تسعة ملايين مهاجر عربي في مصر وإشادة دولية بمعاملتهم

الأمان وغياب العنصرية جعلتها وجهة جاذبة

د. أمير حمد  /

أفاد تقرير جديد لمنظمة الهجرة الدولية بأن عدد المهاجرين في مصر يبلغ نحو تسعة ملايين شخص، يقاربون 9% من السكان. فمن أين أتى هؤلاء المهاجرون وما الوظائق التي يعملون بها؟ وما دورهم في تنشطة الاقتصاد المصري؟

في هذا التقرير سنسلط الضوء على ذلك، وسنتطرق أيضاً إلى تعامل مصر تاريخياً مع قضية المهاجرين.

9 ملايين مهاجر في مصر

كشفت منظمة الهجرة الدولية في تقريرها الأخير الصادر في شهر أغسطس/آب الجاري، أن عدد المهاجرين الدوليين المقيمين في مصر هو 9 ملايين و12 ألفاً و582 مهاجراً، وهو ما يعادل 8.7% من مجموع سكان البلاد.

وذكر  التقرير أن هؤلاء المهاجرين ينتمون إلى 133 دولة، موزعين بين المجموعات السودانية بـ4 ملايين مهاجر والسوريين بـ1.5 مليون، واليمنيين والليبيين بنحو مليون لكل بلد، حيث تشكل هذه الجنسيات الأربع ما نسبته 80% من المهاجرين الدوليين المقيمين في البلاد.

تشير البيانات أيضاً إلى وجود 300 ألف من جنوب السودان، و200 ألف من الصومال، و150 ألفاً من العراق، و135 ألفاً و932 فلسطينياً، و17 ألف إثيوبي.

وتفوق تقديرات المنظمة التقديرات الرسمية المصرية الأخيرة، التي كانت تحدد أعداد المهاجرين بـ6 ملايين مهاجر.

كما كشفت دراسات منظمة الهجرة الدولية والبيانات، التي جمعتها من السفارات، أن أكثر من ثلث المهاجرين في مصر (37٪) يعملون في وظائف ثابتة وشركات مستقرة، مما يشير إلى أنهم يساهمون بشكل إيجابي في سوق العمل ونمو الاقتصاد المصري.

وقالت المنظمة إن السوريين، على سبيل المثال، والذين يشكلون 17٪ من أعداد المهاجرين الدوليين في مصر “يعتبرون من أفضل الجنسيات التي تساهم بشكل إيجابي في سوق العمل والاقتصاد المصري”، لافتة إلى أن حجم الأموال، التي استثمرها 30 ألف مستثمر سوري، مُسجل في مصر تقدر بنحو مليار دولار”.

وكشف التقرير أن هناك زيادة ملحوظة في عدد المهاجرين بمصر منذ عام 2019، بسبب عدم الاستقرار في البلدان المجاورة، مما دفع الآلاف من السودانيين وجنوب السودان والسوريين والإثيوبيين والعراقيين واليمنيين إلى البحث عن ملاذ آمن في مصر.

ما الذي يختلف في تجربة مصر عن غيرها في التعامل مع قضية اللاجئين؟

كان الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، قد أشار إلى هذا العدد في يناير/كانون الثاني 2022، خلال افتتاحه “منتدى شباب العالم”، الذي تنظمه الحكومة المصرية بمدينة شرم الشيخ، حين قال إن “مصر تستضيف ما لا يقل عن 6 ملايين شخص فروا من الصراع والفقر في بلادهم”.

وأضاف أن حكومته “عكس بعض البلدان الأخرى، لا تحتجز المهاجرين في مخيمات، لكنها تسمح لهم بالعيش بحرية في المجتمع”. ولفت إلى أن القاهرة توفر التعليم والرعاية الصحية وغيرهما من الخدمات لجميع المهاجرين واللاجئين على الرغم من مواردها المحدودة والضغوط الاقتصادية.

وقالت المنظمة الدولية إنه “قد يُنظر إلى الخطاب الإيجابي للحكومة المصرية تجاه المهاجرين واللاجئين، على أنه عامل جذب للمهاجرين واللاجئين وطالبي اللجوء مؤخراً إلى مصر”، رغم أن البلاد تواجه ضغوطاً اقتصادية متزايدة جراء تداعيات جائحة كورونا والحرب الروسية في أوكرانيا.

وأكدت المنظمة أن “مصر كانت دوماً سخية في إدراج المهاجرين واللاجئين وطالبي اللجوء في النظم الوطنية للتعليم والصحة، على قدم المساواة مع المصريين في كثير من الحالات، وهذا على الرغم من التحديات التي يواجهها هذان القطاعان والتكاليف الاقتصادية الباهظة”.

معتبرة أن “إدراج السكان المهاجرين في خطة التطعيم الوطنية ضد فيروس كورونا مثالٌ حديث واضح على نهج الحكومة المصرية في معاملة المهاجرين، على قدم المساواة مع المواطنين المصريين”.

وتضم قائمة الأسباب التي جعلت مصر مهجراً لملايين العرب، حسن الضيافة والثقافة واللغة المتشابهة، وغياب متطلبات التأشيرة والقرب الجغرافي والأمن السلمي مع الظروف الاقتصادية الجيدة، مقارنة بالدول التي جاء منها المهاجرون، حسب المنظمة الدولية للهجرة.

كل العرب لقوا معاملة مماثلة

وقبل السوريين كان اللاجئون العراقيون محل ترحاب في مصر من الحكومة والشعب، واللافت في هذا الصدد العلاقة المركبة بين مصر والعراق والهجرة المتبادلة بين البلدين.

عندما جاء العراقيون إلى مصر بعد الغزو الأمريكي للعراق قوبلوا بترحاب كبير من قبل الدولة المصرية وكذلك الشعب، ولم يحدث أي تفرقة بين السنة والشيعة في المعاملة، رغم تحفظات السياسة المصرية الرسمية والشعبية التقليدية تجاه إيران والأحزاب السياسية الشيعية.

وقبل ذلك بعقود استضافت مصر أعداداً من الفلسطينيين وكان نادراً أن يوجد الفلسطينيون بمصر في معسكرات اللاجئين كما حدث في بقية الدول العربية، ولكن عاش الفلسطينيون بين أطياف الشعب المصري وحافظوا على قدر من مؤسساتهم والتواصل بين مجتمعاتهم، وإن عانوا من بعض المشكلات البسيطة في فترة السبعينيات بسبب الخلاف بينهم منظمة التحرير الفلسطينية والحكومة المصرية بعد اتفاقية السلام مع إسرائيل.

وبإضافة إلى ذلك كان السودانيون دوماً ضيوفاً على مصر منذ أن كان البلدانِ تحت حكم واحد، على الأقل من ناحية الرسمية، خلال الفترة الملكية والاستعمارية، بل كان السودانيون يمثلون قطاعاً أحياناً من القوات الأمنية والعسكرية في العهد الملكي، ولم تحدث مشكلات بينهم وبين السلطة باستثناء ما حدث في الاعتصام الذي وقع بميدان مصطفى محمود، وكان أغلب المشاركين فيه من الأفارقة ومن السودانيين من جنوب السودان وغرب البلاد.

والليبيون تقليدياً لهم علاقة خاصة بمصر قديمة للغاية، حيث إن هناك أصولاً مشتركة تربط بين القبائل العربية الليبية وسكان غرب النيل سواء في الصعيد أو في الدلتا أو في محافظة مرسى مطروح، ويعتقد أن هناك ملايين من المصريين من سلالة هجرات القبائل العربية الليبية، إضافة إلى العلاقات بين الطرق الصوفية في البلدين على مدار قرون.

وأدى ذلك إلى تصاهر بين الليبيين والمصريين، خاصةً المصريين الذين تربطهم علاقات أسرية قديمة مع ليبيا في محافظات مرسى مطروح والفيوم والبحيرة والمنيا على الأخص.

ظاهرة قديمة في مصر

ولكن الهجرة إلى مصر، خاصةً الهجرة العربية، هجرة قديمة، واستيعاب مصر لهذه الهجرة وعدم وجود أو قلة المشكلات التي تواجه المهاجرين خاصةً العرب والمسلمين، ظاهرة وسمة قديمة للثقافة المصرية.

فالهجرة الشامية إلى مصر تكاد تكون جزءاً من ثقافة الشام المضطرب دوماً والذي يعاني من الغزوات والحروب الأهلية منذ العهود القديمة.

وهجرة السيد المسيح إلى مصر مع والدته السيدة مريم العذراء نموذج واضح لهذه الهجرة الشامية التي تعود لآلاف السنين، ويقال إن مسيحيي الشام جزء من تركيبتهم النفسية فكرة الهجرة إلى مصر عند وقوع الأزمات أو تعرضهم للاضطهاد.

وهجرة القبائل العربية إلى مصر هجرة قديمة تعود إلى فترة قوية طويلة قبل الفتح العربي لمصر، ثم اكتسبت زخماً كبيراً بعد الفتح العربي، حيث تواصلت هذه الهجرة على مدار مئات السنين وامتزجت القبائل العربية بالأقباط من سكان وادي النيل ليخرج من نسلهم الشعب المصري في نسخته الحالية ذات الجذور العربية القبطية المشتركة.

والهجرة من شمال إفريقيا أيضاً قديمة، ويعتقد أن الأمازيغ- خاصةً القادمين من ليبيا- كانوا يمثلون مكوناً مهماً من مكونات المجتمع المصري القديم، خاصة في الجيوش المصرية، كما أن منهم من كانوا حكاماً للبلاد، وشكلوا عدة أسر حاكمة في مصر القديمة، وكذلك سكان السودان القديم، وتعد واحة سيوة الشهيرة مثالاً لهذه الهجرة حيث ينتمون إلى أصول أمازيغية قديمة، ومازالوا يتحدثون لغة أمازيغية.

الهجرة العثمانية.. من الجيش لتشكيل طبقة الباشوات

إضافة إلى الهجرة من الدول العربية شهدت مصر على مدار تاريخها هجرة من العناصر التركية وكذلك الشركس والألبان والجورجيين المسلمين وغيرهم من العناصر التي يمكن وصفها بالعثمانية، لأنها كانت تمثل القوام الأساسي للطبقة الحاكمة العثمانية، وانضمت هذه النخب لبقايا المماليك الذين تعود جذورهم لأصول جورجية وتركية أيضاً.

وقام محمد علي باشا بتوظيف هذه العناصر التركية والألبانية والشركسية وبقايا المماليك، وجميعهم كانت لديه خبرة عسكرية كبيرة، ليكونوا نخبته الحاكمة الذين يقودون الجيش والدولة، ووزع عليهم الأراضي الزراعية فيما يعرف باسم نظام الاحتكار، حيث كانوا مكلفين بجمع الضرائب، ولكن هذا النظام تحوَّل تدريجياً إلى نظام الإقطاع القائم على طبقة من مُلاك الأراضي من الباشوات الذين ينحدرون إما من أصول عثمانية وإما مملوكية، إضافة إلى زعماء القبائل البدوية العربية وأعيان الريف والعُمد من الطبقات العليا من الفلاحين المصريين.

لا يوجد غيتو في مصر

وعلى مدار تاريخ الهجرة إلى مصر، هناك ظاهرتان: الأولى أنه رغم اعتزاز المصريين بوطنيتهم فإنه نادراً ما تكون هناك توجهات عنصرية منظمة إلا بعض الحوادث الفردية التي ترتبط في الأغلب بالأحداث السياسية.

والثانية أنه على مدار التاريخ لم تشكل الجاليات المهاجرة غيتوهات منعزلة تستمر لعقود، بل استطاعت هذه الجاليات- لاسيما العربية- الحفاظ على هويتها نسبياً، ولكن البنية الاجتماعية المصرية سرعان ما تدمجها بسلاسة ودون أي عمليات قسرية، حيث توفر مصر بالنسبة للهجرة العربية بيئة توازن بين السماح للمهاجرين بالحفاظ على قدر من هويتهم الأصلية وأيضاً قدر من الامتزاج الملائم المتدرج على مدى الزمن.

على الجانب الآخر، يلاحظ أن سياسات الأنظمة في مصر على اختلافها دائماً مرحِّبة بالمهاجرين واللاجئين.

ولم تستغل المعارضة هذا الملف ضد الحكومة مثلما يحدث في بلد مثل تركيا، ترحب حكومتها بالمهاجرين العرب لاسيما السوريين، بينما تلعب المعارضة بهذا الملف ضدها.

وعلى العكس في مصر، فإن المعارضة والنخب المثقفة والشباب المتعلم يقفون أمام أي محاولات لإشعال موجات عداء ضد المهاجرين مثلما حدث عندما أثيرت بعض هذه الموجات ضد السوريين قبل سنوات، فظهر هاشتاغ سريع الانتشار بعنوان “السوريين منورين مصر”.

كما أن مصر بلد كبير السكان والمساحة قادر على استيعاب أعداد كبيرة من اللاجئين، وبنيت في البلاد خلال العقود الماضية مدن جديدة ضخمة استوعبت أعداداً كبيرة من المهاجرين العرب، مما خلق نوعاً من تبادل المنفعة بين الجانبين.

.