشاعرة باسلة صبيحي عدداً من قصائدها باللغة المحكية، وللشاعرة أشجان الشعراني أيضاً أمسية شعريّة ، كما كان لي شرف المشاركة بأن قرأتُ عدداً من قصصي حيث رافقني الفنّان محمود فيّومي عازفاً على الناي.