ما نزرعه نحن اليوم سيحصده أطفالنا غداً

الدليل ـ برلين

هناك آلاف من العرب يعملون في المجتمع في كل المجالات بجهد وصدق وإخلاص ومثالية من أطباء ومهندسين وتجار وموظفين وعمال في الشركات والمصانع وفي الرعاية الاجتماعية والأعمال الحرة. هذه الأكثرية الصامتة تعاني بشدة وألم في هذا المجتمع.

بسبب تأقلمها وتعايشها وعملها في ومع المجتمع الألماني مباشرة تواجه الانتقاد والعنصرية والإهانة والتضييق، وليس هناك من يذكرها ويشكرها ويقدرها لا في السياسة ولا في الإعلام.

أما الأقلية الشاردة من الجالية العربية لا يهمها ولن تكترث بكل ذلك لأنها بعيدة عن هذا المجتمع والإعلام والسياسة وعن الاحتكاك المباشر مع الألمان.

ولعل نقطة الانطلاق الأساسية تبدأ بمواءمة الدين مع متطلبات المجتمع الحديث، ونخص بذلك مجتمعات المهجر. فعلى سبيل المثال، هناك أساسيات في الدين الإسلامي تغطي جوانب عدة من مناحي الحياة. فمتى تمت تنقيتها من شوائب العادات والتقاليد التي أُقحمت عليها، فستصبح على اتفاق تام مع متطلبات الحياة في مجتمعات المهجر. وفي المقابل هناك أمور تركها الإسلام مفتوحة للاجتهاد من أجل ترك إمكانية تطويرها تبعاً لسياقها الزماني والمكاني. فالتمسك باجتهادٍ صاغه عالم ديني قبل أكثر من ألف عام .. وناسب ظروف تلك الحقبة، قد يعيق محاولات التجديد لمواكبة العصر الحالي وما يليه. (ونحن لا نطلب إلغاء الاجتهاد السابق أو الانتقاص من قدره، بل على العكس .. نطالب بمواصلة الاجتهاد، وبخاصة ذلك الذي يستند على فهم كامل للدين وأساسياته العقائدية والفكرية، واحترامه الكامل للعقل والمنطق).

وعلى الجانب الآخر.. على أولئك الذين يدَّعون بأن الدين يشكل عقبة في سبيل التطور والاندماج (بمفهوم التوافق) في المجتمعات الأخرى، الكف عن دفن الرؤوس في الرمال، والاعتراف بدور الدين في صياغة الإنسان أخلاقياً وفكرياً واجتماعيا. (وفي سبيل التقدم، لا ينبغي للمرء أن يتخلى عن جذوره، بل يطور فهمه لها ويستوعبها في إطارها العقلي، دون إطلاق أحكام اعتباطية مسبقة عليها بعدم المواءمة). وإذا استطاع كل من الطرفين أن يمد جسوره مع الطرف الأخر، ستَتَكَشَّف لهما إمكانات واسعة للتوافق، تلبي متطلبات الاتفاق حول هوية واحدة تسمح بتحقيق التوافق المطلوب مع مجتمعاتها الجديدة.

لقد ظهرت العديد من الجمعيات والنوادي العربية لتمثل الجالية (المواطنون العرب في ألمانيا) ولتعمل معها لتحسين مستواها الثقافي والاجتماعي والاقتصادي ولتساهم في تحقيق الاندماج. ولكن ما نجده على ارض الواقع جمعيات متفرقة ضعيفة غير قادرة على التعامل مع الجالية إلا بشكل محدود، ودورها هزيل، وهى غير متعاونة مع الجاليات الأخرى، ولا حتى مع بعضها البعض، وهناك نوع من التكرار في عملها، فأكثر من جمعية تمنح نفس الخدمات بشكل متفرق ومحدود، وذلك بدلا من أن تتحد لتشكل بنية مؤسساتية ذات تأثير أكبر في الجالية وتعمل لنقل صورة مشرقة من خلال تنظيم فعاليات تساعد في التعريف بالجالية وقيمها وعاداتها وتقاليدها لتقدمها إلى المجتمع الألماني بشكل سليم وتدعو إلى الحفاظ على المورث الثقافي والدور العربي ضمن المجتمع، واستقطاب الأجيال ذات الأصول العربية لتفعيلها ولتحافظ عليها بدلا من انسلاخها عن الجالية ولتستعين بهم كمحفز مرشد للمهاجرين للاستفادة من تجاربهم ونجاحاتهم.

من الإنصاف أن نقر بأن السعي لاكتساب النفوذ مطلوب في العمل العام، وإلا انتفى الهدف منه، فأساس العمل العام هو تمثيل الجالية بهيئة تعمل على تحقيق مصالحها، ولكي تتمكن من ذلك، عليها أن تستمد قوتها من حقيقة تمثيلها لهذه الجالية وثقلها الاجتماعي والانتخابي. هذا التمثيل هو ما يمنح هذه الهيئة النفوذ الذي تحتاجه للتعامل مع الدوائر الحكومية والانتخابية، وهو نفوذ تأمل في استغلاله لصالح الجالية التي تمثلها. (لذلك فلا عيب من محاولة اكتساب النفوذ وجذب أفراد الجالية للنشاط العام، ودعم الهيئات التي تنشط في هذا المجال).

المشكلة تبدأ عندما تعمل كل جهة على حدة في استقطاب الأفراد إلى جانبها عن طريق إقصاء الهيئات الأخرى ومحاولة إخراجها من المنافسة بشتى الطرق. ويبدو المشهد العام وكأننا أمام طرفين في حالة حرب، وليس أمام تيارين يدعي كل منهما أن هدفه هو خدمة الجالية وحماية مصالحها.

هذا المشهد هو بالضبط آخر ما نحتاج أن نراه في عالم الاغتراب وبين أفراد مجتمعاتنا الجديدة. فمن ناحية، يتأثر جيل الشباب سلباً في ما يراه، ويفقد الثقة إما في دينه أو في قدرة عالمه على التوافق مع المجتمع الذي هاجر أو هُجِّر إليه. وقد ينتهي به المطاف إلى الانزواء جانباً طلباً للسلامة النفسية. و من ناحية أخرى، فإن أفراد المجتمع المُستَقْبِل لهذه الجالية المتناحرة، سوف يعانون صداعاً مزمناً في محاولة فهم الآلية والأسباب التي تدفع مجتمعاً ما إلى تدمير إمكاناته وتناحر أطرافه بهذه الحدة والقسوة.

كل فرد من الجالية هو سفير لها والخطأ الاتكال على سفراء يمثلون أنظمة سياسية في وطنهم وليس مصلحة الوطن والجالية. المساجد والجوامع يجب أن تكون محايدة وليست حزبية طائفية وأن تكون مفتوحة لكل مسلم ومؤمن وهذا هو الإسلام الصحيح. وفي كل المناسبات والأعياد يمكن لكل مسلم زيارة الكنائس وهذا لا يخالف مبادئ الإسلام.

الجالية العربية في ألمانيا هي ليست الروابط والأحزاب والمنظمات، الجالية هي الأكثرية الصامتة العاملة الواعية المتعلمة التي تنتظر الاعتراف بها وتقدير دورها في هذا المجتمع.

علينا أن نستغل علاقاتنا بالمجتمع وبرجال السياسة والإعلام والوزراء والمسؤولين وليس لنأخذ صور تذكارية معهم، بل فقط من أجل إيجاد حلول وسبل فعالة من أجل خير وحقوق الجالية ومستقبلها وأطفالها.

السبيل هو الهدف. ما نزرعه نحن اليوم سيحصده أطفالنا غداً.

.