عبء الرجل الأبيض

المطالبة بإلغاء ديون البلدان الفقيرة

د. أمير حمد

قالت المديرة الإدارية لصندوق النقد الدولي،كريستالينا جورجيفا: إنه «من المحتمل جدًا» أن تخفض منظمتها توقعاتها للنمو العالمي في الأشهر المقبلة، في ظل تعمق الأثر الاقتصادي لجائحة فيروس كورونا المُستجد.

ويتوقع الخبراء حدوث ركود، وارتفاع معدلات الفقر، وتزايد الجوع والبطالة في البلدان التي تفتقر إلى شبكات أمان اجتماعي أو لا توفرها على الإطلاق؛ وهي النتائج التي عجلت بحدوثها فترة الشلل الأوسع الذي فرضته فترة الجائحة على معظم أنحاء العالم. وأصبحت حياة عشرات الملايين في حالة حرجة الآن ومصيرها على المحك.

وقالت جورجيفا، خلال مؤتمر: «إن البيانات الواردة من العديد من البلدان أسوأ بالفعل من أشد توقعاتنا تشاؤمًا».

وغردت جورجيفا على موقع التواصل «تويتر» قائلة: «بالطريقة نفسها التي يضرب بها مرض كوفيد-19 بشدة تلك البلدان التي لديها متطلبات مسبقة، فإن الأزمة تضرب بعض البلدان على نحو أشد ضراوة من غيرها. ويتحرك صندوق النقد الدولي بخطى سريعة وحاسمة لتزويد الدول بالتمويل الطارئ اللازم».

ما الذي يمكن فعله لتخفيف بعض الألم؟

حشدت الحكومات في الدول الغنية تريليونات الدولارات لتحفيز الإنفاق، ودعم رفاهيتها، وإنقاذ بعض الشركات، وتقديم الدعم النقدي مباشرة إلى المحتاجين. ولكن رغم هذا، يخشى المنتقدون أن مثل هذه الإغاثة ليست سوى مُهدئ مؤقت.

في مقالٍ نشرته صحيفة واشنطن بوست يرى الكاتب أن الوضع الذي يواجه عشرات البلدان الأكثر فقرًا يزداد سوءًا. فليس لديهم القدرة نفسها على اقتراض الأموال بفوائد منخفضة أو طباعة الأموال الخاصة بهم (على المكشوف). ويواجه الكثيرون الآن احتمال التخلف عن سداد الديون في ظل تداعي تروس حيوية في اقتصاداتهم إلى حد التوقف.

يرى الكاتب، الذي عمل كبير محررين بمجلة تايم سابقًا، أن الأزمة أبرزت المستويات المتدنية الصارخة لعدم المساواة العالمية: فحتى قبل أن تضرب الجائحة العالم، أنفقت 64 دولة (دخلها القومي) في خدمة ديونها المُستحقة للبلدان الأكثر ثراء، والمنظمات المتعددة الأطراف مثل صندوق النقد الدولي والمقرضين الخاصين، وذلك على نحو يفوق ما خُصص للإنفاق على الرعاية الصحية لشعوبها.

ووفقًا لما أورده معهد بروكنجز البحثي، تنوء البلدان النامية بعبء ما يقرب من 11 تريليون دولار من الديون الخارجية، بالإضافة إلى 3.9 تريليون دولار عبارة عن خدمة دين مستحقة هذا العام. وفي الشهر الماضي، اتخذ البنك الدولي وصندوق النقد الدولي خطوات لتوفير قدر ضئيل من تخفيف عبء الديون لعشرات الدول التي تعاني من مشاكل، بينما قال وزراء مالية مجموعة العشرين ذات الاقتصادات الضخمة إنهم سيعلقون مؤقتًا مدفوعات خدمة الديون لأشد البلدان فقرًا في العالم.

دعوة لإعفاء البلدان الفقيرة من الديون

يشير الكاتب إلى أن بعض السياسيين حول العالم يريدون اتخاذ مزيد من الإجراءات الشاملة. فالسناتور بيرني ساندرز (النائب المستقل عن ولاية فيرمونت) والنائبة إلهان عمر (النائبة الديمقراطية عن ولاية مينوسوتا) دعيا يوم الأربعاء الثالث من يونيو، في رسالة موجهة إلى جورجيفا، ورئيس البنك الدولي ديفيد مالباس، المنظمات المالية الدولية للنظر في «الإعفاء الشامل من الديون» لأكثر من 70 دولة من أفقر دول العالم.

ووقع الرسالة، التي دعت أيضًا إلى تقديم حافز مالي كبير للمساعدة في استقرار الاقتصاد العالمي، أكثر من 300 مُشرّع من أكثر من 20 دولة، من بينهم الرئيس الأرجنتيني السابق كارلوس منعم، ووزير المالية اليوناني السابق يانيس فاروفاكيس، والسيناتور ريتشارد جوزيف دوربن (النائب الديمقراطي عن ولاية إيلينوى)، أحد كبار الأعضاء (المخضرمين) في مجلس الشيوخ الأمريكي.

وجاء في الرسالة، التي نشرت مسودة منها في ملحق «تودايز وورلد فيو» (Today’s WorldView) الذي يصدر عن الواشنطن بوست: «إن المجتمعات الضعيفة المعرضة للخطر والتي تفتقر إلى الموارد والامتيازات اللازمة لاتخاذ تدابير الصحة العامة المناسبة ستواجه في نهاية المطاف عبء فيروس كورونا المستجد الهائل».

وأضافت الرسالة: «وهذا الضرر يعني أن سلاسل التوريد العالمية، والأسواق المالية، وغيرها من العمليات التبادلية المترابطة ستستمر في التعرض لحالة من الاضطراب وعدم الاستقرار».

دعوة لصندوق النقد الدولي للتدخل

ودعا النائبان الأمريكيان إلى تبني أداة تكنوقراطية في مجموعة أدوات صندوق النقد الدولي المعروفة باسم حقوق السحب الخاصة (SDRs)، والتي يمكن أن تجلب مئات المليارات، بل تريليونات الدولارات، من السيولة الجديدة إلى الاقتصاد العالمي.

كانت المرة الأخيرة التي سمح فيها صندوق النقد الدولي بتدفق كميات كبيرة من حقوق السحب الخاصة الإضافية في عام 2009 كجزء من ضخ تريليون دولار في الاقتصاد العالمي في أعقاب الأزمة المالية.

وجاء في تدوينة لمؤسسة أوكسفام الدولية على موقع تويتر ضمن وسم لأخبار صندوق النقد الدولي أن احتياطيات الذهب ارتفعت إلى 19 مليار دولار منذ انتشار جائحة فيروس كورونا. وهذا أكثر من الدين الكامل الذي تدين به الدول الأكثر فقرًا. ويجب أن يستخدم صندوق النقد الدولي هذه الأرباح المفاجئة في إلغاء الديون لتجنب الخسائر الكارثية في الأرواح في البلدان النامية.

ووجه الاقتصاديون وصانعو السياسات المؤيدون لإلغاء الديون بالفعل دعوات مماثلة لتبني جولة جديدة من حقوق السحب الخاصة، والتي لن تحدث فرقًا كبيرًا بالنسبة لدافعي الضرائب في الدول الغنية.

ويقول مؤيدو الفكرة إن الدول الغنية يمكنها أن تحول طواعية بعض الأموال الناجمة عن حقوق السحب الخاصة – والتي تخصص على أساس حصص صندوق النقد الدولي التي تمنح الدول الغنية حصصًا أكبر – إلى الدول الأكثر فقرًا.

وقال المرشح الرئاسي الأمريكي الأسبق ساندرز في رسالة بالبريد الإلكتروني: «إن اتخاذ إجراءات منطقية لإلغاء الديون وتوفير الاستقرار المالي – وهي خطوات لا تكلف دافعي الضرائب الأمريكيين بنسًا واحدًا – هي أقل ما يمكننا فعله لمنع قدر لا يمكن تصوره من الفقر، والجوع، والمرض الذي يمكن أن يضر مئات ومئات الملايين من البشر».

ترامب يعارض إعفاء الديون

يتابع كاتب المقال: حتى الآن، رفضت إدارة ترامب، التي تمارس وزارة الخزانة فيها نفوذًا هائلًا على صندوق النقد الدولي، الفكرة. ويتمثل أحد أسباب معارضتها في عدم الرغبة في إنشاء آلية تعزز الاحتياطيات الأجنبية لدول لديها خصومة معها مثل الصين، أو إيران، أو فنزويلا دون إجبارها على تقديم أي تنازلات.

لكن المنتقدين يقولون إن مثل هذا التفكير قصير النظر. وقال مسعود أحمد، رئيس مركز التنمية العالمية والمسؤول الكبير السابق في صندوق النقد الدولي والبنك الدولي: «عندما تشتعل النار في المنزل، لا تمنع رجل الإطفاء عن أداء مهمته لحين حسم من سيدفع ثمن أضرار المياه». وأضاف أحمد: «لا توجد عصا سحرية لنستخدمها، ولكن هذه هي أقرب أداة لدينا من شأنها أن تساعد أكبر عدد من البلدان التي تواجه مشاكل اليوم».

ويجادل خبراء آخرون بأن إدارة ترامب يمكن أن تستفيد من نفوذها في صندوق النقد الدولي في صدامها الجيوسياسي مع الصين، التي تمتلك الآن شريحة كبيرة من الدين العام في العالم النامي، بما في ذلك ثلث الديون السيادية لقارة أفريقيا، خاصة وأن الصين غير ملتزمة بتقديم إعفاء كبير لهذه الدول.

في هذا الصدد، كتب المؤرخ الاقتصادي آدم توز: «كان من الممكن أن يكون دعم التوسع في موارد صندوق النقد الدولي أحد وسائل الولايات المتحدة لاستعادة الأرض التي خسرتها لصالح الصين، بسبب التعامل الخاص بأزمة مرض كوفيد-19، لكن إدارة ترامب إما تفتقر إلى الرؤية أو ترى أن الثمن السياسي لهذا الأمر باهظ للغاية».

ويختم الكاتب قائلًا: بالنسبة إلى الموقعين على الرسالة، يعتبر الإعفاء من الديون أحد القواعد الأساسية لتحقيق تعافٍ عالمي أوسع. وقال ساندرز: «إن ما تظهره لنا هذه الأزمة هو أننا جميعًا شركاء في هذا الأمر، باعتبارنا مجتمعًا عالميًّا. وعلينا أن نظهر تعاطفًا وتضامنًا وتعاونًا غير مسبوق في الوقت الحالي، لأن هذه الجائحة أظهرت للجميع أننا سنكون آمنين وأصحاء فقط بقدر ما يتمتع به البشر الأكثر ضعفًا بين ظهرانينا من أمن وصحة».

وتعرَّض البنك الدولي وصندوق النقد الدولي إلى الكثير من الانتقادات على مر السنين.

يسرد اقتصادي البنك الدولي السابق، ويليام إيسترلي، لائحة اتهام مطوَّلة للجهود الغربية للحد من الفقر، في كتابه «عبء الرجل الأبيض» الصادر عام 2006، قائلًا: «خطة إنهاء الفقر في العالم تفضح ذرائع الهندسة الاجتماعية الطوباوية. ومحاولات البنك الدولي لفرض سياسة الأسواق الحرة بسرعة على البلدان النامية في الثمانينيات والتسعينيات، والمعروفة باسم «العلاج بالصدمة» الاقتصادية، أسفرت عن «سجلٍ من الفشل» في أمريكا اللاتينية، وأفريقيا، ودول الاتحاد السوفيتي السابق.

وحين استقال جوزيف ستيجليتز، أحد أكثر منتقدي البنك الدولي صخبًا، من منصبه كبيرًا للخبراء الاقتصاديين في المؤسسة في عام 1999، انتقد دعوة البنك لما يسميه «أصولية السوق الحرة» في العديد من البلدان النامية، وأكد أن الإصلاحات الاقتصادية التي طلبها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي من بين الشروط لتقديم القروض – ما يسمى إجماع واشنطن للتقشف المالي، وارتفاع أسعار الفائدة، وتحرير التجارة، والخصخصة، وأسواق رأس المال المفتوحة – جاءت في كثير من الأحيان بنتائج عكسية على الاقتصادات المستهدفة، وأسفرت عن تداعيات مدمرة على الشعوب. وهو ما يربط بين مشروطية الإقراض العشوائية وبداية الأزمات المالية في شرق آسيا في عام 1997، والأرجنتين في عام 1999.

لكن ما يظهر لنا اليوم، رغم كل ما ارتُكب في حق القارة، أن العديد من الدول الأفريقية لم تتعلم من ذلك التاريخ الأسود لمؤسستي البنك الدولي وصندوق النقد، وما زلنا نسمع عن العديد من الدول الأفريقية التي تقترض من صندوق النقد الدولي.

وقد طلبت أكثر من 100 دولة مساعدة طارئة من صندوق النقد الدولي، وسط التداعيات الاقتصادية الناجمة عن انتشار فيروس كورونا المستجد (كوفيد 19)، وجهود مكافحته.

كما بدأ وزراء مالية عدد من الدول الأفريقية محادثات مع مؤسسات خاصة دائنة لهذه الدول بشأن تعليق سداد أقساط الديون المستحقة على الدول دون إشهار إفلاسها. ونقلت وكالة بلومبرج للأنباء عن ممثل لإحدى المؤسسات الدائنة والذي شارك في المحادثات إن وزراء مالية 10 دول أفريقية على الأقل شاركوا في المحادثات التي تمت عبر الفيديو كونفرانس واستمرت ساعة ونصف تقريبا بمشاركة أكثر من 100 جهة دائنة.

وتناول الجانبان خلال المحادثات الآليات التي تسمح للدول الأفريقية بوقف سداد أقساط ديونها، مع استمرار قدرتها على الاقتراض من أسواق المال الدولية في المستقبل.

وأشارت الوكالة إلى أن الدول الأفريقية تطالب الدول والمؤسسات الدائنة لها بالسماح لها بتعليق سداد أقساط ديونها مؤقتا لتوفير الموارد المالية اللازمة لمواجهة تداعيات جائحة فيروس كورونا المستجد.

وقالت الوكالة إنه في حين وافقت الدول والمؤسسات العامة الدائنة للدول الأفريقية على تأجيل سداد أقساط ديون بقيمة 20 مليار دولار خلال العام الحالي، اتضح أن إقناع المؤسسات الخاصة الدائنة بالانضمام إلى هذه المبادرة أصعب من الناحية القانونية وأشد تعقيدا.وتهدد هذه الجائحة بانهيار نظم الرعاية الصحية في القارة الأفريقية التي تضم حوالي ثلثي فقراء العالم.

.