بلاد الأحقاف

موسى الزعيم

“في الأحقاف تتحوّل الغابات عند الأصيل إلى فراديس، الطقس يبدّل نفسه  في بلاد الأحقاف كما تتبدّل الأزياء

بعد روايته (موشكا) التي وُسِمت بأنّها غرائبيّة في موضوعها ومعالجتها لقضيّة المرأة، ومن خلال شجرة لها خصوصيتها في سلطنة عُمان، هذه الشجرة المُسماة شجرة اللبان، يُصدر الروائيّ العمانيّ  محمد الشحريّ روايته الثانية (الأحقافي الأخير)  والتي تقع في 255 صفحة من القطع المتوسّط الصادرة عن دار السؤال في بيروت.

” إلى الذين لا قبورَ لهم ولا مزارات، هذه الصّفحات قبوركم والكلمات نصبُ شواهد”و لعلّي ألتمس من إهداء الكاتب لروايته ما يَشي بأفق الرواية، إذ عادةً الإهداء لا يفرض عليك توقّع مهاد النصّ، لكن تُرى إلى أيّ مدى يصدق ذلك؟ في الحالة هذه لابدّ أنّ يكون على متن الرواية شهداء، لابدّ أن يكون هناك دماء في سبيل تراب الوطن، أنت أمام افتراض ساحة معركة إذاً.

تبدأ الرواية باتصال ابن الآنفي بابن عمّه العميد في جهاز أمن دولة السّاحل المُتحد، يلتقي العميد مع ابن عمّه بعيداً عن الأنظار في بيت وسط الصحراء وبعد أن ينزعا شريحة هاتفيهما يبدأ الحوار التالي بينهما مستلهمين حدثاً وهاجساً آنيّاً يشغل السّاحة العربيّة عامة ويشكل هاجساً سلطوياً و مخابراتياً “والله يا ولد العم، تعرف الفوضى اللي دخلناها بعد ما يُسمى الربيع العربيّ بأيدي جماعة الإخوان، لذلك أتوجّس من بعض المواطنين في الدولة وميولهم والتي أراها من وجهة نظري مضرّة بالدولة “

 في الحديث يتم التلميح إلى الشخصية الروائية، أو التي تدور محور الأحداث حولها، شخصية الطيار نشوان الحمرمي، الرجل الذي يدافع عن سياسة عُمان في لكنّه يعقد مقارنات بين دول الخليج وإيران بشكل مستفزّ أحياناً كقوله ” لو أطلقت إيران زوارقها الانتحاريّة على محطّات التحلية لهلك الخليجيون عطشاً”

إنّ بحث العميد”علي بن حميد بن راشد الآنفي ” والتنقيب في سيرة وشخصيّة نشوان الحمرمي يسوق الأحداث، هذه الشخصية التي فرضت وجودها على مسرح الرواية من خلال الغموض الذي يكتنفها، بالنسبة للعميد كلما انفكّت عُقدة من سلسلة العُقد والحلقات، عاد الغموض من جديد يظللّها، ليس الغموض الجاسوسيّ، ولعلها لعبة الروائي في متعة البحث البوليسية، والتي عادة تشمل الوثائق والملفات القديمة والحديثة في كشفهذا الغموض المُحبب، والذي يجنحُ نحو العاديّ تماماً، فالرّجل له حياته الطبيعية مثل أيّ فردٍ في المجتمع  في حياته سماتُ الشّخص  الهادئ، لا غريب في منزله أو اتصالاته الهاتفية أو علاقاته الاجتماعية، حتّى الشّجرة الغريبة التي تقبع في ساحة داره ” لعله هوس الشحريّ بغرائب الأشجار “التحاليل  المخبريّة خرجت سليمة، فالشجرة لا تثير الغرابة، لم يعد هناك شكّ بما هو مريب ، إذاً  ما الذي  تحمله هذه الشخصيّة من سمات الإثارة والشكّ للآنفي وأصحابه زمن الربيع العربي، طالما أنّ كلّ شيء يحيط بها في إطار المألوف ففي تقرير المخابرات وفي أدقّ التفاصيل الحياتيّة – كما هي العادة- للرجل، المسح المخابراتي الذي  شمل كلّ تفصيلة صغيرةٍ و كبيرةٍ في منزل نشوان  حتى عناوين الكتب، وستائر النوافذ، وعدد الكراسي ولوحات الجدار كلّها أثبتت أنّ  لاشيء يوحي بالغرابة في البيت المتواضع.

و من المؤكد أنّ المألوف مثيرٌ للشكّ عند رجال المخابرات، فالمعلومة العادية، لا تبدو عاديّة بالنسبة لهم وهذا ما يصرّح به العميد، فالمعلومة قابلة للتحليل و للتأويل والتفكيك ومن ثمّ الحفظ لحين الحاجة إليها، إذن هي حمّى الآراء والأفكار ” هو للأمانة شخصٌ خلوقٌ ومحترم، لكن آراءه وتعليقاته تقلقني وتقلق أصحابي ..” يقول ابن الآنفي لابن عمّه العميد ” هل تطرّق لتنظيم الإخوان الإرهابيّ ؟”   ” لا والله على العكس..”

بعد ذلك  تتداخل الأحداث في الرواية فتظهر شخصيّة “علي سعيد الأحقافي” على المسرح  من خلال شخصيّة الأحقافي يرصد الروائي تعاطف الأحقافيين مع بعضهم البعض، في الأزمات وفي الحياة العامّة يدفعون للقادم الجديد حتى يجد عملاً، حالة من التكاتف الاجتماعي في الغربة ، ومن ثمّ هذه الشخصيّة تنضمّ إلى قوة السّاحل المُتحدة  والتي يشرف عليها الجيش البريطانيّ بعد ذلك نلحظ تطوّر هذه الشخصية التي لم يردّ لها الروائي أن تبقى في المستوى العسكريّ ” اِلتحق الأحقافي بالمدرسة تعلّم القراءة والكتابة أوفِد إلى بريطانيا لتعلّم اللغة الانكليزيّة، حيث تفوّق هناك وطُلِب منه  البقاء في بريطانيا لتدريب الضباط القادمين من المستعمرات لكنّه يفضل العودة إلى بلده، تصلّبت هذه الشخصية الثورية ونمت في سياق الأحداث لتغدو في حالة التنميط و النمذجة لصورة البطل الثائر والذي يقلقه وضع السكان تحت سلطة حاكمٍ فاسدٍ، حتى تغدو هذه الشخصية بفلسفة حضورها  لها خصوصيّة الجذب والدوران في فلكها  يقول  الأحقافي: مفضلاً الحياة في الجبال ” الجبال أحضان الطبيعة، في الجبال توجد الحريّة والشموخ  والشعور بالقداسة، الأراضي المُنخفضة تفرض على ساكنيها التسليم بالأمر الواقع”بعد ذلك لينضمّ ويشارك في الثورة الأحقافيّة، ومن ثم يؤرخ الكاتب للحدث ب 30 آب 1972.

.. نحن هنا أمام خطوط أحداث متوازية في الرواية من جهة يفكّ الكاتب الألغاز والعقد للقارئ ويبسطها بسردٍ حكائي بينما رجل المخابرات العميد يفكّ الخطوط المتشابكة من طرف آخر، فبالعودة إلى شخصية نشوان الحمرمي تتقاطع أحداث حكايته ووجوده مع علي سعيد الأحقافي. 

 نشوان الحمرمي الطيار الإيراني الذي سقطت طائرته في معركة ” شر تشتت” عام 1974 ونجا من الموت بعد هرب الملاح ” النشميّ ” وبعد “أن حاولت القوات البريطانية الإيرانية المشتركة القضاء عليه حتى لا يستخدم كورقة ضغطٍ  في أيدي الثوار”

 سقطت طائرته، بعد أن قصف في أعلى الجبل منزلاً، كان الأطفال يلعبون حوله.. المراقب الأرضي يرصد الدخان ظناً منه أنّه معقلٌ  للثوار، ليعطي الأمر لقائد الطائرة بقصف المكان، والنتيجة( أشلاء الأطفال معلّقة على الجدران، وعدد من رؤوس الماشية النافقة..)

نشوان الحمرمي الطيار الإيراني الذي وقع أسيراً لدى الثوار يقول وقعت أسيراً لطباع الفرقة التي أسرتني، يتحدث عن العلاقة والألفة بين الرعاة والثوار، هذه العلاقة التي استمرّت طيلة فترة الثورة وعلى مساحةٍ لابأس بها من صفحات الرواية، فصورة الراعي تتجلّى لدى الثوار بالرديف والمعين أو  “المفرزة المتأخرة” كما تُسمّى في علم العسكرة، الراعي  الذي يقدم الدعم على الأرض من خلال الخبر أو الإرشاد أو تقديم الطعام والشراب والحماية، أو نقل الأخبار والتحذير أحياناً.

 في الرواية يجعل الشحري البيئة المحيطة وطباع الثوار عاملاً كافياً لدمج  الطيار الإيراني فقد أحبّ الثوار من خلال تصرفاتهم وعلاقة المحيط بهم مما سيجعله لاحقاً يبوح بكلّ شيء ويندم على ما اقترفت يداه، مع أنه يؤكد أنّ القاتل الأول من أعطاه الإحداثية إحداثية البيت والأطفال تقول “أوفير” لخالها ” كان إخوتي يلعبون عندما قصفتهم الطائرة “

يروي نشوان عندما كان أسيراً لدى الثوار”رأيت ألعابهم  قواقع بيضاء لحلزونات ميّتة، وأحجار منحوتة على هيئة أسنمة الإبل ..رأى الأطفال حيّة تدخل الفتحة الكبيرة، أحضروا الأعشاب الجّافة  وقشور الأشجار المُصمغة .. أشعلوا فيها النار أرادوا خنق الحيّة، نفثت لعبتهم دخاناً كثيفاً رصدتهم الإحداثيات..” مررتُ بالمكان كانت الدماء ولون الحريق و فرث الغنم على جدران الكهف..أمّا الأطفال فتحولوا إلى أشلاء كما قيل لي … ثلاثة كفوف وساق ونصف وجمجمة وكتلتا لحمٍ  في قبر جماعيّ”  كلّ ذلك يدفعه للتكفير في ما جناه بطريقة مباشرةٍ أو غير مباشرة، يحاول التخلص من كلّ ماضيه الأسود، تبدو شخصية نشوان الحمرمي في تركيبتها على خط متعاكس مع شخصية الأحقافي وإن كانت الشخصيتان تلتقيان في هرم واحدٍ في النّهاية، نشوان يحاول التخلص من ماضيه الثقيل المُتخم بالهم والأخطاء، يسافر إلى بريطانيا ليبحث  في سجلات الجامعة عن فتاة إيرانية تسبب في مقتلها  يوماً يحاول التكفير عن جريمة ارتكبها نتيجة نزوة عابرة و أداته في ذلك المخابرات الإيرانية أزلام الشّاه في بريطانيا يشي بها على أنّها تتعامل مع المعارضة الإيرانية، ينجح في دفع مبلغ من المال مقابل تسمية قاعة في الجامعة باسمها.  يعاود البحث في الأحقاف عن الأخت الناجية من قذائف طائرته ” أوفير” يمضي أعواماً في البحث عنها لعله يعوّضها عما اقترفت يده، لم يكن سعيه لتعويضه لا هاجسا يشغله بقدر سعيه لتخلص ذاته من عذاباتها وجرمها الذي اقترفته في حق عائلة بريئة ويعرف فيما بعد أن تلك العائلة كانت مقصودة لأنها عائلة أخت علي سعيد الأحقافي  إنّه يحاول التخلّص من حملهِ الثقيل، حمل الدم الذي اقترفته يده، الغفران الذي يطلبه لنفسه من خلال العثور على أوفير .

 بالعودة إلى شخصيّة العميد رجل الأمن الذي يحاول فكّ الرموز والعُقد المخابراتيّة عن الشخص المطلوب نشوان نجد أن أغلب القضايا تتشابك وتحلّ عند أمّه أولاً ومن ثم في جهاز حاسوب نشوان ووصيّته ليجد العميد نفسه فجأة أنّه ابن علي سعيد الأحقافي المناضل الثائر، وأن الآنفي من ربّاه وحمّله اسمه من أجل دخوله المدرسة ، وأن أمّه هي ذاتها مطلقة الأحقافي الثائر، الثلاثة يحتفظون بالسر أحدهم أصيب بالزهايمر والأم  ونشوان ، تُرى ما غاية الكاتب من تحميل شخصيّة إيرانية كلّ هذه الكمّ من الأسرار، هل بسبب أصوله الأحوازية العربية؟ هل أراد الروائي القول أن هذا الدم في عروبته مازال يحمل تلك المورثات التي أبت أن تحتفظ بالشر في داخلها أرادت أن يكون نقياً دائماً فسعت إلى الخلاص، أم أن عقدة الذنب التي تحملها الشخصية في دفين خلجاتها فعلت ذلك، أم أن الهواء والماء والتراب في الأحقاف له سحره وسرّه خلائط النفوس الطيبة ؟

أمّا شخصية المرأة في رواية الأحقافي الأخير: فيبدو حضور المرأة ثانوياً  في الرواية لم تكن على مستوى الشخصية الروائية البطلة، المحركة للأحداث أو الدافعة لها  باستثناء أم العميد وشخصيّة “أوفير” والتي كان لها حضور في تفكيك أهمّ عقدة في الرواية، فالأم تكشف الخفايا لابنها الذي استطاع من خلال حديثها  الوصول إلى الحلقة المفقودة، مما جعله يعتزل العمل الأمني ليصير كاتباً، أمّ العميد هنا كانت حلقة مفصليّة في سير أحداث الرواية والربط بين  زمنين رئيسيين، فهي الزوجة السابقة لعلي سعيد الأحقافي أمّ الضابط ذي السُمعة الحسنة المحبوب لدى الشيوخ ومصدر ثقتهم وفي المقابل هي الزوجة الحالية لصديق الأحقافي المخلص هنا يبدو وجودها كشخصيّة روائيّة كعمود البيت الذي يدور حوله كلّ أفراد البيت والحكاية، بالحب الأم هي الأرض التي انبتت وحمت الثوار ورعت فروعهم حتى غدوا أشجاراً باسقة، المرأة الأم هنا تبدو حاملاً لغوياً فكرياً اجتماعياً له حضوره الطاغي فمن خلالها تختزن “كما الأرض ” بكل ألأسرارها.

 أما أوفير فبعد البحث عنها وعلى مدى مئتي صفحة من الرواية تقريباً يمرّ ذكرها مروراً سريعاً لا يتعدى التعريف بمعاناتها، والتركيز على عملها، ويبدو من خلال ذلك، مكانة المرأة وقدرتها على إدارة شؤونها والنهوض بالأسرة رغم ما مرت به من انكسارات من أقرب الناس إليها.

 من جهة ثانية لم يفوّت الكاتب الفرصة لإبراز قضيّة لها خصوصيتها في التصوّر العام حول المرأة في المجتمع القبلي والصورة النمطيّة المرسومة عنها من خلال التعنيف أو هامشية حياتها.

 “الأحقافية كلّما تطلقت يقوم أخوها بذبح بقرةٍ ترحيباً بها، وتلك عادة متّبعة في بلاد الأحقاف ” المرأة في بلاد الأحقاف معززة كالعزّ ذاته المرأة لا تُضرب و لا تهان، والويل لمن يعتدي على المرأة،  ويفتخر الذكور بالانتساب الى أمهاتهم..”

الرواية تجنح إلى الجمع بين ما هو تاريخي وما هو معاصر، استطاع الروائي، محمد الشحري تسليط الضوء على فترة زمنية وبقعة جغرافية ربّما يجهل تفاصيلها الكثير من  القراء العرب ، حاولت رواية الأحقافي الأخير أن تكون ذلك السجل الأدبيّ الذي يسرد حكايات منطقة لا يعرف الكثير من الناس سوى أن الأحقاف وردت في القرآن الكريم.  محمد  الشحري كاتب من سلطنة عُمان مقيم في ألمانيا، يحضّر لأطروحة الدكتوراه بجامعة هايدلبيرغ، من إصداراته “بذور البوار” مجموعة قصصية و”موشكا” رواية.

.