خاشقجي .. ومذبحة الإعلام

صالح عبد الله

وانا أتابع حادثة اختفاء الصحفي السعودي جمال خاشقجي، لم يكن في ذهني إلا شيء واحد فقط، وهو معرفة، ماذا حدث؟

لم يكن لي حكم مسبق، فقد عودتني الأيام والحوادث والتجارب ان لا اتسرع بالحكم ولا اتعجل في اتخاذ قرار، وما زلت كذلك.

يقال: إذا اتاك الخصم وقد فُقئت عينه فلا تحكم له حتى ترى الاخر فربما فقئت عيناه الاثنتان. ويقول بنيامين فرانكلين: خذ وقتك في كل شيء، فالتسرع يؤدي إلى الضياع.

وأمامنا قضية ليس فيها إلا حقيقة مؤكدة واحدة وما عداها هي اتهامات او اراء او تقارير لا مصدر لها.

الحقيقة المؤكدة الوحيدة هي: “المواطن السعودي مختفي”، والباقي اقوال. واتهامات ونفي وتسريب…الخ.

حقائق وأكاذيب

ـ نذكر اكذوبة أسلحة الدمار الشامل التي اتهم بها العراق والرئيس العراقي السابق صدام حسين وظهر لاحقا انها عملية كذب وفبركة، تعاونت فيها المعارضة العراقية والسي أي ايه والرئاسة الأميركية والإعلام الدولي بكل جهاته وتوجهاته، وكانت كذبة كبيرة ضاع بسببها العراق.

ـ نذكر حادثة لوكربي التي حوصرت ليبيا بسببها لسنوات ومنع عنها الإمدادات وتحولت وسيلة القذافي للسيطرة أكثر على ليبيا وأصبح نهب المواطن الليبي سهلا تحت ذريعة “الحصار” وسجن بسببها عبدالباسط المقراحي رحمه الله، رغم انه كان يصرخ أنا بريء. وها هي التقارير تفيد ان ليبيا والمقراحي بريئان من تدبير الحادثة. ولديهم ادلة وصور حول هذا. بالطبع لا انفي ولا أؤكد ولكن ظهر خيط جديد ولم يكن هذا الخيط موجودا سابقا.

ـ نذكر اتهام وكالات ومنظمات وهيئات حقوق الانسان للسعودية باحتجاز المعارض السعودي محمد المسعري ـ والمقيم والنشط الآن في لندن ـ وكم المقالات والاحتجاجات والوقفات التي قامت امام السفارات السعودية مطالبة إطلاق سراحه. واتضح لاحقا انه كان مختفيا اختياريا ومتواريا في اليمن ومنها هرب الى لندن وكانت الحكومة السعودية بريئة من اعتقاله، واتضح بعدها ان اعتقاله كان ادعاء منه هو وزملاؤه في لندن لتسهيل عملية هروبه.

كل هذه تجارب إنسانية وغيرها كثير يحتاج التعامل مع تفاصيلها ملازم ومجلدات.

الإعلام اليوم مسير بمصالح عالمية كبيرة اقتصادية وسياسية وجغرافية تحاول الحصول عليها او المحافظة عليها او زيادتها، بل محاولة القضاء على من يقف ضد هذه المصالح. والضحية هم بعض السذج، وبعض الحمقى والمغفلين وذوي الأهواء الذين يقعون في هذه الحيل والأكاذيب. بينما يتصورون انهم يقفون الى جانب الخير ويناصرون الإنسانية والحرية، وهم يد قط لمصالح دولية تلعب بهم وبعقولهم.

نعود الى قضية جمال خاشقجي، فالمؤكد الوحيد هو انه مختفي، وما عداه مجهول. وليس هنالك أي حقيقة أخرى تؤثر او تغير مجرى فهمنا للحادثة.

قام المحققون الأتراك والسعوديون بعمل تحقيق مشترك شمل كل المناطق المهمة في القنصلية السعودية في إسطنبول. هو تحقيق وبحث جنائي استغرق تسع ساعات في يومه الأول للتأكد من وجود او خلو القنصلية من اثار على ما روجه الاعلام من قتل وتقطيع وما الى ذلك.

كانت الحوادث التي ذكرتها سابقا (صدام ولوكربي والمسعري) طبخت كأخبار طبخا هادئا مزودة ببعض الأدلة المنطقية، وبعض المعلومات الاستخباراتية وبالصور. كانت عمليات متقنة تجعل من الممكن تصديقها ومن الصعب جدا نفيها، لذا وقع العالم ضحية لهذا الكذب ونتيجة لهذا تأثر العراقيون والليبيون والأفغان بل والجزء الأكبر من العالم ودمرت بسببها بلاد، ولم يجرؤ أحد على الوقوف امام هذا التدمير لأن القصة كانت محبوكة.

ولكن قصة خاشقجي مهزلة إعلامية بكل المقاييس، يظهر الخبر ثم يلغى، يظهر الخبر ثم يظهر عكسه او مخالف له، يظهر الإعلان ثم يتضح انه فارغ المضمون، يتهم أناس ويتضح ان منهم من مات من سنين، أو غادر تركيا من سنوات.

أصبح الاعلام سيركا بمعنى الكلمة، أضاع كل هيبة وقيمة له امام القارئ والمستمع والناظر، اعلام يكذب عشرات الكذبات في اليوم ثم يعود فيكذب خلافها في الغد.

قضية خاشقجي أصبحت انتحارا للإعلام العربي، ذبح نفسه بنفسه، بسبب اما كراهية للملكة العربية السعودية، او كراهية لحكامها او محاولة التسابق للحصول على سبق صحفي زائف.

محطات كنا نرجو منها الخير، ونرجو ان تقود المسيرة الإعلامية في الوطن العربي، سقطت سقوطا مدويا، وكذلك صحف ووكالات انباء. وجرّت معها وكالات انباء عالمية ومحطات دولية.

كأن ما حدث هو ما نسميه في الاعلام “الدعاية السلبية”، فهذه القنوات ووسائل الاخبار عملت أروع دعاية لمن كانت تحاربه، ورفعت أسهمه بقوة، وأصبح المعارض الحقيقي في مأزق، اذ انه اصبح يقف الى جانب الكذب الواضح ويخالف المكذوب عليه.

هكذا هي النتيجة النهائية، وهكذا هي الأمور عندما يتعامل الإعلام مع الجمهور على انه أحمق وانه سيصدق كل ما ظهر في التلفزيون وما يقوله المذيع دون تفكير، ودون تمحيص وتمييز.

حقا قضية جمال خاشقجي مذبحة للإعلام. انها حماقة وتعجل النتائج والوقوع في فخ الأخبار الكاذبة، فوالله لو كانت قضية اختفاء فقط بدون كل الزوائد والإضافات والروايات والتقطيع والموسيقى والمجموعة التي جاءت من السعودية بطيارتين فقط للقضاء على خاشقجي وتوزيع قطع الجسم والكثير الكثير، لكان لها تأثير اكبر وأعمق.

يقولون كيف عرفتها كذبه؟ قال: من كبرها. فالكذبة عندما تزيد من حجمها وتضيف اليها تفاصيل كثيرة تسقط وتفضح.

هذه القضية ستبقى في الضمير والعربي وستبقى في تاريخ الإعلام على انها “مذبحة الإعلام” كما اشتهرت في التاريخ “مذبحة القلعة”.