سوار الذهب.. الجنرال الذي قاد انقلابًا من أجل مطالب شعبية!

.

احمد الجمال

أعلنت السلطات السودانية وفاة الرئيس السوداني الأسبق المشير عبد الرحمن سوار الذهب، في المستشفي العسكري بالعاصمة السعودية الرياض، عن عمر ناهز 83 عامًا؛ بينما ستظل قصته في كُتب التاريخ والذاكرة تحكي كونه الرئيس العربي الوحيد الذى انحاز لثورة بلاده حين كان قائدًا للجيش السوداني، وتنازل عن السلطة طواعية، للحكومة الجديدة المنتخبة برئاسة رئيس الوزراء آنذاك الصادق المهدي.

يرسم التقرير التالي مشاهد من سيرة الجنرال عبد الرحمن سوار الذهب، وأبرز محطّاته التي بدأها طالبًا في الكلية الحربية وأنهاها في مجال الدعوة الإسلامية.

مشوار سوار الذهب

كحال آلاف السودانيين ممن استهوتهم البدلة العسكرية؛ قرّر سوار الذهب، المولود عام 1935 في مدينة الأبيض شمال كردفان وسط السودان الالتحاق بالكلية الحربية؛ الدفعة السابعة، ليتخرج فيها ضابطًا في القوات المُسلحة السودانية في عمر قارب العشرين عامًا.

لم يكن ترقّي سوار داخل القوات المُسلّحة السودانيّة تقليديًا مثل غيره من الضباط؛ بل أخذ مسارًا موازيًا في التحصيل الأكاديمي، ورفع قدراته العسكرية عبر المُشاركة في عدد من الدورات الدراسية العسكرية في بريطانيا والولايات المتحدة والأردن، والتى انعكست على مستواه في مسار المناصب التى خدم فيها داخل المؤسسة العسكرية.

قدراته العسكرية العالية وتحصيله لعدد من الدورات العسكرية في الخارج أتاحت له الترقّي والعمل في أماكن مؤثرة داخل الأجهزة الأمنية؛ حتى بلغ أحد أرفع المناصب داخل الجيش متمثّلًا في منصب رئيس هيئة أركان الجيش السوداني، ثم ما لبث أن اُختير وزيرًا للدفاع في عهد الرئيس جعفر النميري عام 1985، والتي أعقبها قرارٌ باختياره قائدًا عامًا للقوات المُسلحة السودانية.

وقد أتاحت الدورات العسكرية الفرصة لسوار اكتشاف صيغ جديدة في العلاقات بين الجيش والسلطة المدنية في الغرب والخطوط الفاصلة بينهما، وإعادة النظر في التجارب العربية التي باتت فيها المؤسسة العسكرية المهيمنة على السُلطة السياسيّة لسنوات طويلة، بحُكم الانقلابات العسكرية وسيطرة الجنرالات على مفاصل اقتصاديّات عدّة بلدان عربيّة.

ولم يكن السودان استثناءً من تدخّلات العسكريين في الشؤون السياسيّة، إذ شهد البلد انقلابًا عسكريًا في 25 مايو (أيار) 1969 بواسطة زميل سوار الذهب في الكلية العسكرية، جعفر النميري الذي أطاح بالحكومة المدنية المنتخبة؛ ويبدأ فترة حكمه التي عرفت بـ«عهد مايو» نسبة لشهر الانقلاب العسكري.

على مدار سنوات حُكم النميري؛ توسعت قاعدة الغضب تجاهه إثر الإعدامات السياسية ضدّ معارضيه، والظروف الاقتصادية بالغة السوء التي مرت بها البلاد، وارتفاع الديون الخارجية حتى وقعت انتفاضة شعبية سنة 1985 لإسقاط حُكمه، حسم فيها سوار الذهب مسألة نجاحها عبر تدخل الجيش لإسقاط النميري والانحياز للشعب.

تزامن وجود النميري في زيارة خارج البلاد خلال وقوع التظاهرات، قبل أن يقطع زيارته للعودة إلى بلاده حتى جاءه خبر دعم الجيش لتظاهرات بلاده؛ فما كان من نميري إلا أن عدل عن العودة واضطر إلى تغيير وجهته إلى القاهرة التي اتخذ منها منفى دائمًا له حتى وفاته في عام 2000.

سلّم السلطة وسكن إلى الظل

صنع المشير سوار الذهب استثناءً في قادة الجيوش الذين يستلمون السُلطة بعد الانتفاضات والثورات، والذين سُرعان ما يُسيطرون على كُرسي الحُكم ويرفضون الرحيل، وقدّم درسًا فريدًا في الديمقراطيّة حين قاد البلاد لعامٍ واحد رئيسًا للحكومة الانتقالية بعد الإطاحة بالنميري؛ وأجرى بعدها انتخابات عامة في العام 1986 فاز بها رئيس الوزراء الصادق المهدي 1986، قبل أنّ يطيح به الرئيس الحالي عمر البشير بانقلاب عسكري عام 1989.

ورغم العلاقة الجيدة التي جمعته مع النميري، وثقة الأخير فيه دومًا في قيادة الجيش، خصوصًا بعدم رفض تسليم حامية مدينة الأبيض العسكرية، عندما كان قائدًا للحامية أثناء انقلاب الرائد هاشم العطا ضد نميري عام 1971؛ إلاّ أنّ سوار الذهب قرّر الانحياز لإرادة الشعب وتسليم السلطة لحكومة مدنيّة منتخبة.

وفقًا للكاتب خليل قطاطو في مقالة منشورة بجريدة «القدس العربي»؛ فإن سوار الذهب «هو الرئيس العربي الوحيد الذي لم يغادر كرسي الرئاسة ميتًا او معتقلًا أو منفيًّا أو مسجونًا أو فارًا أو متنحيًا او متنازلًا عن العرش بناء على ضغط من العائلة أو من قوى داخلية أو خارجية أو ثورة شعبية أو انتفاضة أو انقلابًا عسكريًّا آخر. فعل ذلك بكامل إرادته، مقتنعًا بأن الحكم الديمقراطي أنسب للسودان من الحكم العسكري. أصبح حالة فريدة لم تتكرر في التاريخ العربي المعاصر منذ ثلاثة عقود، ولا حتى قبلها».

بعد تسليم سوار السلطة؛ اختار العزلة وسكن إلى الظل؛ إذ قرر بمحض إرادته أن يبعد تمامًا عن السلطة؛ وترفّع عن أي منصب إشرافي على سبيل الوجاهة الاجتماعية؛ واختار مسار الانخراط في العمل الدعوي الذي لطالما حتمت التقاليد العسكرية أن يُؤجلها لحين انتهاء خدمته العسكرية التى تستوجب فصلًا وتمييزًا بين العمل الدعوي والعسكري.

الجيش والشعب إيد واحدة

صنعت إطلالة المشير عبدالرحمن سوار الذهب صباح السادس من أبريل (نيسان) عام 1985، عبر شاشة التلفزيون القومي السوداني، بكامل زيّه العسكري مشهدًا خالدًا في ذاكرة المواطن العربي، إذ أعلن لجموع الشعب السوداني في بيانه الأول: «لقد ظلت القوات المسلحة خلال الأيام الماضية تراقب الموقف الأمني المتردي في أنحاء الوطن وما وصل إليه من أزمة سياسية بالغة التعقيد. إن قوات الشعب المسلحة حقنًا للدماء وحفاظًا على استقلال الوطن ووحدة أراضيه قد قرّرت بالإجماع أن تقف إلى جانب الشعب واختياره، وأن تستجيب إلى رغبته في الاستيلاء على السلطة ونقلها للشعب عبر فترة انتقالية محددة، وعليه فإن القيادة العامة تطلب من كل المواطنين الشرفاء الأحرار أن يتحلوا باليقظة والوعي وأن يفوتوا الفرصة على كل من تسوّل له نفسه اللعب بمقدرات هذه الأمة وقوتها وأمنها».

تبع هذا البيان الذي خاطب فيه جموع الشعب السوداني بلقاء مع ضباط وجنود حامية مدينة أم درمان ذكر فيه «أن القوات المسلحة تقف بصلابة خلف الثورة والقائد العام نميري».

يتذكر سوار الذهب مشاهد هذه الفترة: «أدركت أن شعبية الرئيس لم تكن موجودة بالنظر لحجم التظاهرات؛ وأدركت أن مهام القوات المُسلحة حماية ومسئولية كبيرة أن تحافظ على الدولة؛ كل هذا جعلني أفكر في مستقبل السودان، شعرت أن هناك رغبة ولا بد من الاستجابة لمطالب الشعب السوداني؛ فما كان منّي إلا أن أعلنت ننحاز إلى جانب الجماهير، ونحكم البلاد لفترة محدودة».

تحول مشهد سوار الذهب وهو يعلن دعم تظاهرات شعبه إلى أيقونة تُستدعى دومًا لإقناع جنرالات الجيوش العربية بترك السلطة؛ كما حدث في السودان نفسها في عام 2012، عقب وقوع تظاهرات كُبرى متواصلة ضد حُكم الرئيس عُمر البشير احتجاجًا على الإجراءات التقشفية التي أعلنت عنها الحكومة السودانية.

واستدعى وقتها المتظاهرون سيرة الجنرال الذي انحاز لمطالب الشعب؛ وكرّروا في صيحاتهم المطالب بدعوة القوات المسلحة وقوات الشرطة إلى «الامتناع عن مواجهة الشعب أو التصدي إلى ثورته». لم تنقطع سيرة الجنرال وجرى تخليد ما فعله أثناء ثورات الربيع العربي باستدعاء مكثف وسط جموع المتظاهرين لقصته؛ خصوصًا مع تباين ردود فعل الجيوش العربية إزاء التظاهرات.