اقتراف المَحظور في رواية “خيانات لم يرتكبْها أحد”

موسى الزعيم
في الفترة الأخيرة دخلتِ الرواية العربية في مُنعطفات سرديّة جديدة، نتيجة الأحداث السياسية المتسارعة في المنطقة العربية وعبر أحداث الربيع العربي وما صاحبه من ثورات وصعود قوى سياسية محلّية غيرت الكثير من الرؤى والمفاهيم.
من هنا جاء الدور الجديد للرواية، ليس كوسيلة تقليدية للسرد والحكي وإنما صار لزاماً عليها الخوض في موضوعات أكثر قرباً من هذه التحولات والتغييرات التي طالت البنى السياسية والأيديولوجية للمجتمع العربي، لعل ذلك يساهم في فهم الواقع الحالي أو يقدّم مراجعة نقدية داخلية للواقع الجديد.
ما يُحسب للرواية العربية وخاصّة السورية، تبعاً لوضعها الخاص على صعيد المكون الديني إن كان على مستوى الحيّ الواحد أو المدينة.
من هنا بدأت الرواية العربية تدخلُ إلى أماكن كان محرّم عليها ولوج أبوابها، من منطلقات واعتبارات كثيرة، منها ما يتعلق بطبيعة هذا المكون الإثني وعدم رغبته في الانكشاف على الآخر، أو لاعتبارات تتعلّق بفكرة الغموض والسيطرة، وبالتالي ما يُحسب لمرحلة الثورة السورية أنّها فتحت الباب أمام هذا النوع من السرد الروائي، من منطلق فهم الآخر الذي عمل النظام لسنوات على شيطنته وتغريبه.
لم يكن الدخول فقط إلى عتبة هذا المحظور، بل التجول داخل ذهنيته ودهاليز أفكاره، و محاولة استجلاء ما هو إنساني جامع فيه، وبالتالي محاولة نقده من الداخل، رغم أن ذلك يحمل الكثير من المحاذير.
لكن هذا الكشف الذي اقترفته الرواية، يُجيب على أسئلة كثيرة، شاغلة لبعض الأطراف من خلال تقديم رؤى نقديّة خلاّقة، تحاول الوقوف على الانكسارات التي طالت الانسان العربي وخلّفت الكثير من الأزمات ضمن المجتمع الواحد، حتى طال نسيج الأسرة الواحدة على مستوى الكرامة والثقة، ما سببت شرخاً كبيراً في البنية المجتمعة الداخلية.
من هنا جاءت رواية “خيانات لم يرتكبها أحد” للكاتب والشاعر السوري محمد ديبو، والتي ترصد واقع مكوّن اجتماعي سوري هو ” الطائفة العلوية” من الداخل وبصوتٍ جاهدَ أن يكون حياديّا.
جاءت الرواية في أربعة فصول “خيانات لم يرتكبها أحد” “الحبّ الخطأ” و”ربيع الحقيقة وربيع الحبّ” والفصل الأخير “لا وجود للنسيان”.
ما يميّز الرواية أنّها جاءت كصوت من قلب الطائفة أو ربما “العاصفة” صوت يمثّل حالة الرفض العقلاني النقدي لما يحدث.
ومن خلال رؤيا نقديّة فاحصة، جاءت كعدسةٍ مكبّرة، سلّطها الكاتب على مكونات المجتمع العلوي، الذي وقف في وجه الثورة السورية واستخدمه الدكتاتور كسكين، يطعن بها كلّ خصومه.
في نظرة عامّة أولية تبدو شخصيات الرواية وكأنّها تجلس في حافلةٍ فقدتْ مكابحها، يقودها سائق أهوج، ولا خيار أمام ركّاب هذه الحافلة إلاّ الانصياع لتعليماته، لأنّ أيّة مُحاولة لتبديل هذا السائق أو القفز خارج الحافلة، سيكون محكوماً بالموت، مع يقين جميع ركابها برعونة القائد، وخطورة الموقف، وأيّة محاولة للتفكير خارج ذلك، يُعتبر خيانة، لا بل تحول القائد إلهاً ومصير الجميع معلّق بيده، لكن لابّد من محاولة.. وحتى المحاولة ستبدو فيما بعد خيانة.
تفتح الرواية الباب على هذه الفئة من المجتمع السوري، الفئة التي أغلق عليها الدكتاتور الباب “سياسيا” وفتح لها باب السلطة والثراء، و ليصادرها تحت ذريعة دينية هي “أنّ المكون السنّي سوف يفتك بالعلويين” في حال سقوط النظام، لذلك عمل على إقناع رجال الدين عبر أدواته المخابراتية أنه يستند إلى سلطة إلهية وبقاء الطائفة مرهون ببقائه والمعيار في ذلك هو الولاء المطلق.
يمتلك الراوي زمام المكان والزمان الذي يعيش فيه وهو جزء منه وهذا ما سمح له أن يتحرك في بيئة الحدث بحريّة على الصعيد ” الزمكان” والناس أيضا، لذلك كان الأقرب والأصدق في رصد التحولات داخل مسارات حياة المجتمع بجرأة، ما عزّز ذلك استناده إلى أحدث حقيقية، كأحداث حماة في الثمانينات وارتكازه على شخصيات حقيقية عبرت السياق التاريخي السوري، في مرحلة ما بعد الاستقلال وصعود حزب البعث.
من جهة أخرى ما يميّز الرواية من أولها حتى آخر متن في السرد أنها مشغولة بالكشف، الكشف الذي يأتي من خلال الإنسان وإعادة اكتشافه والغوص في عوالمه ورصد هواجسه في زمن مُحدد وهو زمن الثورة السورية ومكان معلوم هو الساحل السوري.
من هنا تبدأ الرواية في سردية دينية تاريخية، حتى تصل زمنيا إلى بداية الثورة السورية 2011 .
تخوض الرواية في الأحداث السياسية لسوريا عبر قرن من الزمن تقريباً من خلال أسرة يشغلها الصراع الداخلي بين أفرادها ليكون مرآة لصراع أيديولوجي أكبر على مساحة سوريا، وإن كانت الرواية تعود قليلاً، ترتكز على الأحداث التاريخية للطائفة العلوية ومن خلال مظلوميتها في الهجرة من بغداد وحلب وصولاً إلى الساحل السوري واستقراها هناك.
والأسرة التي هي موضوع الرواية تتوارث هذه الانقسامات الأيديولوجية عبر أجيالها حسب طبيعة المرحلة حتى يبدو هذا الانقسام واضحاً مع تصاعد وتيرة الأحداث في سوريا.
أما النقطة المفصليّة التي أشعلت أحداث الرواية، فهي مقتل حمزة أو “استشهاده” وهنا تبدأ المراجعة السردية للأحداث نحو الماضي والحاضر وهواجس المستقبل.
إذ أن حمزة يُوسم “بالخائن” ما يضع الأسرة في موقف حَرِج يصل إلى حدّ النبذِ في المجتمع ذي الصبغة الواحدة، حادثة وفاة حمزة، تفتح الباب على مراجعة نقديّة تاريخيّة لتاريخ العائلة والمنطقة مراجعة شخصيّة لخصوصيّة حمزة ذي النوازع المثليّة المكبوتة.
يُقتل حمزة ويُسجل في شهادة الوفاة أنّه مات بسكتةٍ قلبيةٍ، في حين أصرّت أخته الطبيبة مريم على كشف سرّ وفاته، وكان لها ذلك مع رفاقه، لتجد أنه قُتل بثلاثِ رصاصات بسلاح أحد الشبيحة الذي كان يريد أن يغتصب امرأة في حمص بينما حاول حمزة منعه من ذلك. من خلال هذا الكشف، تسجّل مريم اعترافات صديقه الشبيح سامر، لتكشف من خلال ذلك حجم الجرائم التي يقترفها عناصر الدفاع الوطني، أبناء محيطها الاجتماعي، في حين أن والد حمزة حسن الرجل البعثي صاحب الباع الطويل في النضال السياسي والحزبي الذي آمن بالفكر العلماني عبر البعث، ينتكس باتجاه كتبهِ الدينية ويعتزل، لعل الطريق نحو الدين أفضل طريق لمداراة تهمة الخيانة التي لحقت بعائلته، وليجد لنفسه مبرراً في اعتزال الناس.
أمّا محمود الذي آمن وناضل عبر الفكر الماركسي وقد ساندته في ذلك زوجته روزا، والذي وجد فيه والده الشيخ إبراهيم خيرُ حافظ وأمين على إرث العائلة الديني وكتبها وجدت رزوا في ذلك خيانة لمبادئه الماركسية خاصة وأنه لاقى الكثير من المعاناة والتعذيب والملاحقة على يد أبناء السلطة وخاصة أخيه فوّاز الذي كان الذراع الأقوى للقائد “رفعت الأسد” في سرايا الدفاع. فوّاز يمثّل الجانب البراغماتي من أبناء السلطة، فقد دفع بكلّ شيء من أجل البقاء في مكانته “لا يتورع عن اعتقال أخيه أو إهانة أمه أو أن يُستباح جسد زوجته” مقابل تعطّشه للسلطة والمال أو رضا القائد الذي يختبر ولاءه بين والأخر.
وباعتبار أن الانسان العربي مازالت تجربته الديمقراطية أو الحزبية ضعيفة، إذ لا قانون يحميه في حال انتكاسه، فكان لابدّ من حضن يلوذ به وفي كثير من الأحيان يتمثل هذا الحضن بالطائفة أو العشيرة. وهو من جهة ضائع بين فكرة المشتهى ” قيم الحرية والديمقراطية والعدالة” خاصّة بعد الثورة الإعلامية العالميّة والقدرة على التواصل وتبادل الأفكار، ومن جهة أخرى بين الوحوش التي تنتظره، أذ ما خطى خارج السور، هو مُمزق بين أن يكون إنسانا أو يكون أداة في يد الجلاد، أو تحت إمرة رجل الدين.
هذا ما حدث في الرواية مع “حسن ومع محمود وسامر و بكر” وغيرهم من شخصيات الرواية. شخصياتٌ شديدةُ الخصوصية، تكشف الرواية دواخلها و من خلالها تعكس الهواجس الفردية ضمن الجماعة و الصوت الناقد من الداخل هذا الصوت المخنوق الذي يعبّر عن أزمات متراكمة في هذا المجتمع، ويقدم صورة صادقة على نوازعه المغيّبة بفعل السلطة القمعية المتغيرة.
كانت الطبيبة مريم المُحرك العام للأحداث منذ بداية الرواية حتى نهايتها، مريم التي كانت مخاوفها وهواجسها حاضرة دائماً. “فثمة امرأتان تتصارعان داخلها مريم قبل مقتل أخيها حمزة، والثانية ما أصبحته بعد مقتله، بين الصورتين كانت مريم تتمزّق وحيدةً محمولةً على غيوم سوداء”
وهي التي ساهمت في الكشف عن الكثير من الأحداث وشكّل وجودها مرجعيّة للسرد في الرواية بشكل عام، فمن خلال علاقتها بأبناء عمها مهيار ومكسيم، تكشف عن الجانب الثوري المخفيّ حولها حيث انتهج مهيار مبدأ “اللاعنف” والعمل السلمي والمدني، والذي وقد مات نتيجة ذلك أما مكسيم فقد دخل السجن، بسبب معارضته لأفكار السلطة القمعية.
في حين تكشف مريم عن شخصية سامر الشبيح وما فعله من قتلٍ ونهب وله في ذلك مبرراته الدينية والأيديولوجية.
بشكلّ عام كانت شخصيات الرواية أسيرة واقعها، تتحرك في إطار حِذر، شكّل ذلك هويّة سردية للجماعة، تتسم بجاسوسية الفرد على الكل، وسلطة الجماعة على الفرد.
من جهة أخرى هذه الشخصيات كانت دائماً تحاول تحديث الواقع وتغييره، لكن كلّ حسبَ مُخططه وايديولوجيته، لكنها كانت تخوض صراعاً دمويّاً مع الأطراف الأخرى، شخصيّات مرتبكةٍ قلقة مواربة، نادراً ما تنتصر لما هو إنساني، ربما الشخصية الوحيدة في الرواية “حبق” الأم التي كانت تنتصر لأمومتها، حتى مريم كانت بطريقة ما أسيرة انتقامها حين قتلت سامر.
جاء عنوان الرواية “خيانات لم يرتكبها أحد” حمالاً للتأويل، يطرحُ تساؤلاً كبيراً، قبل الشروع بقراءة المتن، وبالتالي يحمل بعداً إدهاشياً تحريضياً دافعاً على الحفر والتنقيب، من جهة أخرى يرتبط العنوان بمرحلة الثورة السورية والانزياحات الكثيرة التي حدثت على المستوى الشخصي والوطني، وبالتالي عبر متن النص، تتفكك دلالة العنوان، لنجد أن عدداً كبيراً من الخيانات عبرت متون السرد، خيانات للطائفة والمبادئ والوطن وغيرها .. لكن هذه الخيانات لو نظرنا إليها من زاوية أخرى لوجدناها كمن يقف على مفهوم “الشهادة” بين طرفين متصارعين، فما يصحّ هنا لا يصح هناك، إذاً فالخيانة هنا ليس بالضرورة أن تكون خيانة هناك، وبالتالي ربما تكون المحصلة صِفراً، كما هو الحال في اختفاء مريم في نهاية الرواية، إذ أن اختفاءها لم يرجّح كفّة على أخرى، وبالتالي هل كان هذا الاختفاء انتصاراً لذاتها وأفكارها أم لحبّها الأول المتمثل بالآخر ” بكر” ابن المكوّن السنّي، أم كان ذلك خيانة لطائفتها، وبالتالي قفزت من الحافلة إلى المجهول.
من جهة أخرى فأنّ الكاتب يمسك زمام السرد، ويقود الأحداث عبر تفصيلات كثيرة وحبكة متماسكة، في تصاعد درامي مستمر، جاء عبر لغة سرد مشحونة متصاعدة من خلال منولوجات متداخلة من أجل كسر نمطيّة الصوت الواحد أو الراوي العليم، واتباع أنماط سرديّة متنوعة، تتلوّن بين السرد العامي” كلغة بيضاء” لم تُغرق في المحكية الساحلية، بل بقيت على مسافة واحدة من المتداول “السوري” وأحسب أن الكاتب استطاع تجنيب عمله الروائي الوقوع في مزلق “اللهجة” المحكية لأنّها كانت إحدى وسائل القمع وقد ارتبطت بالذاكرة السمعية السورية خلال فترة حكم الدكتاتور.
تقع الرواية في 430 صفحة صدرت عام 2025 عن دار رياض الريس للطباعة والنشر في بيروت.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
محمد ديبو: كاتب وشاعر سوري مقيم في ألمانيا.
.