أحلام هنري كيسنجر : رؤية في مستقبل الصراع الحضاري العالمي
د. زاحم محمد الشمري
كثيراً ما تحدث المرء ومنذ الازل عن الصراع الحضاري الديني بين الغرب المسيحي والشرق المسلم … ومن أجل تاجيج وإدامة هذا الصراع يتم التصوير في الحديث الى كيفية أو قدرة الحضارة الإسلامية الآتية من الشرق آنذاك على ابتلاع الحضارة المسيحية الغربية وتغيير البنية الاجتماعية للقارة الباردة، خاصة بعد أن أصبحت الامبراطورية الإسلامية مترامية الأطراف وقضت مضاجع المسيحية المتطرفة في بلاد الاندلس، لتدق بذلك ناقوس الخطر القادم من الشرق … وعليه فقد أعلنت أوربا “المسيحية” في القرون الوسطى حربها الدينية المقدسة – الحروب الصليبية عام 1100 – ضد المسلمين في الشرق بعد اتهامهم بالكفر والبربرية، رغم انهم نقلوا اليها كنوز العلم والمعرفة في جميع مجالات الأدب والعلوم الطبيعية. وهكذا بدأ الصراع يسير في حيز الشد والجذب مع علو كعب القوى الغربية التدريجي على مر العصور وتقهقر القوى الإسلامية وتراجعها الى الخلف، ليس في المجال الحربي فحسب وانما في جميع المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية والعلمية والاجتماعية.
وفي خضم هذا الصراع الحضاري “الديني” بين ما يسمى بقطبي الكرة الارضية – الغرب المسيحي والشرق المسلم – ونتيجة للظلم والاضطهاد والاستبداد والحرمان والتهميش الذي عانى منه المواطن الاوروبي من قبل الحكم الصارم للكنيسة آنذاك، ظهرت اصواتاً من الادباء والمثقفين تنادي باطلاق الحريات، والاصلاح الاجتماعي، ورفع الحيف عن المواطن، وفصل الدين عن الدولة، في الوقت الذي بدأت فيه أوروبا نهضتها الادبية الفكرية الثقافية والعلمية الصناعية بعد أن تاثرت وأثرت في الحضارة والعلوم الإسلامة من خلال ثورة الترجمة التي شهدتها بلاد الاندلس أبان الحكم الإسلامي. وقد تطور الحراك الفكري الاوروبي المطالب بالتغيير والاصلاح الى حركة فكرية روحية تخاطب العقل البشرية سميت بـ “حركة التنوير” التي اخذت من الحضارة والفكر الإسلامي الشيء الكثير لتقويم افكارها، حيث وصلت هذه الحركة الى ذروتها في التأثير بالقرن الثامن عشر، ونتج عنها عدة ثورات في أوروبا من أبرزها الثورة الفرنسية عام 1889 التي هيأ لها عظماء المفكرين والفلاسفة الفرنسيين رواد حركة التنوير من بينهم “فولتير”.
استطاعت حركة التنوير الاوربية بعد نضال مرير أن تشق طريقها الى قلوب الناس وتغير الوجه الديني للمجتمع الاوربي وسط اصرار الكنيسة على مواصلة خطابها الديني “الكلاسيكي” الذي أمسى لا يتلائم وروح العصر والثورة الصناعية التي شهدتها أوروبا آنذاك. وقد نصح الكثير من المفكرين والفلاسفة الاوربيين الكنيسة بتحديث خطابها الديني بما يتلائم وروح العصر وفكر “حركة التنوير” الذي يحمله الجيل الجديد، وحذروها من العزلة بالمستقبل في حال الاستمرار بنهجها.
وبعد ان اقترن فكر “حركة التنوير” بأهداف “الثورة الصناعية” التي اجتاحت اوروبا بأسرها تم الاعلان عن ولادة حضارة جديدة عن الحضارة المسيحية “الام المتدينة” تسمى حضارة التصنيع أو “حضارة التقنيات” اذا صح التعبير – كما يسميها الكاتب إرش بوينس في مؤلفه “هل الجميع يؤمن بنفس الرب؟” سنة 1969 – التي تؤمن بصورة علنية بحرية الفرد، وحرية السوق، وحرية “الرأي والتعبير والمعتقد”، بالاضافة الى الانفتاح على الاخر لتامين الاسواق لمنتجاتها خارج القارة الاوروبية مقابل الحصول على المواد الخام، فاصبح لزاماً على هذه الحضارة الوليدة أن تحجم دور الدين بكل الطرق والوسائل الى درجة انها حولت الكنائس الى تحف اثرية يرتادها السياح والناس في المناسبات الدينية فقط أو لمن يريد أن يتقرب الى الله بعد أن أصبح كهلاً وقاب قوسين أو أدنى من الموت، وتحول البابا الى نموذج للتسامح والتعايش السلمي بعد أن كان اباً راعياً للحروب.
وبذلك استطاعت “حضارة التقنيات” أن تجفف الى حدٍ ما منابع “المسيحية” كحضارة دينية أوروبية مسيطرة فكرياً واجتماعياً وسياسياً وأقتصادياً، وأن تحجم ايضاً “اليهودية” كدين، نتيجة لما تعرض له اليهود في أوروبا سابقا من قتل وتشريد وإبعادهم الى الشرق، وقد ساعدها في ذلك أيضاً قيام رجال الدين اليهود بتحديث التوراة بما يتلائم وعقلية الجيل الجديد لكل عصر من العصور، وكذلك ظهور التيار السياسي اليهودي الصهيوني المتطرف ذو الدهاء والذكاء الذي يهمين على رأس المال العالمي وينادي بإنشاء وحماية الوطن القومي لليهود في الشرق والعمل على توسيعه كما يقول علناً رجل الدبلوماسية الامريكي السيد هنري كيسنجر وزير الخارجية الامريكي الاسبق، اليهودي الصهيوني الاصل الذي يبلغ من العمر ما يقارب التسعين عاماً، في خطاباته وكتاباته حين يعبر عن أحلامه في الهيمنة على الشرق، دون مراعاة للعرف الدبلوماسي والعلاقات الدولية، أو احترام لمشاعر أصدقاء وحلفاء الولايات المتحدة الامريكية من العرب، ودون خوف ايضاً من ردة الفعل التي أثرت سلباً على سمعة ومصالح أمريكا في العالم العربي والإسلامي، إذا ما أخذنا بنظر الإعتبار رغبة البلدان العربية وجديتها باقامة علاقات طيبة مع دول الغرب ومنها الولايات المتحدة الامريكية مبنية على الاحترام المتبادل والتعاون المشترك لما فيه مصلحة الشعبين الصديقين العربي والغربي .
وأدى هذا الامر الى اقتران مصلحة حضارة التصنيع الغربية برأس المال اليهودي والفكر الصهيوني المتطرف لإدامة وقيادة الصراع في الشرق الاوسط تحت مسمى “العولمة” من خلال خلق التوترات والازمات السياسية والاقتصادية التي ساعدت بفرض الهيمنة الغربية على دول المنطقة العربية لتحقيق عدة اهداف منها: أ) الانتصار “الافتراضي” للمسيحية كدين على الإسلام، واستخدام ذلك كحجة أو ورقة رابحة لتاليب الشارع المسيحي واستعطاف الناس في الغرب وكسب ودهم وتاييدهم للفوز في الانتخابات، التي تتقدم اليها فقط احزاب معروفة ومدعومة على الساحة السياسية، واعلان الحروب ضد دول الشرق المسلمة والتدخل في شؤنها الداخلية. ب) الهيمنة على الثروات النفطية في الشرق بالقوة. ج) اعادة رسم خارطة المنطقة باستمرار. د) ضمان وجود الاسواق المستهلكة للسلعة الغربية الاغلى سعراً ألا وهي السلاح. هـ) نشر ثقافة العولمة “التقنيات” في المجتمعات الإسلامية بدل الثقافة الإسلامية وتعطيلها في إطار حركة التبشير التي من جملة افكارها العملية السماح لعدد كبير من المسلمين بالهجرة الى أوروبا وأمريكا لمحاولة تطبيعهم ومسح هويتهم الاسلامية خلال تعاقب الاجيال ودمجهم في المجتمع المسيحي العولمي الذي تعمل من أجل صيرورته حضارة التصنيع، بحيث يكون للانسان وطن محدد بحدود وله اسم معين ولكن له ثقافة وحضارة عالمية واحدة فقط بمنعزل عن المعتقد الذي سيكون مهمشاً أو هامشياً وتحصيل حاصل للواقع الذي يعيشه الفرد في مجتمع العولمة الكبير.
وبناءً على ما تقدم فقد استلمت “حضارة التقنيات” التي عُرفت في مفهومها الحديث بـ “العولمة” زمام قيادة الصراع بين أوروبا “الصناعية” والشرق المسلم “المتدين”، حيث أخذ الصراع اشكالاً وصوراً وابعاداً مختلفة خاصة بعد الحربين العالميتين الاولى والثانية، وقد ساعدها التطور التكنولوجي الهائل والسريع في جميع المجالات على اعادة احتلال وتقسيم منطقة الشرق الاوسط “الوطن العربي” ونشر ثقافتها في المجتمعات الإسلامية، ثقافة حديثة لايمكن للفرد الاستغناء عنها، بحيث اصبحتْ تغذي الإنسان المسلم بشكل عام والعربي على وجه التحديد بصورة مباشرة أو غير مباشرة بكل الأشياء التي يحتاجها أو يتمناها، لتكون حضارة جاذبة تستهوي الإنسان، أمام تراجع الحضارة الإسلامية الدينية وتخندقها “طائفياً” مع تمسكها بالخطاب الديني الكلاسيكي الوعظي المتكرر غير القابل للتحديث أو النقاش أو النقد وعلى غرار ما كانت تفعله الكنيسة في سابق عهدها في القرون الوسطى، الذي ساعد على تحويلها الى حضارة دينية مهزومة ومستهلكة لما تنتجه “حضارة التقنيات” التي تعد من قبل المسلمين الوجه الآخر “للمسيحية” تؤمن بأن هناك غرباً منتجاً وشرقاً مستهلكاً تعصف به الازمات والتوترات السياسية والاقتصادية والتناحر الطائفي والعرقي المقيت بسبب افراغ المؤسسة الدينية من العقول – مع بعض الاستثناءات – القادرة على التنظير والابداع بما يتلائم وروح العصر كما كان في عصر صدر الإسلام وعصر الامبراطورية الإسلامية التي فرضت سيطرتها على العالم في فترة من الزمن.
إن حضارة التقنيات العالمية المتمثلة بالمسيحية العلمانية الامريكية والاوربية والتيار اليهودي الصهيوني المتطرف ما زالت تقرع طبول الحرب لتفرض هيمنتها بشكل كامل على العالم وخاصة العالم العربي المسلم، حيث أمست الدول الإسلامية تتساقط امامها الواحدة تلو الاخرى بسهولة وبسرعة منقطعة النظير كثمار الصيف الناضجة وكأنها لا تعي ذلك. وهذا ما أكده السيد هنري كيسنجر منظر ومهندس السياسة الخارجية الامريكية والعالمية في مقابلة اجرتها معه صحيفة “ديلي سكويب” الامريكية ونشرت على صفحتها الالكترونية بتاريخ 27/11/2011، والتي لم تخلو من التعبير عن أحلامه الوردية الاستفزازية والتهديد والوعيد والسخرية من ابناء الشرق، بقوله: “إن طبول الحرب تقرع الان في الشرق الاوسط وبقوة ومن لا يسمعها فهو بكل تأكيد “أصم”.”
وربما يقودنا الصراع الحضاري العالمي هذا – اذا لم يكن التغيير سلمياً – الى الدخول في حرب عالمية ثالثة، حسب رؤية السيد كيسنجر للأحداث، تسفك فيها أنهار من دماء الأبرياء وتدمر الكثير من البلدان أو تختفي من الخارطة العالمية لكي تفرض الحضارة الأقوى نفسها على العالم بالقوة، والتي يسميها كيسنجر بحضارة “السوبر باور” لكي يتم على اساسها بناء مجتمع عالمي جديد تكون القوة المسيطرة عليه قوة واحدة والحكومة التي تحكمه حكومة واحدة هي الحكومة العالمية، حيث ان التمهيد للمعركة الحاسمة الفكرية كانت أم الحربية استدعت من الغرب “احتلال سبعة دول في الشرق الاوسط نظراً لاهميتها الاستراتيجية لنا” – يقول كيسنجر – “خصوصا انها تحتوي على البترول وموارد اقتصادية أخرى، ولم يبق إلا خطوة واحدة”.
ويُضيف كيسنجر ايضاً بأن الحرب ستبدأ بضرب ايران، وعندما تتحرك روسيا والصين بعد أن يصحيا من غفوتهما عندها سيكون “الانفجار الكبير” والحرب الكبرى التي لن تنتصر فيها سوى قوى واحدة فقط هي “السوبر باور” المتمثلة بأميركا واسرائيل، وسيكون على اسرائيل القتال بكل ما أوتيت من قوة وسلاح لقتل اكبر عدد ممكن من العرب واحتلال نصف الشرق الاوسط.
ويشير هنري كيسنجر الى انه “اذا سارت الامور كما ينبغي فسيكون نصف الشرق الاوسط لاسرائيل”، مؤكداً على انه تم تدريب فتية من الشباب في اوروبا وامريكا تدريبا جيدا على فنون القتال خلال العقد الماضي بالشكل الذي جعل لديهم القدرة على الخروج الى الشوارع لمحاربة تلك “الذقون المجنونة” وتحويلها الى رماد حين يتلقون الاوامر ويطيعونها، موضحا بان ايران وروسيا سيسقطان والى الابد بعد ان تم منحهما الفرصة للتعافي والاحساس الزائف بالقوة وسيبنى مجتمعا عالميا جديدا تقوده قوة واحدة هي “السوبر باور” … “وقد حلمتُ كثيراً – يقول كيسنجر – بهذه اللحظة التأريخية”.
وهذا يعني ان القائمين على الصراع الحضاري العالمي بين العلمانية العالمية والتدين العالمي مستمرين في نهجهم ولا يقبلون بانصاف الحلول – حيث يتمنى الآخرون – لانهاء المعركة الفكرية والحربية، ذلك لانهم يرون بانهم يسيرون على الطريق الصحيح لتحقيق الاهداف التي نشب الصراع الحضاري العالمي من اجلها بعد ان انهارت امامهم اقدم الحضارات الدينية “اليهودية” و “المسيحية” واصبحت رمزية الى حدٍ ما، ويعدون قيام “ثورات الربيع العربي” مؤخراً هي احدى نتائج الصراع الفكري الايجابية لتغيير ثقافة المجتمعات الشرقية بثقافة جديدة هي ثقافة “العولمة” التي لاتقف عند حد معين.
ويرى قادة الصراع ايضاً بأن مجيء الاحزاب الدينية الى السلطة في دول الربيع العربي سوف يكون له نتائجه الايجابية التي تخدم هيمنة ثقافة العولمة وتقصر من عمر الصراع الحضاري، ذلك لان هذه الاحزاب سوف لن تستطيع أو يسمح لها بأن تقدم ما هو جديد وراقي الى المجتمعات التي جاءت بها الى سدة الحكم، لسبب بسيط: لانها جاءت في زمن غير زمنها، بالاضافة الى انها لاتمتلك الادوات والوسائل الفكرية والعلمية العملية التي تجعلها تلحق بركب الحضارة الجديدة أو تكون نداً قوياً لها، لسبب بسط ايضاً: ذلك لانها ولدت من رحم التخلف الفكري والحضاري الذي خلفته الانظمة الدكتاتورية المتعاقبة التي كانت تحكم قبضتها على بلدان الربيع العربي، والتي استطاعت ان تهمش كافة الاحزاب المنادية بالتغيير والمشاركة في الحكم، وجردتها من مؤسساتها وحجمت دورها فكريا وسياسيا واقتصاديا وثقافيا، وجعلتها تعيش في المهجر بمنأى عن الحراك السياسي والاجتماعي الذي يطور من قابليات وقدرات كوادرها في قيادة الدولة ووضع القوانين والانظمة الناجعة “بتجرد” – مع بعض الاستثناءات -، التي تنظم ادارتها السليمة لجميع مرافق الحياة الاجتماعية الحيوية للدولة.
وعلى هذا الاساس يقول هنري كيسنجر أحد أبرز المنظرين لحضارة العولمة المنتجة فكرياً وسياسياً واقتصادياً وقادة الصراع الحضاري العالمي في الغرف الموصدة في تفسيره لاحداث المنطقة: “فاليفرح الاسلاميون … إذا ما استمر الحكم الديني، وسارت الامور كما ينبغي فسيكون نصف الشرق الاوسط لاسرائل.” ويعني بذلك ضمن ميثاق حضارة العولمة الجديد التي ستستهوي الاجيال الجديدة المتعاقبة بشكل لا شعوري وتؤطر أفكارهم بمفهومها العام بحيث يصبح الدين بالنسبة للفرد تحصيل حاصل لواقع الحياة الاجتماعية التي يعيشها والتي لم يالفها آباءه واجداده، وكما نراه اليوم في المجتمع الغربي الذي يحتوي على خليط اجتماعي من مختلف العرقيات والاديان، وهو بحد ذاته نموذج مصغر لمجتمع حضارة العولمة الذي نراه يلوح في الافق … فهل أحلام هنري كيسنجر حقية أم نسج من الخيال؟