ساعة واحدة في ضوء النهار

موسى الزعيم

هي الرواية الثانية للكاتب السوري مُضر عدس، فهي ترصد واقع المجتمع السوريّ، من خلال سيرة أسرة آل الفرّان، التي تعيش في دمشق، هذه الأسرة التي عانت الانكسارات الكثيرة، إنْ كان المستوى الأسريّ الفرديّ أو الوطنيّ، تتخذ الرواية من الأحداث التاريخية في سورية خلفية لها حتى بداية الثورة عام 2011.

 توالت خيبات هذه الأسرة منذُ مشاركة توفيق الفرّان في حرب فلسطين عام 1948 حيث عاد خائباً منهزماً مع بقية الخاسرين، مروراً بأحداثٍ وانهزاماتٍ سياسية كثيرةٍ منها حرب 1973 التي خبر ممدوح الفرّان جزءاً من أحداثها وخفاياها عن قرب.

 وبين تلك الأحداث، يقفُ الكاتب على تفاصيل كثيرة، مرّت في حياة المجتمع السوريّ، وتقلباته تبعاً للحالة السياسية، فتؤرّخ الرواية مثلاً لأحداث اللاذقية، وفساد صفقات البذار التي أفلست الفلاحين وغيرها من الأحداث التي مرّت في المجتمع بعيداً عن التأريخ السياسي للسلطة، وصولاً إلى حكم آل الأسد وانتهاءً ببداية الثورة وتعالي نداءات الحرية في شوارع دمشق.

عبر 17 مقطعاً يسرد عدس سيرة هذه الأسرة وفي تكوينها وعلاقات الآباء بالأبناء وأحلامهم وطموحاتهم وطموح التاجر الذي وسّع تجارته وأتقن صَنعته، والتي تمثل في الغالب اهتمام الدمشقيين في أن يكونوا سفراء تراث وصناعة متقنة، فتوفيق الفرّان، بدأ حياته كعاملٍ بسيطٍ في مصنع ثم انتقل إلى ورشة للنجارة، لتتوسع تجارته وصناعته لتشمل دول أوربا الشرقية، فقد صار يدير فيها ورشات لصناعة المنسوجات والحفر على الخشب، والأنتيكة.

 توفيق الذي انتكس على المستوى الفردي والعام، انشغل في بناء مجده الشخصيّ في جمع الثروة وتعزيز مكانته الاجتماعية، مما جعله يبدو فوقياً لا تُبرّر تصرفاته في بعض الأحيان، انطلاقاً من نوازع شخصيّة تقترب حدّ جنون العظمة، في بعض تصرفاته المُبالغ فيها.

 يعتقد توفيق الفرّان أن العمل في التجارة يُحقق له الحظوة الاجتماعية إذ يرى فيها معادلاً وموازياً لدخوله المُعترك السياسي فالحالة التجارية والمالية كانت، داعمة للموقف السياسي، تصنعُ تحت الطّاولة ما تصنعه السياسة في العَلن، بل وأكثر.

 أمّا رشيد الأخ، فقد درس الحقوق في جامعة دمشق وبعد أن تخرّج علّق شهادته على الجدار معطلة لكنه يحنّ للنظر إليها بين الفينة والأخرى وليعمل أيضاً في التجارة وتتطور نتيجة مهارة الإقناع لديه في نسج قصص غرائبية لأهم قطع المجوهرات التي تبدعها يده، فيغدو من أهم التجار في هذا المجال وليصير جل ّزبائنه من أبناء الطبقة المخملية، مما يقربه من الشخصيات السياسية والعسكرية في دوائر القرار.

  أسرة الفران تتوارث الخيبات والانكسارات كما تتوارث المال والجّاه، لعل الرواية ترمي من وراء ذلك في إشارة إلى دمشق المدينة الغنية بتراثها وحضارتها وابتلائها بحفنة من السياسيين يجرونها دوماً إلى الخلف يسرقون ألق جمالها.

 من هنا يبدو أن لعنات الكبار لا يسلم منها الصغار، فممدوح الابن وهو الطبيب الحُلم بالنسبة للأسرة ففي لحظة ولادته هتف أبوه ” وُلد طبيبُ الأسرة ” ممدوح يتطوّع في بداية شبابه في إنقاذ المصابين في حرب تشرين، لعلّه يؤدّي جزءاً من دين الوطن عليه، ويزيد خبرته الطبيّة، لكنّه لم ينل من تلك التجربة سوى كنس الدم من على أرضية النقطة الطبية التي تطوع للعمل فيها، والتي تحكمها أمزجة كبار القادة ” الأطباء ” في ذلك الوقت.

 يرصد ممدوح الشاب المقبل على مستقبل طبّي واعد، حجم الزيف والخذلان في تلك الأثناء فيعود منكسراً كخيبة أبيه.

 من جهة أخرى يبدو أن تأثير هذه الخيبات انعكست على تصرفات الأب توفيق بشكلٍ غير مُبرر فحين توفيت ابنته أسماء في حريق منزل الأسرة تبرّع بنصف ثروته لبناء ضريح لها ثم يطليه بالذهب ويحوله إلى مزار، كما تبرع بما تبقى للجامعة التي من المفترض أن تدرس فيها في أوربا، فيعود صِفر اليدين بعد أن باع ورشاته ومصانعه في أوربا، في حين أن الابن ممدوح يتّبع ذات السلوك، فبعد أن فتح عيادته انحرف سلوكه الطبّي، ليغدو نوعاً من الجنون أو الفنتازيا.. فهو لا يستقبل المرضى إلاّ في الليل ويخوض معهم في أحاديث لا علاقة لها بالطبّ، يدخّن في العيادة، يجهد في فلسفة وافتاء بعض القضايا فيغدو مستودع أسرار المرضى وأحياناً يعنّفهم، ومع ذلك يتوافدون إلى عيادته؛ لأنّها مجاناّ

 ممدوح ورغم وضوح خطّ حياته المهنيّ فقد تخرج من الجامعة طبيباً إلاّ أنّ لعنةً ما كانت تلاحقه ويبدو ذلك من خلال كابوس مرعب تطيّر منه “حيث كان يرى نفسه يسير وحيداً في شوارع دمشق في عتمة الليل، أنين الخوف سيطر على أحياء تلك المدينة الوادعة، فالأرض خاوية، والسماء ملطخة بالبقع البيضاء.. “

 فعلاقة الحبّ التي أقامها مع محبوبته لينا فشلت حين هَجَرته إلى أمريكا دون أن يعلم سبب ذلك، ليكتشف فيما بعد أنّها تعاني من مرض نفسيّ وسافرت بقصد العلاج

وكذلك اتّهم وسُجن بسبب محاولة اغتيال الرئيس حافظ الأسد؛ كانت تُهمته أنه التقى أحد أفراد خليّة عملية الاغتيال ونام عنده ليلةً، لكن العملية فشلت وألقي القبض على كلّ من له صلة من قريب أو بعيد بعناصر الخلية اعتقلوا وسجنوا ولم يكشف عن مصيرهم، ومن هنا تأتي المقولة التي يستخدمها الروائي ” وراء الشمس” وهي إشارة إلى التغييب القسري وعدم كشف مصير المعتقل أهو حي أم ميت؟! وقد ترسخت في الذهنية السورية لارتباطها بالقمع الأسدي.. ممدوح المعتقل الذي قضى اثنتي عشرة سنة في سجون الظلام في تهمةٍ لا ناقة له فيها ولا جمل.

من جهة أخرى تتطرّق الرواية إلى قضية الصراع والتكتلات داخل السجن، ترصد حالات القمع والتعذيب وتقف على صراع الأفكار بين المتدينين والمتنورين.

 في الرواية: يعمد الكاتب إلى لعبة الزمن يوهمك أنه يسير وفق تسلسل زمني للأحداث لكن في كثير من الأحيان يخترق تلك القاعدة ليعيد فكفكة الأحداث وربطها من جديد معتمداً على خبرة سينمائية في التشويق والعبثية السحريّة في بعض الأحيان.

مُضر عدس: كاتب سوري مقيم في برلين

.