المهاجرون وفقدان المكان، الذاكرة والتاريخ

خالد السبكي

ينظر إلى الهجرة، غالبا، على أنها انتقال للفرد مكانيا، ومن ثم فإن الزمن وأبعاده وما يمكن أن يخلقه من تعقيدات تنعكس على الفرد يتم تهميشه ولا يهتم به.

والحال، أن المهاجر، خصوصا في الغرب، لا يتحول مكانيا، بقدر ما يتحول زمانيا، ويجد نفسه داخل سياق ثقافي- اجتماعي ينعكس بشكل خطير على كل وجوده. فليس هناك أي امتلاك للزمن لطرح سؤال الهوية، إلا في إطار محدود وضيق ومبرمج يخضع للعديد من التقنيات التي تفرضها الدورة الرأسمالية الجهنمية، من جهة، والثقافة البرجماتية المتجذرة في الوعي الاجتماعي الغربي من جهة ثانية. وهذا ناتج عن أمرين، أحدهما له طابع مؤسساتي والآخر اجتماعي.

فـ“الآخر“، كهوية واختلاف، لا يتم التعامل معه، من قبل المنظومة المؤسساتية، إلا من خلال ما يمكنه أن يقدمه للمجتمع الغربي (قُل الحضاري). إنه مادة للدراسة (بكل تشعباتها وتعقيداتها وخلفياتها الإيديولوجية الرأسمالية) الغرض منه (ثقافة وهوية)، هو الاستفادة مما يمكنه أن يقدمه للمشروع المجتمعي الغربي، لا من حيث هو هوية مختلفة، وإنما من حيث هو هوية قد تكون مغذية ومساهمة في «قوة» البناء الغربي. وهنا لا بد من التنويه إلى أن المطلوب من المهاجر هو «الإنتاجية» و «الكفاءة»!

أما من زاوية نظر الأفراد/المجتمع، فينبغي أن ننتبه إلى أن الفرد الغربي مبرمج وينشأ على مبادئ فيها احترام للآخر كيف ما كان، أخا أو أختا، أو صديقا، أو جارا، أو أجنبيا… ومن ثم فهو غير منفتح على ثقافات الآخرين لأنه لن يحتاج إليها، إلا في حال كان باحثا أنثروبولوجيا أو اجتماعيا. لهذا تبقى علاقة الأفراد محكومة بالقانون لا بالثقافة والهويات وحب التعرف علي الآخرين.

في هذا السياق يجد المهاجر نفسه معزولا، مُنَاقِضا، مرفوضا، ومحاطا بصمت مهول يزعجه ويضعه في مأزق كينونة ووعي. إنه أمام خيارين فقط، إما أن يخضع وإما أن ينسحب. هناك هوية جماعية (أقصد غربية) تهيمن بصورة سلطوية وبدقة لا تترك مجالا للتعدد، لأنها تتمكن وفقا لآليات الضبط والهيمنة، من ابتلاع مجموع الخصوصيات التي قد تجعل من الفرد هوية مستقلة داخل السياق العام.

العرب والتمسك بالهوية

وإذا كنا نصادف بعض الأقليات، وأقصد هنا العرب، يحاولون التمسك بعاداتهم وتقاليدهم، كحالات فردية أو جماعات منغلقة فإن ذلك يكون بصورة هامشية، داخل المساجد وفي الأعياد والمناسبات. ويشكل ذلك ملجأ ومأوى وهروبا من التهميش الثقافي، الذي يمارسه الواقع، واجتثاثا لذات متعبة ومرهقة ومهددة بفقدان «ذاتها» من حيث هي هوية. وإذا توقفنا عند خاصيتين يعتبرهما المهاجر صورة للهوية، الأكل واللباس، فإننا نلاحظ ما يلي:

الملاحظ أن هناك محلات «الحلال» تباع فيها كل المنتوجات من ”اللحم الحلال“ إلى الدقيق والبخور والآيات القرآنية والسواك والكحل والكتب العربية والمربى والحلوى وتعرف إقبالا وازدهارا منقطعين، وإذا سألت مهاجرا عن السبب كان جوابه: «إن موادنا العربية ألذ وأحسن»! في حين أن الأمر له صلة بما هو نفسي وداخلي!

أما اللباس التقليدي فهو يحمل دلالتين اثنتين، الأولى ذات طابع فلكلوري؛ والثانية تحمل خليطا من التشبث بالهوية، التي تعلن «للآخر» عن الاختلاف والرفض المضاد والارتباط بالهوية. وهو ما يحمل تحديا صريحا يصرخ بعبارات ”أنا هنا ولكنني هناك“، ”أنا لست مستلبا ولا فاقد هوية، ولا متنكرا لمرجعيتي التي هي موطن فخري وقوتي“..!

وإلا فماذا سيعني ارتداء جلباب أو ”دشداشة“ أو ”طاقية“ في سياق حافل بالتعقيدات الاجتماعية والاقتصادية زمنيا ومكانيا.

إنه الضغط المتولد عن الاندماج الزمني/المكاني، حيث يفقد المرء هويته الإنسانية. ولذلك كانت الفضاءات الزمانية والمكانية التي تبرز فيها هذه المظاهر «الهوياتية» هي الأعياد والمناسبات الدينية التي تتجمع فيها الجاليات، في أفضية معزولة، تمر دون أن يعلم بها أحد، ولا تترك أثرا قد يكون له بعد ثقافي مؤثر أو مثير.

اعتقد أن الجاليات العربية، لم تدرك طبيعة السياق الذي تتواجد فيه، وما تزال تنظر إلى القضايا الكبرى، وقضية الهوية، بالأبيض والأسود، وهو منطق نوسطالجي مثخن بحلم العودة. ولم تتمكن، كجماعات، أن ترقى بهذا الإحساس إلى مستوى تعمقه وتجعله تجربة جماعية لتترجمه في الواقع من خلال الفنون والأسئلة التي تنفتح ، من خلالها، على الآخر وعلى الثقافات الأخرى التي تتعايش في السياق الثقافي الغربي. وهذا احدي أسباب فشل العرب، كجالية، في أن يجعلوا من التراث مكونا فعالا وحاضرا ومتفاعلا في السياق العام، ومن ثم كانت النتيجة الإخفاق في صناعة لوبي عربي مؤثر على غرار ما نجحت في تحقيقه الجاليات الأخرى. أقصد ثقافيا، قبل أن يكون سياسيا، لأن السياسي تابع، وليس العكس!

مازالت تختزل الهوية في «اللحم الحلال» و «الجلباب» وبعض الأثاثات المنزلية والتعلق بالهموم اليومية، سياسية واقتصادية للوطن الأم، وهو ما ينعكس سلبا ويساهم في صناعة «تشوهات» في الفهم والإدراك والاندماج والإنتاج الإيجابي لدى شريحة واسعة من أبناء الجالية العربية.

ينبغي أن نعي جيدا، أن الهجرة ليست فعلا بسيطا، وإنما هي تحول «طارئ» على كيان الفرد، وغالبا، ما يكون سلبيا، خصوصا على أولئك الذين جعلوا من الهجرة مطية مرحلية لتحسين أوضاعهم المادية. إذ ينسون، جهلا أو تجاهلا، أن الجانب الاقتصادي لا يشكل إلا نقطة في نهر صيرورة الفرد وتحولاته.

حين يفقد الفرد فضاءه فإنه، حتما، يصاب بنوع من التشرد، ويسكنه الإحساس بالفقدان: فقدان المكان، الذاكرة، التاريخ – تاريخه الفردي، وأصوات الآخرين الذين شكلوا نسيج عالمه وعلاقاته وامتداداته.

الخروج من الوطن، يوازي الخروج من حالة الاستقرار والثبات والانتماء إلى اللاستقرار.. وليس أمامه -المهاجر- سوى أن يبحث عن انتمائه الجديد، هويته وذاته، أي كيانه الذاتي في سياق يرفضه، وغير معني به لا كاختلاف حضاري أو ثقافي، ولا كأفراد. إن الواقع يُسَوِق نمطا من الاحتياجات الثقافية التي تشتغل عليها وتشرف على تسويقها هيئات وجهات تعرف جيدا ما تريد!

في الهجرة يصبح الفرد أكثر ارتباطا بالمكان الذي جاء منه. لذلك لا يمكنه أن يفكر ويرى العالم إلا من خلال ثراته، لهذا فهو يبحث، متحايلا على المكان والذاكرة، لإيجاد تقنيات تسعفه على وصل الحاضر واليومي المهدد، بماض مفتقد أبدا وحاضر يبحث له عن معنى للانتماء.

هكذا يصبح القلق هو الإحساس المشترك. ومرد ذلك إلى أن سؤال الهوية، لدينا نحن العرب، على وجه التحديد، جد ملغوم وملوث ومضطرب، بل إنه يتخذ بعدا يصبح أحيانا تهمة !!

لذلك فالمهاجر العربي يعيش القلق ولا يعيه، يعيش الاضطراب ولا يفهمه.. ولا يعي مصدره.

إن التراث الذي نحمله معنا، كمهاجرين، بقدر ما هو مأوانا وجغرافيتنا في حدود ذواتنا. إلا أنه سرعان ما يتحول إلى آلة قاتلة ومدمرة، تطرح على الفرد إشكالات مؤرقة ومخلخلة تخلق في داخل الكائن كوابيس المآل والتواصل مع الآخر. وإن نجح في هذا، فإنه حتما يظل بعيدا عن التوافق في التواصل مع ذاته…

المهاجر العربي يفقد كل شيء حين يهاجر. فحتى ما كان يعتبره أصيلا متجذرا في دواخله، يكتشف، مع الوقت، أنه العنصر الأكثر إقلاقا وإرباكا لكيانه كله، فيفقد القدرة على التصالح الوجودي مع ذاته كما يفقد القدرة على استعادة توازنه الثقافي بما يضمن له التواصل المستمر وشبه الطبيعي مع ما كل حوله ..

.