المسلمون في الغرب وتحديات الحاضر

علاء بيومي

بعد سقوط الإمبراطورية الرومانية وبداية العصور الوسطى، لم تكن العديد من النصوص القديمة متاحة للأوروبيين. كان الوضع على العكس تمامًا في الشرق، ترجمت العديد من النصوص الإغريقية (كأعمال أرسطو) من اليونانية إلى السريانية في القرنين السادس والسابع. العديد من تلك النصوص حفظت وترجمت وتطورت في العالم الإسلامي، وخاصة في مراكز العلم كالقاهرة وبغداد التي كان بها “بيت الحكمة”، الذي ضم الآلاف من المخطوطات بحلول عام 832. تُرجمت تلك النصوص مرة أخرى إلى اللغات الأوروبية في العصور الوسطى. كما لعب الشرقيون دورًا هامًا نقل تلك المعرفة إذ نشطوا في الترجمة من اليونانية إلى السريانية ومن ثم للعربية وخاصًة في عهد الدولة العباسية.

وساهم العالم الإسلامي بمساهمات عظيمة في الجبر والكيمياء والجيولوجيا حساب المثلثات الكروي، وغيرها، ومنه انتقلت إلى الغرب.

اهتم الأوروبيون بالفلسفة الإغريقية والنصوص العلمية ، التي لم تكن متواجدة باللاتينية في غرب أوروبا، ولكنها حفظت وترجمت إلى العربية في العالم الإسلامي. و كانت الأندلس وجنوب إيطاليا أكثر المناطق انتاجًا في نقل العلوم، نظرًا للتقارب بين العلماء متعددي اللغات. ترجم هؤلاء العلماء العديد من النصوص العلمية والفلسفية من العربية إلى اللاتينية.

وتراجع العرب وتقدم الغرب في العلوم والسياسة، وبعدها بدأ عصر الاستعمار الغربي.

حركة مراجعة الذات الغربية في علاقتها بالشرق

وتقدِّم نظريات “ما بعد الاستعمار” تصوراً هاماً لما يمكن وصفه بالدور التاريخي لمسلمي الغرب، باعتبارهم الحلقة الأحدث في سلسلة “حركات مراجعة الذات الغربية في علاقتها ببلدان الشرق وشعوبه” التي تؤصل لها تلك النظريات. وتتنبأ نظريات “ما بعد الاستعمار” بعدد من الأفكار المتميزة المتعلقة بدور مسلمي الغرب وبمستقبلهم وبالتحديات التي يمكن أن يتعرضوا لها، لذا رأينا أن نتناولها بشكل مختصر في هذه المقال.

يرى روبرت يونج، في كتابه الصادر في عام 2001 بعنوان “ما بعد الاستعمار: مقدمة تاريخية”؛ أنّ “حركة مراجعة الذات الغربية في علاقتها بالشرق” بدأت في الغرب ذاته عن طريق نظريات وحركات اجتماعية غربية، على رأسها الاشتراكية، انتقدت الأبعاد السلبية للثقافة الأوربية الرأسمالية واستغلالها للشعوب المستضعفة في أوروبا والعالم. ويقول يونج إنّ نقد الاشتراكية القوي لمشاكل الثقافة الرأسمالية؛ عجز عن تقديم وجهة نظر أبناء الشعوب الشرقية أنفسهم، لأنّ الاشتراكية ظلت دائماً منتجاً ثقافياً غربياً ينطلق من منطلقات فكرية غربية، لذا ظهرت في مرحلة تالية حركات نقد قادمة من الشرق ذاته تبلورت بشكل واضح مع صعود حركات الاستقلال الوطنية في منتصف القرن العشرين.

ويعتقد يونج أنّ حركات الاستقلال الشرقية عن الاستعمار الأوروبي قدّمت إسهامات هامة لحركة “مراجعة الذات الغربية في علاقتها بالشرق”، لأنّ حركات الاستقلال سعت لإعادة اكتشاف الثقافات الشرقية الأصلية، كما أنها فضحت الآثار السلبية للاستعمار الأوروبي على المجتمعات الشرقية، كما قدّمت نقداً للثقافة الغربية نابعاً من منطلقات الشرق ذاته.

ولكنّ حركات الاستقلال الوطنية افتقرت، كما يرى يونج، لمن يستطيعون إيصال رؤاها النابعة من ثقافاتها الأصيلة إلى عقر دار الغرب ذاته، وهنا ظهر دور حلقة هامة، في سلسلة حركات مراجعة الذات الغربية في علاقتها بالشرق؛ تمثلت في أبناء الشرق الذين هاجروا لظروف مختلفة إلى الغرب بعد الحرب العالمية الثانية واستقروا في أوروبا وأمريكا.

ويقول يونج إنّ بعض هؤلاء المهاجرين رفضوا الذوبان في المجتمعات الغربية، ورأوا أنّ دورهم التاريخي يكمن في الكفاح لإيصال وجهة نظر الشرق إلى الشعوب الغربية، وفي تقديم العون لحركات الاستقلال الوطنية وللشعوب المستقلة حديثاً، بما يمكِّنها من السير قدماً في طريق التخلص من آثار الاستعمار على كافة الأصعدة.

وقد أفرزت هذه الحركة عدداً من الأسماء الهامة في تاريخ الفكر الغربي، على رأسها إدوارد سعيد والذي يعتبره الكثيرون مؤسس علم “ما بعد الاستعمار”، والذي يركِّز على دراسة آثار الاستعمار الغربي على الثقافات الشرقية قبل استقلالها السياسي وبعده، وعلى دراسة سبل التخلص من هذه الآثار ومنهج حركات الاستقلال الوطنية في تحرير شعوبها والأخطاء التي ارتكبتها هذه الحركات في حق بلدانها الأصلية.

دور مسلمي الغرب التاريخي

ووفقاً لهذا التحليل؛ يمكن النظر إلى مسلمي الغرب على أنهم الحلقة الأحدث ضمن سلسلة “حركات مراجعة الذات الغربية في علاقتها بالشرق”، وذلك لأنّ مسلمي الغرب لأسباب مختلفة يقدمون إسهاماً فريداً لهذه الحركات، طالما طالب به رواد نظرية ما بعد الاستعمار. إذ تحدث إدوارد سعيد في كتاباته المختلفة عن الحاجة لنشطين يمتلكون رؤى نقدية واعية لعلاقة الغرب بالشرق، ويمتلكون القدرة على العمل مع مساحات جماهيرية واسعة داخل المجتمعات الغربية، لتوعية هذه الفئات بوجهات نظر الشرق من خلال حركة اجتماعية وسياسية جماهيرية، وهو الأمر الذي عجزت “حركة مراجعة الذات الغربية” عن القيام به حتى الآن.

فقد نجحت حركات الاستقلال الوطنية في تحرير الشرق عسكرياً وفي تقديم رؤى شرقية لآثار الاستعمار الغربي السلبية على أوطانها، ونجح جيل إدوارد سعيد نسبياً في تأصيل هذه الرؤى في الفكر الغربي وفي المؤسسات التعليمية الغربية، وقد يكون إسهام الجيل الحالي من مسلمي الغرب كامناً في إمداد “حركة مراجعة الذات الغربية في علاقتها بالشرق” بالتأييد المدني والجماهيري والسياسي، الذي تحتاجه للوصول إلى المواطن الغربي العادي وتغيير نظرته للشرق ولشعوبه.

ويساعد مسلمي الغرب على القيام بهذا الدور التاريخي عدد من الظروف الهامة، التي باتت متوافرة نسبياً لدى الأجيال الحالية منهم، والتي يمكن تلخيص أهمها فيما يلي:

أولا: تقدّر أعداد مسلمي الغرب بالملايين (حوالي 25 مليون مسلم في أوروبا الغربية وأمريكا)، استقرت نسبة كبيرة منهم في الغرب منذ منتصف القرن العشرين، وأصبحوا يمثلون نواة طيبة لوجود مسلم استيطاني وليس مهاجراً في المجتمعات الغربية.

ثانياً: هناك حركة واسعة في أوساط مسلمي للغرب تنادي بالاستيطان، وببناء المؤسسات السياسية والمدنية، وبالانخراط في شتى جوانب الحياة المدنية الغربية، وبالعمل على تغيير سياسات المجتمعات الغربية، بما يضمن احترام حقوق وحريات مسلمي الغرب الدينية والمدنية والتأثير على صناعة سياسات الدول الغربية تجاه العالم الإسلامي، وقد نجحت هذه الحركة حتى الآن في بناء عدد قليل، وإن كان متزايد العدد والتأثير من المنظمات العاملة في مجال الشؤون العامة والسياسية.

ثالثاً: تقوم أداوت الاتصال والمواصلات في أواخر القرن العشرين؛ بمدِّ الأجيال المتعاقبة من مسلمي الغرب برافد متواصل من المعلومات والمعارف الخاصة بثقافات الشرق وأوضاعه السياسية والاجتماعية ورؤاه.

مواقف الغرب من المسلمين الغربيين

ويقودنا هذا إلى الحديث عن مستقبل الأجيال الراهنة من مسلمي الغرب وردود أفعال الغرب المتوقعة تجاه مساعيهم لمراجعة الذات الغربية في مواقفها من الشرق، وذلك وفقاً لما تتنبأ به نظريات ما بعد الاستعمار، والتي تقسم المجتمعات الغربية إلى ثلاث فئات أساسية من حيث مواقفها من الشرق.

الفئة الأولى من الغربيين تعي ما تتضمنه الثقافة الغربية الرأسمالية من رؤى استغلالية للشعوب الأخرى، وما أدت إليه هذه الرؤى من ظلم حقيقي لشعوب الشرق خلال عهد الاستعمار الأوروبي، الذي امتد من أواخر القرن الخامس عشر إلى منتصف القرن العشرين وخلال عهد الإمبريالية الغربية المستمرة حتى الآن، والتي تشهد استغلال أمريكا وأوروبا لشعوب الشرق على مستويات مختلفة دون استعمارها عسكريا، ويمثل هذه الفئة في المجتمع الأمريكي، على سبيل المثال، بعض الجماعات اليسارية التي تنادي بسياسات اقتصادية أمريكية ودولية أقل استغلالاً للشعوب الفقيرة، كما تكافح لإرساء قيم التعددية واحترام حقوق وثقافات الأقليات والمهاجرين داخل المجتمع الأمريكي.

الفئة الثانية؛ هي النخب الغربية التي تدعم الإمبريالية الغربية بشكل مباشر على المستويات المختلفة، ويمثل هذه النخب في المجتمع الأمريكي بعض الجماعات اليمينية التي مازالت تتبنى أفكاراً تعلى من ثقافاتها وأعراقها الأوروبية البيضاء، وتنظر لبقية العالم نظرة استعلائية استغلالية، كما تتبنى موقفاً عاماً غير مرحِّب بالمهاجرين غير الأوروبيين في أمريكا.

أما الفئة الثالثة فهي عموم الشعوب الغربية الذين يشاركون في الإمبريالية الغربية ورؤاها بشكل غير إرادي عفوي، نتيجة لأنهم يحيون في نظم سياسية واجتماعية وأيديولوجية تدعم رؤى وسياسات الإمبريالية الغربية، ونتيجة لعدم امتلاك حركة “مراجعة الذات الغربية في علاقتها بالشرق” القدرات والموارد الكافية للوصول إلى المواطن الغربي العادي وتغيير رؤاه نحو الشرق على نطاق واسع.

ووفقاً لنظريات ما بعد الاستعمار؛ لابد وأن يسعى الإمبرياليون الغربيون لمعاقبة مسلمي الغرب أو أية فئة أخرى تحاول التقريب بين رؤى الشرق ورؤى الغرب، فأحد أهداف الإمبرياليين الغربيين الرئيسة؛ هو أن يسيطروا على رؤى المواطن الغربي تجاه الشرق حتى يستطيعوا أن يشكلوا عقليته بشكل يبرِّر الإمبريالية الغربية. ومن أهم عناصر العقلية الإمبريالية النظر إلى الشرق من خلال منطق ثنائي، يجعل الشرق نقيض الغرب على طول الخط، فالشرق متخلف والغرب متقدم، والشرق عنيف والغرب مسالم، وهي قسمة أشبه بالفرق بين الخير والشر وبين الأبيض والأسود على سبيل المثال، ومن ثم يرفض هذا المنطق فكرة وجود أوساط بين أقطابه، وينظر لمن يحاولون الوساطة والتقريب بين أقطابه على أنهم مخالفين لطبيعة الأشياء وعلى أنهم مخطئون يستحقون العقاب.

وترى نظريات ما بعد الاستعمار أنّ حركات التحرر الوطني وقادتها العظام، مثل غاندي على سبيل المثال، اكتسبوا مكانتهم من قدرتهم على الحديث بأسلوب يفهمه المواطن الغربي ومن قدرتهم على تمثيل رؤى ومصالح أبناء بلدانهم الشرقية داخل المجتمعات الغربية نفسها، ولذا لجأ الإمبرياليون الغربيون لمعاقبتهم باستمرار.

كما لجأ الإمبرياليون الغربيون لأسلوب ثانٍ أساسي في تعاملهم مع حركات الاستقلال الوطنية، وهو محاولة تشكيل نخب وطنية شرقية تابعة للغرب بشكل مقصود أو غير مقصود، بهدف أن تضمن هذه النخب التابعة تحقيق مصالح الغرب حتى بعد استقلال المجتمعات الشرقية عن الاستعمار العسكري الغربي.

وهي فكرة عبّر عنها بوضوح في الوقت الراهن عدد من قيادات الجماعات المناهضة لنمو حركة مسلمي الولايات المتحدة على المستوى المدني، من أمثال دانيال بايبس مدير مركز أبحاث الشرق الأوسط ومقره ولاية فيلادلفيا الأمريكية، وفرانك جافني رئيس مركز أبحاث سياسات الأمن ومقره العاصمة الأمريكية واشنطن، الذين عبروا بوضوح وبشكل متكرِّر عن معارضتهم للأفكار التي تعبِّر عنها غالبية المنظمات الكبرى التي تمثل مسلمي أمريكا، على الرغم من الفئات الواسعة والمتعددة التي تمثلها تلك المؤسسات، وطالبوا وسائل الإعلام والمؤسسات السياسية الأمريكية بإغلاق أبوابها أمام منظمات المسلمين الأمريكيين، كما شجعوا المؤسسات الأمريكية على البحث عن ممثلين جدد لمسلمي أمريكا يمتلكون رؤى “أكثر مساندة للغرب” من وجهة نظر بايبس وجافني، وذلك إلى الحد الذي دفع دانيال بايبس، كما ذكرت وكالة يونايتدبرس إنترناشيونال الأمريكية في شهر نيسان (أبريل) 2004؛ إلى العمل على “تأسيس مركز إسلامي تقدمي يمثل المسلمين الليبراليين المقيمين في أمريكا”.

تحديات داخلية لمهمة مسلمي الغرب التاريخية

بدون شك تمثل التحديات السابقة تهديدات جدية لمهمة مسلمي الغرب التاريخية، خاصة في بيئة ما بعد أحداث أيلول (سبتمبر) 2001، ولكنّ نظريات “ما بعد الاستعمار” تتنبأ بمواجهة مسلمي الغرب لسلسلة أخرى هامة من التحديات النابعة من داخل مسلمي الغرب أنفسهم.

أول هذه التحديات الداخلية هو تحدي الفهم الدقيق والتطبيق السليم للديمقراطية ولمبادئ الحرية والعمل المدني في أوساط مسلمي الغرب أنفسهم. فقد فشلت العديد من حركات الاستقلال الوطنية في القيام بمهمتها التاريخية في خدمة شعوبها، لأنها اكتفت بنقد الغرب وعجزت عن نقد ذاتها وتطويرها خاصة على صعيد الديمقراطية واحترام حقوق وحريات مواطنيها، وهو درس لا بد وأن يتعلمه جيداً مسلمو الغرب ومؤسساتهم، فإذا كانوا راغبين في لعب دور تاريخي في تحسين موقف الغرب من الشرق؛ فعليهم أن يبدؤوا بنقد أنفسهم أولاً، وأن يضعوا مؤسساتهم على طريق العمل الديمقراطي والمدني الحر المفتوح للنقد والتقويم.

ثانياً: سيظل مسلمو الغرب أمام تحد مستمر لا يتوقف، للجمع بين فهمهم لثقافات الشرق وثقافات الغرب في وقت واحد، وهي مهمة يصعب القيام بها مع طول البعد الزماني والمكاني بين مسلمي الغرب والعالم الإسلامي، وهنا تتضح حقيقة أساسية في مهمة مسلمي الغرب التاريخية، وهي أنهم لن يصبحوا يوماً من الأيام بديلاً عن مسلمي الشرق، فمسلمو الشرق وحدهم أصحاب الخبرات الشرقية الكاملة والقادرون على فهمها والتعبير عنها وتمثيلها وإدخال الإصلاحات المطلوبة لتحسين أوضاع مجتمعاتهم، ولذا يجب دائماً النظر لعلاقة مسلمي الغرب بمسلمي الشرق من منظور التعاون والتكامل؛ لا من منظر المنافسة أو وصاية طرف على آخر.

ثالثاً: هناك أبعاد أخرى في علاقة الغرب بالشرق لا تركز عليها نظريات ما بعد الاستعمار، والتي تركز بالأساس على تحليل علاقة الغرب بالشرق على المستوى الثقافي، وبالطبع هناك عوامل أخرى عديدة سياسية واقتصادية واجتماعية تؤثر على علاقة الغرب بالشرق وتحدّ من قدرة طرف ما على التأثير على رؤية أبناء المجتمعات الغربية للشرق وللشرقيين. التحدي الأخير يوضح مدى تعقيد عملية فهم دور مسلمي الغرب التاريخي وتوصيفه، والذي حاولنا فقط في هذه المقالة الاقتراب منه بصورة مبسطة تحتاج لمزيد من النقد والتطوير المستمرين في المستقبل.

.