غريب في الذاكرة

ذاكرة د. أمير حمد المُشبعة اغتراباً

موسى الزعيم /

عن دار الدليل للطباعة والنشر في برلين يُصدر د. أمير حمد كتابه السادس بعنوان (غريب في الذاكرة)

والكتاب يروي حكاية الغربة وتمزّق الوجدان والقلب بين ضفتي وطن…!

فالتّرحال في كتاب د. أمير هو الجزءُ الموجعُ من حكاية البشر، بعض أقدارهم مرسومة على الدروب، دروبِ الشّتات، وبين حينٍ وحين قَدرُ العربيّ أن يَحزم حقيبةَ خيبتهِ وأوجاعهِ، أو أن يُسدد ثمنَ فاتورة من أشعلوا الحرائق في كُرومِه ومدارسَ أطفاله، يتركها رمادَ ذكرياتٍ ويرحل.

هل هي لعنة ترحال القبيلة؟ أم أنّ ذلك موسوم في جينات توارثها الأحفاد، لتصير غربةً بعد غربة.

المُبكي المُضحك، الطّاعن في الصميم، أنّنا نحاولُ نسجَ ألفةٍ عربيةٍ.. عربيةٍ.. في بلد الغربة، نحيكُ نسيجاً كنّا قد فككنا عُراه ومزّقنا بِساطَهُ (هناك) لنعيد حياكته من جديد (هنا) أحياناً يغدو أجمل وأحياناً “ربّما” نفشلُ، فنعملَ على ترقيعه بالأمنيات.

وحدهُ ..الكاتب يقف على ضفتين، في عالمين،  واحدٌ مُشتهى مُتخيّل، وآخر يحنّ لأطلاله، يقف على ذكرياته الجميلة المُشبعة بالحنين، يجعلهُ وسادته حين يُعجزه الحاضر وقد سلبهُ الزمن والأنظمة الحاكمةُ أسلحةً وأدواتَ أبسطها ولو قليلاً من الحريّة والتعليم، كان من المفترض أن يُجابه بها واقعه الجديد، يعثرُ ثم ينهض وربما يتلاشى في ضجيج سلعيّة الحياة وبرودتها، من هنا يأتي دور الكاتب في رصد واقع الغربةِ وواقع انشطار الذّات، وهذا ما نلاحظه في كتابات د. أمير حمد وفي مجمل أعماله الفكرية والإبداعية التي عالجت قضيّة الغربة واللجوء والنزوح وقضية اندماج اللاجئين في المجتمع الأوربيّ الجديد وخاصّة في المجتمع الألمانيّ لتصير جزءاً من أدب مهجريّ جديدٍ، نتلمّس ملامحه.

ضمن هذه الموضوعات ضمّ الكتاب عددا ً من القصص، عالجت جميعها موضوعاً واحداً تقريباً وهو موضوع الهجرة والاغتراب. وللاغتراب في قصص أمير حمولة مختلفة، موجعة أكثر يحاول دائماً أن يحيل أسبابه البعيدة، ليبرر هدوء نفس أبطاله واستقرارهم في المغترب وهو يحاول في ذلك تبرير تلك القسوة التي اقتلعت الفرد من هدأة روحه أو جعلته يهرب من قسوة ماضيه المُتعِب المُرهق وما يحمله هذا الماضي من دلالات وإشارات ترسبت في نفس شخصيات قصص أمير.

في قصص أمير ليس الترحال واللجوء حكراً على الفقير المُعدم أو الباحث عن فضاء من وجود وكرامة أو الهارب من أتون الحرب، قد يكون لسبب لا يخطر في بالك، إذ ليس الهدف هو المال دائماً وهذا ما نجده في القصص التي تعالج قضية الترحال من وجهات نظر مختلفة من خلال شخصيتين ألمانيتين، في قصتي غريب في الذاكرة و قصة امرأة بضّة أمّا في قصة مساء على الشطّ ففيها تحليلٌ للأسباب.

في قصة (غريب في الذاكرة) يحسدُ أهل القرية البطلَ العائد من ألمانيا لزيارة قريته، القرية الواقفة على تخوم المدنيّة في السودان، رغم زحف المدينة إليها، كانت الحياة في تلك القرية “قاسية غير أنّها نابضة وسعيدة على نمطٍ ما” الرجل المُشبع بالحنين والذي تتوالى خيباته وانكساراته كلّ يوم وكلما ازداد قرباً من واقعِ مَنْ تركهم بين أنياب الفقر، لم يتغير فيهم شيء سوى أنهم ازدادوا فقراً حتى غدوا يحسَبون صمته تعالياً، وضحكته سخريةً عليهم.

بينما كان هذا الواقع المُرّ المُترع بالألم، جنّة و فردوس (لجانيت) زوجته الألمانية التي جاءت معه إلى تلك القرية، هاربةً من لعنةِ ماضي جدّها المشؤوم الموغل بالدم والعنصرية المقيتة، وكأنّ جانيت تحمل أوزار أسلافها، وقد وجدت في تلك القرية النائية حالة من السكينة وهدأة الروح، وهذا ما أكده طبيبها المعالج حين انتبه إلى تحسّن مفاجئ طرأ على صحتها نحو الأفضل.

في القصة يلجأ أمير حمد إلى تقنيّة التداعي، من خلال تعدد الرواة داخل النص وتعدد الإحالات، فهو يقرأ رسالة جار له كان يعيش وحيداً في مغتربه، طلب منه أن يقرأ تلك الرسالة بعد وفاته، وتبدأ تداعيات القصّ والمزج بين الجار صاحب الرسالة والراوي القارئ، وما يدور حولها في فضاء مكانين، مكان عيش صاحب الرسالة والسودان.

أمّا في قصة “امرأة بضّة” فيدور الحوار بين الراوي وبين امرأة ألمانية في الحديقة بينما كانت تنتظر صديقتها، ليعرف منها أنها تريد السفر الى موريتانيا! يسألها إن كانت تريد التعرف على الصحراء أو ملثمي الطوارق، لكن للمرأة البدينة رأي مختلف، فقد قررت أن ترحل إلى موريتانيا، فقط لأنّها سمينة، تمزّقها نظرات السخريّة المُبطنة ممن حولها في الحيّ الألماني الذي اعتادت نساؤه على ممارسة الرياضة والاعتناء بأجسامهن، لتغدو الرشاقة السمة الغالبة لهن..

هي سعيدةٌ الآن في البلد الذي هاجرت إليه، وجدتْ ذاتها هناك، لأنّهم في هذا البلد يفضّلون المرأة السمينة ويعتبرونها ذات شأنٍ ورمزاً للثراء ومحطّ تقدير من حولها.. تزوجت هناك، وراحت تكتب عموداً في مجلة محلية بعنوان: حياة زوجية سعيدة.

أمّا في قصّة “ذات مساءٍ على الشّطّ” ففي حوار الراوي مع لاجئ عَبرَ البحر، وأهوال الموت ليصل إلى أوربا، الفردوس الذي رسمته له خيالات بعضهم، وحسب سردياتهم، يدفع اللاجئ بكلّ طموحاته وآماله، وما تبقّى لديه من مالٍ؛ ليصل إلى هذا الفردوس المزعوم.

في القصة لم يظهر اسم البطل وإنّما صفته ” لاجئ” قادم من بلاد الحرب والدمار ولديه التصور المُسبق عن حياة أوربا بنسائها الفاتنات، وبيوتها الفخمة، ودعمها المالي للاجئين.. الراوي الذي يلتقي باللاجئ على أحد شواطئ جزيرة يونانية عندما كان في زيارة صديقه هناك وهما اللذان يعملان معاً في ألمانيا في المجال الاجتماعي لذلك تتسم أسئلته بالوعي ومعرفة أحوال اللاجئين.. يُرجع الراوي المتلبّس بشخصية الكاتب أسباب وصول اللاجئين إلى أوربا بالأسباب السياسيّة، وصراع الكُتل الحزبيّة والانتخابية وغيرها من القضايا والتشابكات للدول الأوربية فيما بينها بالإضافة إلى الحرب والتي تجنّب الكاتب الخوض في تفاصيلها، حيث بدأ من نتائجها وهواجس الهاربين منها، بغضّ النظر عن وحشِ القتل الطارد هناك، وقمع الديكتاتور وسياسة الاقصاء والتهجير المُمنهج لطالبي الحريّة في أكثر من بلدٍ عربيّ، أو شرقيّ.

لكن للجدّة اليونانية العجوز التي تقدّم الدعم والمساعدة للناجين من الحرب ومن أهوال البحر، لها حكاية أخرى مع اللجوء، حكاية عاشتها خلال الحرب العالمية الثانية من خلال أغنيتها التي تقول:

سيعودون إلى ديارهم من الخنادق/ وجبهة القتال اللعينة/ سيعودون بأوسمة الكفاح / وورد الحقل الوضيء/ لنسائهم الباكيات/

سيعودون/

في قسم آخر من الكتاب سماه الدكتور أمير بالمختارات وفيه ثلاثة أبحاث، لها خصوصيتها أيضاً بما يتعلّق بموضوع الهجرة والتّرحال أيضاً وهي:  

في الذكرى الثانية عشرة لوفاة الروائي الكبير الطيب صالح:

كثيرة هي الدراسات والأبحاث التي قدمها الدكتور أمير فيما يتعلّق بأدب الروائي الكبير الطيب صالح، كيف لا “وهو المتخصص في أدبه وخاصة عالمه الروائي „ هنا يُحلل الأسباب التي دفعت به إلى الهجرة عن وطنه، وأثر ذلك في كتاباته ومن خلال الحنين وأثر الغربة في إبداعه، وخاصّة في رائعته موسم الهجرة إلى الشمال، وهنا يبدو الوجه الحسن للغربة، ومن خلال حبّ الكاتب لغربته وأهله.. من خلال ذلك يحلل الدكتور أمير الأسباب التي جعلت الطيب صالح متصالحاً مع ذاته بعد أن أقلقته الغربة والهجرة يوماً ما، وخاصة ما تجلّى من مواقف في حياة شخصية البطل مصطفى السعيد في موسم الهجرة إلى الشمال، لكن يبدو أن الطيب صالح أدرك قيمة هذه الهجرة والغربة من خلال قضيتين أساسيتين: الأولى أنه في عقر دار المُحتل ” إنكلترا الدولة التي فرضت سيطرتها على السودان، والثاني من خلال نقل معارفه وخبرته الإبداعية والعلمية ومن خلال تجربته الرائدة في الإذاعة البريطانية” ال بي بي سي” كلّ هذا قد حاول جاهداً نقله بطريقة أو بأخرى إلى العالم العربي، ربما هو الوجه المُحرّض على الإبداع والذي يعلو الصوت فيه دلالة على الكينونة والوجود.

 لكن الحنين باق يشعل وجدانه إلى “ود حامد” وإلى الأضرحة التي غدت رمزاً دينياً للقرى النائية في حين أن الشخصيات الغرائبية الصوفيّة تُجالس أهل القرية بعد موتها من خلال كراماتها وحضورها الروحي، من خلاله يسعى الطيب إلى نشر ثقافة الحبّ والتسامح لأنّ هذه الشخصيات مركبة في الوجدان الجمعي على المحبة والطيبة والتسامح ونشر روح المؤاخاة بين الناس يتجلى ذلك من خلال مشهد السهرة في الصحراء في موسم الهجرة إلى الشمال وتحقق معجزة ” شيخ الحنين بزواج الزين الدرويش بأجمل بنات القرية „ في رواية بندر شاه.

 في هذا القسم من الكتاب يحاول الدكتور أمير من باب الوفاء للروائي الكبير في ذكرى وفاته الثانية عشرة الوقوف على عددٍ كبيرٍ من القضايا في أدب الطيب صالح، وخاصة فيما يتعلّق بالتصوّف وسموّ الحبّ من خلال بيئة القرية البسيطة التي ركز عليها الطيب ومن خلال تدقيقٍ كبيرٍ من قِبل الباحث في تلك القضايا وإلمامه الشخصي والمعرفي بها.

في قسم آخر من الكتاب يتطرق الدكتور أمير إلى قضية مختلفة تماماً وهي قضية تركيب المجتمع العربي الافريقي.

فيتحدث عن “المنظومة الافريقية العربية ويتخذ من السودان نموذجا لهذه المقاربة”

فهو يعمد إلى المقاربة بين المجتمعات الافريقية النيلية والمجتمع العربي، فيتحدث بالتفصيل عن التركيبة القلبية لمجتمع النيل وخاصّة عن المنظومة الداخلية لقبيلة ” الدينكا “

هو بحث في منظومة العقائد والأديان التي شملت المجتمع السوداني بقبائلهِ الشماليّة والجنوبية العربيّة وغيرها „ ورغم اختلاف المَعبود “حسب قول الباحث، إلاّ إنّ هناك الكثير من المشتركات الثقافيّة والاجتماعيّة بين تلك القبائل.

في البحث يتطرّق الدكتور أمير إلى كثير من القضايا من عادة وتقاليد ومنظومات اجتماعية تعد قانوناً أو عُرفاً لدى تلك القبائل وخاصّة الدينكا إذ يتحدّث البحث بالتفصيل عن تلك التفاعلات والضوابط التي تحدد وتضبط المنظومة الاجتماعية والعلاقات الداخلية والخارجية للقبيلة، وعلاقة أفراد القبيلة بالطبيعة ومكونات الحياة، وآليّات تفكيرهم وغيرها من الأمور التي تجنح نحو الإدهاش والغرائبي أحياناً.  

جهد ينم عن خبرة عميقة بمكونات المجتمع السوداني، وأعتقد أن الكثير منّا يجهل تفاصيلها، وكنت أتمنى لو أن البحث أمتدّ أكثر من ذلك ليكون مشروع كتابٍ مستقلّ له أهميته وخصوصيته في إثراء المكتبة العربية.

أما في القسم التالي من الكتاب والذي ضمّ فصلاً من سيناريو فيلم ” موسم الهجرة إلى الشمال” وهو السيناريو الذي اشتغل عليه الكاتب ليكون فيلماً سينمائياً إلاّ أنّ الظروف حالت دون إخراجه إلى الآن، وهنا يبرز الدكتور أمير مقدرته الإبداعية على الخوض في ميدانٍ ابداعي ليس بالسهل ارتياده وهو كتابة السيناريو.

أما في قسم النصوص الشعرية فقد ضم عدداً من القصائد النثرية هذه النصوص بنيت على فكرة أساسية تعالج موضوع الهجرة واللجوء بالمفهوم العام ومن زوايا مختلفة، من عناوين هذه النصوص ” في ذكرى الغفاري ” متسوّل” و أيقونة وترنيمة أخرى    

يقول في نصّ “أيقونة” وقد وطّأ له بأم مسيحية تناجي طيف ابنها الغريق:

بالصّلاة مضاءة/ بالبخورِ وحدها تشكو أساها/ للإلهِ /لمريمَ والمسيح الصّبور/ تشغلُ حزنها/ فتضيءُ/ يضيئُ الكون لأجلها/ وحدها تبكي/.. تحار / مثلهُ /في اليمّ تائهٌ /بلا صِلة /هل يصل؟! / لا يصل/ إلهي.. / إلهي أرجعهُ إليّ/ وحدها تبكي / فيبكي لأجلها /

صمتُ الجدار/ 

في نصوص د. أمير نفحة شعرية صافية ولغة شعرية هادئة، بعيدة عن الضجيج، جاءت بجمل قصيرة بعيدة عن المعجمية والتعقيد، نصوص سلسة محملة غالباً بروح صوفية تعكس ذات الشاعر وصفاء وجدانه، يتجلى ذلك على سبيل المثال في نص أبي ذر الغفاري.

على العموم نصوص وموضوعات الكتاب ومختاراته النثريّة والشعريّة، تأتي لتؤكّد أنّ الكاتب د. أمير حمد واحدٌ من المبدعين العرب في المهجر و من القلِّة الذين ظلّ صوتهم وقلبهم أميناً ينبض بالحبّ والحنين لأوطانهم.

وقد حاول دائماً وفي أغلب كتاباته أن يكون ذلك القلم النظيف الذي لم يلهج بغير الحبّ والوجداني الصافي..

يقع الكتاب في 133 صفحة من القطع المتوسط.

.