دموع أمريكا

.

عاطف عبد العظيم

اعتبر الكاتب البريطاني الشهير روبرت فيسك أن الحملة التي يشنها نواب أميركيون على ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، بسبب مقتل الصحافي جمال خاشقجي بمقر قنصلية بلاده في إسطنبول، موجهة إلى ترامب في الأساس.

وقال فيسك في مقال: هل يُعقل أنني أنا الوحيد – بخلاف أولئك المهووسين بولي العهد السعودي- الذي يجد مشهد إدانة أمهر الديمقراطيين والجمهوريين الأميركيين قتل الأمير محمد بن سلمان لجمال خاشقجي مثيراً للاشمئزاز؟

فتصريحاتهم التي يصفون فيها الأمير بأنه «مجنون» «خطير» «قوة هادمة» «منشار قاطع» إنما تشير إلى أنهم يملؤهم الغضب. وأضاف فيسك: من الواضح أنَّ مديرة وكالة الاستخبارات الأميركية، جينا هاسبل، التي وافقت بسرور على تعذيب الأسرى المسلمين بسجن أميركي سري في تايلاند، كانت تعرف ما تتحدث عنه حين أدلت بشهادتها حول الأمير محمد بن سلمان والمعاناة التي نزلت بخاشقجي.

إذ تشير تسريبات حكومية أميركية إلى أنَّ هاسبل كانت مُلِمّة بكل ما يتعلق بصرخات الألم والعذاب الذي عاناه رجال عرب خُيِّل إليهم أنَّهم يغرقون (في إشارة إلى استخدام الإيهام بالغرق كوسيلة تعذيب)، واستجداء ضحايا أميركا باستماتة للبقاء أحياء من داخل معتقلات التعذيب هذه في عام 2002 وبعده. وتابع الكاتب: ففي نهاية المطاف، لا يمكن أن تكون الصرخات اليائسة لرجل يعتقد أنه يغرق، أو رجل يظن أنه يختنق مختلفة عمَّا حدث لخاشقجي، باستثناء طبعاً أنَّ ضحايا وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية عاشوا يوماً آخر -أو بالأحرى أياماً عديدة أخرى- ليتعرضوا للتعذيب،  في حين كان خنق خاشقجي يرمي إلى إنهاء حياته. وهو ما حدث بالفعل.

منذ جيل مضى، ذهبت «عملية العنقاء»، وهي برنامج تعذيب واغتيال نفذته وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية في فيتنام، لما هو أبعد مما يمكن أن يصل إليه خيال جهاز الاستخبارات السعودي. وفي لغة الجواسيس، حياة خاشقجي «انتهت بمنتهى الإجحاف». وإذا كان بإمكان وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية أن تعطي الإذن لارتكاب مذابح في فيتنام، فلمَ لا يحق لديكتاتور عربي القيام بالمثل على نطاق أصغر بكثير؟ صحيح، لا أتخيل أن يكون الأميركان قد اختاروا استخدام منشار العظم في هذه العمليات، بل اختاروا للتعامل مع أعدائهم في فيتنام، حسبما تشير إفادات تتعلق بـ «عملية العنقاء»، ارتكاب عمليات اغتصاب جماعي يعقبها تعذيب جماعي. فلماذا إذن يضعون سماعات أذن ويستمعون إلى الموسيقى، مثلما فعل قتلة خاشقجي؟.   

لكن الأمر لم ينتهِ عند هذا الحد. فها هو السيناتور الديمقراطي بوب منينديز يخرج إلينا ويقول إنه يجب على الولايات المتحدة أن «تبعث برسالة واضحة وقاطعة، مفادها أنَّ هذا الفعل غير مقبول على الساحة الدولية». وكلمة «الفعل» هنا تشير بالطبع إلى مقتل خاشقجي. وجاءت على لسان رجل لطالما دافع عن إسرائيل عقب قتلها الأبرياء في غزة.   

وتابع فيسك: إذن، ما الذي يحدث هنا حقاً؟ ربما «الساحة الدولية» التي كان يتحدث عنها منينديز هي البيت الأبيض – وهي عبارة ملائمة حين تفكر في الأمر- الذي لم يكن ولي العهد السعودي غريباً عنه. بيد أنه حين يمكن اعتبار ما لا يقل عن رئيس أميركي واحد تولى هذا المنصب الرفيع مؤخراً، مذنباً بارتكاب جرائم حرب – تحديداً في العراق- وأنه مسؤول عن مقتل عشرات الآلاف من العرب، فكيف بإمكان أعضاء الكونغرس الأميركي أن يتذمروا ويتأففوا حول رجل واحد فقط، وهو محمد بن سلمان، الذي (إذا نحينا للحظاتٍ، حرب اليمن جانباً) ليس متهماً إلا بإصدار الأمر بقتل عربي واحد وتقطيع جثته أشلاء؟

فعلى الرغم من كل شيء، لطالما كان لدى قادة العالم – من بينهم رؤساء الولايات المتحدة أنفسهم- نقطة ضعف تجاه القتلة المحترفين ومن يجب أن يُدانوا بارتكاب جرائم حرب. فمثلاً، عَقَد ترامب لقاءً مخزياً مع زعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون ودعاه إلى البيت الأبيض. ما علينا الآن سوى انتظار رئيس الفلبين، رودريغو دوتيرتي، ليتلقى دعوته.    

أوباما و «الطغاة»

وبحسب فيسك، أمطر أوباما مجموعة من الطغاة الدمويين بالترحاب في البيت الأبيض، من غامبيا وبوركينا فاسو والكاميرون، وذلك حتى قبل أن نسترجع سوهارتو الذي قتلت فرق اغتيالاته نحو نصف مليون من شعب إندونيسيا، وحسني مبارك الذي كان يغتصب رجال شرطته السرية السجناء أحياناً والذي أمر بتنفيذ عقوبة الإعدام في مئات الإسلاميين دون محاكمات عادلة.

لكن، ما هذه «الرسالة الواضحة والقاطعة» التي يثرثر بشأنها السيناتور منينديز؟ فعلى مدى عقود، كانت الرسالة واضحة وقاطعة: «المصلحة القومية الأميركية» تعلو دوماً على الجرائم والأخلاق الدولية، وهذا هو نهج ترامب أيضاً. وإلا فلماذا دعمت الإدارة الأميركية صدام حسين في محاولاته تدمير إيران وشنه حرباً كيماوية عليها؟ أو لماذا سعى دونالد رامسفيلد، وزير دفاع أميركي سابق، لإقناع صدام في ديسمبر/كانون الأول 1993، بالسماح بإعادة فتح القنصلية الأميركية في بغداد، على الرغم من أنَّ هذا الديكتاتور العراقي (لكن، بالطبع، كانت تطلق عليه واشنطن آنذاك «رجلاً قوياً») قد استخدم بالفعل غاز الخردل ضد معارضيه؟ وبحلول موعد وصول رامسفيلد إلى الاجتماع مع صدام، كان أكثر من 3 آلاف ضحية قد سقطوا بالفعل وسط تصاعُد سُحب الغاز في العراق. ووصل إجمالي ضحايا هذه الواقعة إلى 50 ألف قتيل، وبتعبير حسابي: 50 ألف ضعف جمال خاشقجي، بحسب الكاتب البريطاني.

شهادات هاسبل الناقصة

ورغم كل ذلك، يفترض بنا أن نهتز صدمةً وهلعاً حين تقول هاسبل -التي عليها هي شخصياً أن تدلي بعدد من الاعترافات أمام مجلس الشيوخ حول مسائل أخرى- إنَّ الديكتاتور الشرق أوسطي، وهو أحدث المفضلين عند واشنطن، كان يعرف مسبقاً بشأن جريمة مقتل خاشقجي. هل يعتقد منينديز أنَّ صدام لم يُوَقِّع على عقوبة تنفيذ الإعدام بحق آلاف الرجال والنساء العراقيين – وهو ما علمنا أنه فعله من خلال محاكمته الأخيرة- قبل اجتماعه برامسفيلد؟ أو أنَّ دوتيرتي، الذي قارن نفسه بهتلر، لم يُوَقِّع أمر قتل «المشتبهين» بالاتجار في المخدرات؟ أو أنَّ سوهارتو لم تكن له أية علاقة بسقوط نصف مليون قتيل في إندونيسيا خلال حكمه؟

من المفيد بالطبع أن نعرف أنَّ مقتل آلاف الأبرياء في حرب اليمن، التي أشعلها الأمير محمد بن سلمان بنفسه، بدعم لوجيستي من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة -ولسنا بحاجة إلى هاسبل لتخبرنا بذلك- لم يحرك مجلس الشيوخ له ساكناً. ولِم يفعلون هذا؟ أفترض أنها بالنسبة لهم ليست إلا مجرد مجموعة أخرى من العرب يقتلون بعضهم. ولم يأتِ أي من أعضاء مجلس الشيوخ، عقب جلستهم المغلقة مع هاسبل، على ذكر المجاعة في اليمن. بيد أنَّ أعضاء مجلس الشيوخ ملمون بتفاصيل الغارات التي استهدفت مسجداً وحفلة زفاف ومستشفى ومدرسة هناك. لماذا لم تُذرَف أية دموع حزناً على هؤلاء الأبرياء؟ أم أنَّ هذا صعب لأنَّ الجيش الأميركي نفسه – وطبعاً في كل مرة عن طريق الخطأ- قصف مساجد وحفلات زفاف ومستشفيات ومدارس في أفغانستان وسوريا والعراق؟ 

والواقع أنَّ الصدمة والرعب والحاجة لكشف كامل عن المعلومات حول السعوديين، الذي أظهره مشرِّعون أميركيون، يتعلق في الأساس بترامب، والحاجة إلى ربطه بالجريمة البشعة لقتل صحافي بصحيفة The Washington Post الأميركية مقيم في الولايات المتحدة، والذي ألقى الرئيس الأميركي باللوم في الفاجعة الوحشية التي ألمت به على «العالم الخطير» الذي نعيش فيه.