برامج «توك شو» تلوّن شوارع القاهرة

صباح كل يوم، تتلون شوارع القاهرة بألوان المقدمات في برامج الـ «توك شو» الليلية. فإن كانت المقدمات نارية، تلونت الشوارع بدرجات الأحمر وتصاعدت النبرات واشتعلت النقاشات. وإن كانت المقدمات مأسوية، غلب اللون الأسود بدرجاته، والرمادي بفئاته. وفي حال أتت المقدمات ربيعية تحمل الأبيض والأخضر والزهري، طغى على الشارع مزاج يحمل شبهة البهجة وتلوح فيه الفرحة. أما إذا انتهجت المقدمات نهجاً صفراوياً تحذيرياً حيث تلويح بخطر محتمل وتغميز عن هواجس واردة، فينعكس ذلك على المزاج العام قلقاً كامناً حيناً وعنفاً ظاهراً أحياناً. وفي معظم الأيام حيث موزاييك الألوان المتضاربة بين أخبار صادمة وأخرى مفرحة وثالثة مثيرة ورابعة لا لون لها أو طعم أو رائحة، يبدو الشارع «سمك لبن تمر هندي».

المسلسلات الهندية التي صارت ذات شعبية كبيرة على الشاشات المصرية، ومعها التشيخية وإلى حد ما التركية والتايوانية والصينية، باتت عاجزة عن منافسة مقدمات برامج الـ»توك شو» الليلية في التأثير على المواطنين، وتوجيه دفة المزاج، وتسيير درجة حرارة الشارع النفسية والعصبية والتحكم في كميات المسكنات والمهدئات، وسحبها وقت الحاجة، وتكثيفها إن لزم الأمر، والإمساك بزمام الشارع قدر الإمكان.

وحيث إنه ليس في الإمكان منافسة الـ «توك شو» الليلي حتى اللحظة في قوة التأثير وهيمنة التوجيه، فإنه يتم التعامل معه باعتباره أمراً واقعاً وشراً أو خيراً لا بد منهما. واللافت أن قوة التأثير هذه، وفداحة التوجيه تلك لا تكمنان في البرامج ككل، ولكن تتمركز في المقدمة. وكلمة «مقدمة» في هذا السياق تستخدم مجازاً، إذ تشير إلى ما لا يقل عن ساعة من التنظير المشوب بالأخبار، والتحليل المموج بالأنباء، والهبد والرزع تارة والتجميل والتزيين تارة بحسب الأهداف وبناء على الأغراض.

الغرض الأصلي من المقدمة المذكورة التي صارت قانوناً راسخاً في الغالبية المطلقة من برامج الـ»توك شو» المصرية كان تلخيص مجريات اليوم المحلية والإقليمية والدولية للمشاهد عبر فقرة قصيرة كانت تحمل حتى وقت قريب أسماء وعناوين أقرب ما تكون لنشرة الأخبار. لكن رياح التغيير التي هبت على المنطقة لم تستثن الـ «توك شو». وتحولت هذه البرامج على مدار سنوات ما بعد الهبوب الربيعي إلى منصات سياسية بديلة للأحزاب، وساحات عراك بدلاً من الحلبات، ومسارح استقطاب تنافس مواقع التواصل الاجتماعي حيث كتائب التجييش ولجان التأثير، وتبلورت هذه السمات في شكل واضح وصريح في المقدمات الخاصة بكل برنامج من البرامج الأعلى مشاهدة.

المشاهدون الذين يكتفي كثيرون منهم بالمشهيات المجمعة في «المقدمة» بديلاً عن السهر حتى ساعات النهار الأولى لمتابعة حوار مطول هنا أو سرد معمق هناك باستثناء حالات قليلة حيث حدث مهم هنا أو ضيف ناري هناك. سمات «النار» هي ما تبحث عنه الغالبية من تلك البرامج. وما العناوين التي تنشرها المواقع العنكبوتية الكثيرة التي تُخدم على القنوات عبر تغطيات صحافية لما يرد فيها إلا خير دليل على ذلك. آلاف من العناوين التي تبدأ بكلمتي «مقدمة نارية» للمذيع فلان أو المذيعة فلانة تغزو الإنترنت بينما المقدمة تدور رحاها.

رحى المقدمات الليلية تدق على رؤوس الجميع سلباً وإيجاباً، تشاؤماً وتفاؤلاً، تجميداً وتحريكاً، تخويفاً وتشجيعاً، تسويداً أو تبييضاً.

من «العاشرة مساء» ومقدمة وائل الإبراشي المشتعلة المغرقة في السواد، إلى «كل يوم» ومقدمة عمرو أديب المثيرة والخالطة الأنباء بالرسائل المبطنة والمناشدات الموضحة، إلى «مساء دي أم سي» ومقدمة أسامة كمال صديقة الدولة ووطنية النزعة، إلى «الحياة اليوم» ومقدمة تامر أمين المتهكمة رافعة راية الأخلاق والفضيلة، إلى «على مسؤوليتي» ومقدمة أحمد موسى المحتقنة الكيادة الغياظة اللوامة، يجد المشاهدون أنفسهم في فترة المساء والسهرة جوالين بين هذه المقدمات وغيرها، وذلك بحثاً عن معلومة أكيدة، أو تحليل شاف، أو شرح كاف.

لكن واقع الحال التلفزيوني بات يشير إلى معلومات مخففة بالتحليل، وتحليلات مموهة المعلومات، وشروحات لا سند لها أو أصل أو حجة باستثناء ثلاث مرجعيات لا رابع لها: وجهة نظر المذيع، ووجهة نظر صاحب رأس المال، ووجهة نظر الدولة. ولحسن الحظ أن البرامج الأعلى صيتاً، والأكثر مشاهدة، والأعتى أثراً، حيث قلما تتضارب وجهات النظر، أو تتناقض توجهات التحليلات، أو تتصارع المصالح والمطامح. حتى في المواقف النادرة التي تشهد صراعاً بين الأخيرين (أصحاب رأس المال والدولة) فإن المذيع غالباً يميل إلى الإمساك بالعصا من المنتصف، فإن رجحت كفة هؤلاء (أصحاب المال) لم يخسرهم وإن تغلبت هذه (الدولة) على أولئك، بقي في سجلها الأبيض.

سجل الدولة الأبيض، وعُرف المعارضة الأسود، وشكاوى المواطنين الصفراء، وسرديات مظاهر التقصير والإهمال والتبديد وأخبار الوطن المتشابكة ومجريات الأحداث الإقليمية والدولية ذات الألوان المتداخلة والمتقاطعة تحفل بها مقدمات البرامج في كل ليلة. تترك آثارها على ملايين المشاهدين وفق الاتجاه، أو هوى أصحاب الشأن أو هوية أولي الأمر، أو وفق ما تملي الأخبار وتحتم الأنباء، وفي كل الحالات تبدو آثارها واضحة جلية على الوجوه في صباح اليوم التالي.

اترك تعليقاً