صَلاح يوسف : شاعر ٌ سودانيّ ابن عَالمَين

موسى الزعيم/

في حيّ كرويتسبيرغ البرليني مُتعدد الثقافات ومنذُ عام 1988 يعملُ الشاعر السوداني صلاح يوسف في محلّه التجاري الصغير في بيع “الأنتيك” والأثاث المُستعمل واسطوانات الموسيقى القديمة، في محله تمتزج روح الثقافة الإفريقية مع ثقافة الألمان، وغيرهم ممن مرّوا على هذه البقعة الملّونة بمحبّة الجيران.

ما إن تجلس أمام محلّه وتبدأ حديثاً معه، حتى يُلقي عليه أحدُ سكّان الحيّ التحية، هم يعرفونه ويحفظون ابتسامته ووداعة حديثهِ، كما يحفظُ هو عُمر الأشجار والأبنية على جنبات شارع أوربان.

 يقول عن نفسه أنّه (ألمانيّ أسود).. لكنّه صوت شعريّ مختلف ذو نكهة متفرّدة.

 الشاعر السوداني صلاح يوسف الذي هاجر إلى ألمانيا شاباً يافعاً قبل خمسين عاماً تقريباً في رحلة تراجيدية يتذكرُ تفاصيلها إلى الآن بدّقة، في تلك الأثناء دفعته الظروف إلى الوصول إلى برلين، ورغم صعوبة الأيام الأولى والنوم في الشوارع وتحت الجسور إلاّ أنّه استطاع الحيازة على قلوب الطيبين والذين مازال بعضهم صديقاً له إلى اليوم، ساعدوه في النهوض والاستمرار في مسيرة حياته الحافلة بالأحداث في حين شكلت الموسيقى والشعر والفنّ الثالوث الأجمل في حياته، لكن الشعر بقي الأقرب.

 عبر مسيرته الشعريّة في ألمانيا، أصدر خمسة دواوين شعرية باللغة العربية والألمانية ” ثنائيّة اللغة”  قصائد نثريّة تلحظُ فيها نكهة الحياة الغربيّة، يرصدُ بدقّة تفاصيل الحياة في ألمانيا وخاصّة الحيّ الذي يعيش فيه والذي احتفى به كشخصيّة ثقافيّة لها حضورها وخصوصيتها، فقد أقام العديد من الأمسيّات والقراءات الشعريّة بالتعاون مع الألمان في أماكن مُتعددة، كما أُنتج عنه أكثر من فيلم وثائقيّ وكتبتْ عنه الصحف البرلينية وشارك في كتاب (كتابات سودانيّة باللغة الألمانية) الذي صدر منذ عامين عن دار الدليل في برلين.

الأشجار والأطفال ووجوه المارّة وضحكات النسوة اللواتي يلقينَ عليه تحية الصباح، صديقه الذي مازال يلتقيه منذ أربعين عاماً، يهذّب معه مفرداتِ قصائده ويبحث معهُ عن نقاط الاختلاف، كلّ ذلك يحضر في قصائده.

ولد صلاح يوسف في قرية “الكلاكلة” بالقرب من الخرطوم، في تلك الأثناء كانت الخرطوم في تكوينها على شكل الريف..  وهو ابن أسرة كبيرة جاءت من الريف لتسكن مع ماشيتها على أطراف المدينة، هذه الأسرة تحمل معها الكثير من المؤثرات الثقافيّة التي شكّلت ذاكرته الشعرية، فالجدّ كان يدرس في “الخلاوي” وكان صوته جميلاً يتلو القرآن والمدائح النبويّة ولديه مكتبة عامرة ويقرأ طوال الليل.

تعلّم الشاعر القراءة والكتابة على يدِ خاله الذي عمل في التجارة وتأثر بالحركة الشيوعية آنذاك، كان يُحضر له الكتب والمجلات في ذلك الوقت وكان التعليم متاحاً لأبناء الفلاحين والعمال..  يروي الشاعر بعض ذكرياته “بمساعدة خالي تعرفتُ على الحركات اليساريّة العالميّة، ومن خلال ذلك زاد اهتمامي بما يُكتب من آداب عالميّة، من ثم بدأت أتقن خمس لغات، ساعدتني في قراءة الأدب الفرنسيّ والإنكليزيّ والافريقيّ وكنت شغوفاً بالأدب الكاريبيّ على وجه التحديد.. في تلك الفترة نشطت حركة الترجمة، وخاصة في القاهرة، وبيروت، ودمشق، في فترة الخمسينات حتى بداية السبعينات شهدت السودان حراكاً ثقافياًّ وفكريّاً جيداً من خلال وجود ثلاثة أحزاب رئيسة على الساحة، استقطبت الشباب وخاصّة الحركات اليسارية، أما اطلاعي على الأدب العربي فكان مدرسيّا عبر عصوره.

في المحصلّة أنا متأثر بثقافتين، أعتبر أنّ ثقافتي الحياتيّة تكّونت هنا في ألمانيا، وبالتوازي تكونت عندي الثقافة السوداء من خلال قراءاتي لذلك اعتبر نفسي “ألماني أسود”.

الحياة البرلينية والشعر:

عن علاقته ببرلين يروي الشاعر قائلاً: أعتبر نفسي محظوظاً أنني وصلت إلى برلين وعشت فيها وعرفت الاستقرار، بعد تجوّلي في بلدان أوربية كثيرة، ومعروف عنّي أنّي أتركُ كلّ شيء خلفي فجأة وأمضي!

تركتُ الدراسة في بلغاريا بعد أن تعرّضت للضرب والسجن من قبل البوليس نتيجة انقسام المنظومة الشيوعية بين الصين وروسيا.

وعندما وصلت إلى برلين في نهاية الستينات، كانت فيها ثورة الطلاب الشباب، كان فكر الثورة يجتاح العالم أجمع تقريباً.

في مقهى “شتاين بلاتز كافيه” حيث أوائل أيامي، تعرفت إلى الكثير من الشباب من مختلف الجنسيات، كان هناك تضامنٌ كبيرٌ مع الطلاب القادمين من العالم الثالث من حيث تأمين الدراسة والعمل والسكن وغير ذلك كانوا يتقاسمون معنا الطعام، والهموم والمشاكل والأحلام.

دخلت حركة الشباب الألماني، وكنت أخرج للتّظاهر معهم، كما عملت لمدّة عشر سنوات في شارع “الكودام” وسط برلين كانت تلك الفترة خصبة جداً ثقافياً واجتماعياً بالنسبة لي.

وكنت دائم الحضور في مظاهرة يوم السبت، ما يميّز تلك المرحلة أنّها شهدتْ حواراً سياسياً ثقافياً انسانياً وكانت الموسيقى تلعب الدور الأكبر فيه ذلك.  

كنت عضواً دائماً في النقاشات والحوارات الشبابيّة، وفي تنظيم الحراك الشبابي المُثقف السياسيّ المُسالم والذي كان عادلاً، كان الهمّ الأكبر لنا هو تغيير العالم، وكنتُ مشاركاً في الحرك كإنسان بغضّ النظر عنّي كسوداني، كانت لنا أحلام كبيرة وِسع العالم، وكانت القضية الفلسطينية إحدى أهم قضايا نضالنا.

هذه المرحلة انتجتْ أروع الكتب والموسيقى والكتّاب، واعتبر نفسي محظوظاً أنّى كنت وسط هذا الحراك الذي ينظر فيه الآخر إليك على أنّك شريك في التغيير.

لك أن تسأل نفسك أنّ شاباً قادماً من أفريقيا، يشارك في حراك شعبي في بلغاريا يُضرب ويُسجن وبتنقل إلى العمل الشبابي في ألمانيا كلّ ذلك لا تفسير له لديّ سوى أنّها ثورة شباب تحمل على عاتقها آلية تغيير العالم”.

في الشعر  

يروي الشاعر حكاية علاقته بالشعر، ففي البداية كتب قصائده باللغة العربية، لكن صديقة ألمانية اقترحت عليه أن يترجمها إلى الألمانية لما تحمله من معانٍ سامية فقصائده ليست معنيةّ بالتراث العربي بقدر ما تدعو إلى تحرر العالم والخلاص من الظلم.

هو يكتب عن السودان كحنينٍ إلى البيئة التي ولد فيها، لكنّه يشعر أنّه معنيّ بالحياة هنا أكثر، هنا يفهم الجوّ السياسي والثقافي والاجتماعي للمدينة التي عاش فيها وكبرَ معها، والمجتمع الذي ينتمي إليه منذ أكثر من خمسين سنة.

جاءت عناوين دواوينه الشعرية على التوالي ” نساء كرويتس كولن عام 2012 ” مقابر في الماء 2015 ” الصمت المفتوح 2017 “صوت العصر 2018 وآدم سميث في الخرطوم 2020.

أمّا عناوين قصائده فلها ارتباطها المكاني بالفضاء الذي يعيش ويتحرك فيه، لأنه يكتب ما يعيشه هنا لا يُجهد نفسه معجميّاً في البحث عن عناوين لها، لأنها حاضرة بحضور المكان وارتباطها العضوي به، وأي شخصٍ يكتب عنه تربطه به علاقة ما تأثر بها..

لا تكنيك مُحددَ ولا مِعيار ثابت لبناء قصيدته والتي تأخذ عادة شكل قصيدة النثر أو النص المفتوح ” .. لا فرق عندي أن أكتب بنمط تفكيرٍ عربي أو ألمانيّ، لكنّ حالة التخيّل والتأمل عندي متأثرة كثيراً بالمفردة العربية، مازال “القمر، النيل، القبيلة، الغابة، الجوع، شاي النعناع، سفنُ النوبة، المطر الاستوائي، الأصابع السمراء و” مازالت تلك المرأة الافريقية السّاحرة / تعيد للإنسان طبيعته الأولى / بالدم والرقص وأرواح أجدانا” وبعض التسميات محفوظة في ذاكرتي أعتقد أن الجذور اللغويّة لي تبقى من بلدي من السودان وذاكرتي الفطرية مازالت هناك.. ربّما هذا جعل لقصيدتي تركيبةً مُعقّدة أو مختلفة يلاحظها القارئ أو كما أخبرني أغلب من قرأ قصائدي، أحاول أن أكون صوتاً مختلفاً” .

من جهة أخرى يلحظُ القارئ في قصائد صلاح يوسف الإصرار على تسمية بعض قصائده بالشخصيّات الرمزية والتي كان لها دور، أو موقف سياسي، أو تحرري، أو هي شخصيات اشكالية من مثل ذلك „ ميلاد بابلو، إلى هايكة، ملكة زنزبار، مقتل البيرتو أدريانو، صورة مادونا، موت رجل الدينكا، كولومبوس، قصائد إلى بوش الأب، بوش الصغير، وغيرها من العناوين التي تعكس احتفاء الشاعر شعرياً ببعض الشخصيات التي كانت قريبة منه وجدانياً.. لكنها لم تأتِ من باب المديح أو التمجيد بقدر ما كانت عتبات للدخول في قضايا إنسانية لها عمقها وتأثيرها في العامة.

من جهة أخرى للمكان آثره الجليّ على نصوص الشاعر هذا المكان بكلّ أحداثه التي عاشها الشاعر خلال خمسين عاماً وقد تآلف معه وفهم معنى وأهمية تنوعه، فكان لبرلين حصتها من قصائد الشاعر “شارع فريدل نويكولن، والربيع في شارع أوربان، لكريتسبيرع مقهى شتاين بلاتس ونساء كرويز كولن والقصيدة الأجمل كانت قصيدة Landwehrkanal „ على ضفتي هذه القناة التي تمرّ وسط برلين، تزهر الأشجار في شهر أيار، ويتهادى البجعُ رزيناً على صفحة مائها، يكتب الشاعر قصيدته أيقونة للمدينة، يُرددها قارب ” الآدب Literaturschiff „ ويسمعها زوار برلين باللغتين العربية والألمانية كلما وصل بهم القارب إلى النقطة التي كتب فيها صلاح يوسف هذه القصيدة.

في ساعةٍ تسمحُ بها عجلةُ الزمان / نتمشّى على الضّفتين.. /الشمس تميلُ إلى الانحدار/ الكستناء تزهر في جنون / أبٌ يلاعب طفله، فتستردّ الحياة عاديّتها / العشّاق مُستلقون على ظهورهم / ويحملقون في بعضهم بحنان / كأنّما الأرض في لحظة التّكوين / … البجع يتبختر على صفحة الماء الخضراء التي لا تمنحه مرآة يعجبُ نفسه فيها / …. هذا الجزء من المدينة يجاهد كي يستردّ ما سرقه منه الجراد…/

هو ابن عالَمين:

رغم الأعوام الطويلة التي قضاها الشاعر في ألمانيا إلاّ أن تساؤلات الهوية مازالت تلحّ على وجدانه، فهو ابن المجتمع الذي تشرّب ثقافته وأعجب بقيمه وناضل من أجلها، هذا المجتمع الذي لم يُشعره يوما أنّه غريب عنه، إلاّ أن هاجس الأبنوس الأصلي مازال يشغل وجوده وانتماءه كل ذلك يجعله يعيش هذا التنازع في ذاته، إن هو لم يصرّح به مباشرةً إلاّ أن ذلك يطفو على سطح وجدانه شعراً، فيحاول أن يحسم الجدل ليقول: مرّة أنا ألماني أسود، أو انا ابن عالمين، أو أنا مُنتَج ثقافتين، خلاصة القول هو مثل قصيدته مزيجٌ متعددٌ من الثقافة الجماليّة المُشبعة بروح التغيير وصوت متفرّد.

يقول في قصيدة “طلب مواطنة مُزدوجة”

حملتني أميّ تسعة أشهر/ وأرضعتني لبن الأنهار المتوحّشة / تتبعتٌ خُطى غوته / وقادتني كلماته إلى باب العالم الكبير / أعلن حبّي لهذه المدينة / أأقول مدينتي؟ / … أخاف يوم الحريق الكبير أن تتنكرني / روحي تعويذة مُقفلة / في عميق الليل / أنشطر رجلين/ أيهّما أنا في ضجة الأقنعة / في الصباح تبتلعني المدينة / .. من أنا يا سيدي؟ / أنا طفل العالمَين.

أما في قصيدة (نخلة على الجدول) وقد استعار الشاعر عنوانها من إحدى قصص الطيب صالح وأهداها له أيضاً، ترى فيها روح النيل ومعاناة الأطفال، وعلى طريقة الشعراء الثوريين يقول:

 يتدفّق الطمي من سمرته الدّاكنة / ونخيل محمّل بالرطب / على جدول عينيه شفق غروب شمس الخرطوم / المنفى يرميك لصحراء أخرى/ تحمل الكنوز التي أودعك سرها النيل/ …

في غالب الأحيان قصائد الشاعر ليست عفويّة بقدر ما تحمل بين طياتها من قضايا تحريرية، وأفكار ثوريّة هي ثورة على الظلم الذي ساد العالم، يخاطب أمريكا معرياّ إياها في قصيدة نيويورك ” تحت شوارع مدنك المسفلتة / ضحايا العبودية / موتي تشيلي نيكاراغوا فيتنام وفلسطين .. “.

يعتمد صالح يوسف على الجملة الشعرية القصيرة، المكثفة والتي تضج بالدلالة والتأويل، وهي جمل انتقائية، تلحظ فيها اتكاء الشاعر على مخزون قراءاته للأدب العالمي والكاريبي، خاصة أنّ هذه الجمل الشعرية يشتغل عليها بطريقة قلب الصورة المألوفة، أو تراسل الحواس من مثل ” حيث تدور مهرجانات الجثث ” أو “السماء التي يعيش فيها الابنوس والانبياء، ” قمة جبل الثلج الملتهب يحمّر تارةً ويسيل حينا” أو فوضى نظامي، والنسوة تطارد الأساطير” .

يطلق أسئلته أحيانا بلغة الوجع التي تعي الجواب ” لماذا تموتون في سنّ مبكرة يا شعراء الشعب”؟

يصرّ صلاح يوسف على طباعة كتبه على شكل كراسات، وقد أرفق النصوص برموز افريقية جميلة.

يقول إن هذه الفكرة تستهويه وتعجبهُ لأنها ترتبط بالحالة التي يعيشها، حالة الثورة على كلّ شيء بعيداً عن قيود الروتين المتعارف عليه، وهي تعكس ثقافة الشباب التي كان يوماً ما جزءاً منها، وعلى العموم الكتب لاقت مبيعاً جيداً بشكلها الحالي البسيط.

 * صلاح يوسف شاعر سوداني مقيم في برلين

.