القوة الجديدة للجدران

د. أمير حمد

تتحرك السياسة الألمانية الراهنة نحو قضايا أخرى مع ملف اللاجئين كمحاربة الفقر في الشيخوخة والخروج من الطاقة الحجرية / الفحم وتطالب في سياستها الخارجية بإسقاط النظام في فنزويلا وإصلاح العلاقة بين روسيا وأمريكا فيما يخص الأسلحة متوسطة المدى و النووية.

يحدث هذا التوجه السياسي الراهن ضمن اهتمام ألمانيا بقضايا اللاجئين الذين يحظون في خط مواز للسياسة الأوروبية دعم الكنيسة ومنح اللجوء الكنسي.

كان وقد زار شتاين ماير رئيس ألمانيا حزب SPD الاشتراكي اثيوبيا وتفقد وضع اللاجئين هناك. قال شتاين ماير بأن أثيوبيا والقرى الافريقية يمثلا أهم مراكز تجمع اللاجئين للهجرة السرية إلى أوروبا الأمر الذي يدعو ألمانيا الاتحاد الأوروبي لتشجيع هؤلاء اللاجئين ـ مليون لاجئ اريتري ـ بأثيوبيا مثلا للبقاء في مواطنهم وإدراجهم في سوق العمل. معلوم بأن أثيوبيا منحت اللاجئين حق العمل ان وجدوا فرصة لاستقطابهم بالكامل كأيدي عاملة أو خبرات مرغوب فيها أو تشغيلهم في المزارع أو المصانع.

نقول هذا  ونذكر بأن ألمانيا أكبر دولة أوروبية مستقطبة للاجئين من ناحية ومن ناحية أخرى دولة شددت اجراءات اللجوء والاكثار من تسفير اللاجئين المرفوضين. ـ سفرت 750 ألف لاجئ في عام 2017 ـ وفي المقابل ارتفع صوت واحتجاج الاحزاب المعارضة كحزب الخضر الذي يرفض سياسة التسفير المكثف أو الهمجية كما سماها.

يرى هذا الحزب وحزب اليسار كذلك بأن تسفير اللاجئين الأفغان مثلا يعني الزج بهم في الموت اذ استقطبهم طالبان وفلول القاعدة هناك هذا إذا لم يقتلوا أو يشردوا وسلب مستقبلهم.

إذا فإن وضع اللاجئين الآن بألمانيا وأوروبا عموما حرج جدا يضيق يوما اثر يوم، فايطاليا مثلا التي مثلت مع اسبانيا المدخل الرئيسي للاجئين اثر هجرتهم ، أوديسا اللاانتهاء ـ تسفير مليون لاجئ من أراضيها بعد أن أوقفت التعامل مع سفن انقاذ اللاجئين لاسيما الألمانية منها مثل “سي وتش” وظلت بفضل دوران هذه السفن الخيرية في البحر على أن يتم انزال اللاجئين في موانئ ايطاليا.

يقول وزير داخلية ايطاليا الراديكالي بأنه سيقف ضد مثل هذه السفن من بداية نشاطها بإنقاذ اللاجئين في السواحل الليبية.

لقد انطبقت اسطورة الأوديسا اليونانية المعنية بالرحلة اللاانتهاء ومشاقها الجمة على هجرة اللاجئين .. الآن… هجرة عبر الصحراء واقتحام خطر الموت في البحار بل والتشرد في دول أوروبا إلى أن يعترف بلجوئهم بعد لأي وتحفظ أو يرفضوا ويسفروا فيذهبوا من حيث بدءوا في موطنهم المحاط بالفقر وتربص أجهزة الدولة من أمن وشرطة لهم.

في لقاء أجراه تلفزيون ولاية بايرن الثرية بجنوب ألمانيا، طرح اللاجئون بل وبعض مواطني ولاية بايرن لاسيما في أطرافها بأن هناك خانات عمل شاغرة ورغبة كثير من أرباب العمل في تشغيل الشباب وتدريبهم في قطاع الطلاء والزراعة والأعمال اليدوية ، حوجة ورغبة تواجه بالرفض والتحفظ لأن مكاتب العمل تصعب بل وتمانع  بشدة منح اللاجئين اذن عمل، اذ ترى أنه يجب التروي وانتظار طلبات باحثي عمل ألمان ومن ثم سد خانات العمل الشاغرة على أيدي اللاجئين.

يقول باحث اجتماعي ألماني بتلفزيون فونكس بأن ولاية بايرن وكذلك شرق ألمانيا لا يرغب في الأجانب لقلة تجربته في التعامل معهم ولتفشي العنصرية والنازية وسط مواطنيهم. بهذا عني الخوف من الآخر المختلف وتذويب الهوية والتهيب من الاسلام الذي ارتبط بمفهوم الارهاب ومنظومة اللاجئين الاجتماعية المنحدرة من دول عالم ثالث ينظر إليه بتعالي وصلف كبير. يقول توماس بنيت فيلسوف العولمة المشهور أن الهدف الأساسي هو هدم الدولة القطرية وجلب أوروبا للأجانب بما لا يقل عن مليون ونصف فرد لمزج الدم الأوروبي بدماء حامية لينتج عنها جيل جديد “طلاسي” نشط جدا وغبي ذات الوقت. يقول لدى العولمة مشاريع كثيرة وأفكار جاهزة بحاجة لتنفيذها وليس الانشغال بالتفكير وإتيان الجديد.

أخيرا ردت “ماريو ميشال ” السياسية الفرنسية على سياسة فتح الحدود والعولمة المؤيدة لذلك كما جاء في ذكر “توماس بنيت” السابق الذكر وليبرالية “ماكرون” الرئيس الفرنسي بأن  أنشأت معهد في مدينة ليون يقوم على تخريج نخبة جديدة ترتكز على الثقافة والتاريخ الفرنسي. يمثل هذا الرد نوعا من التقوصل والابتعاد عن الأجانب لاسيما اللاجئين اللذين يناهضهم عدد كبير من المواطنين.

هجرة بلا حدود

تبدو ظاهرة تشييد الجدر والحواجز لإيقاف تدفق اللاجئين والأجانب إلى أوروبا وأمريكا كتحدي وتباهي بانتصار على الهجرة السرية.  لقد عرفت هذه الظاهرة منذ القدم في المجتمعات البدائية التي كانت تتهيب من تذويب هويتها والاستيلاء على مواردها الطبيعية من قبل الغرباء والدخلاء، ها هي اسرائيل كذلك تشيد جدر فاصلة بينها وبين غزة وأوربان رئيس المجر يهندس من جديد في صلف لمثل سياسة الفصل الدائي هذه.

ونذكر بأن ترامب قد بعث 2000 جندي أمريكي إلى حدود أمريكا الجنوبية المتاخمة للمكسيك لإقامة أسلاك وجدر صفيح لإيقاف هجرة مواطني المكسيك وجنوب أمريكا الجنوبية السرية إلى أمريكا. بهذا وصل تعداد الجنود إلى 4000 جندي، لمراقبة الحدود وتشييد هذا الفاصل الوهمي بعد أن فشل في جلب 6 مليار يورو لتشييده لمعارضة الحزب الديمقراطي له المستولي بأغلبية على مجلس الشيوخ بأمريكا.

ما يهمنا هنا هو الاشارة إلى مجابهة الهجرة السرية كعدو أكثر شراسة فالحدود الفاصلة بين أبناء الشعوب وهمية تسقط أو تظل أثرا لا غير كما في ألمانيا وايرلندا التي آثرت البقاء في الرابطة الأوروبية وعدم الخروج منها كما فعلت ايرلندا الشمالية بانضمامها لانجلترا.

نقول “تريزا ماي” رئيسة وزراء انجلترا أن بلادها تؤثر أن تكون جزيرة بعيدة عن فوضى وتدفق اللاجئين وغير المرغوب فيهم من الأجانب. شددت تريزا مي اجراءات مراقبة حدود انجلترا لاسيما الجنوبية منها في “كاليه”  فلاجئون كثر استطاعوا الدخول من شمال فرنسا إلى إنجلترا وذلك قبل 29 مارس القادم موعد خروج انجلترا من الرابطة الأوروبية.

نقول هذا ونذكر بأن انجلترا تدفع ما يعادل ما تدفعه 19 دولة من دول الرابطة تدعم ميزانية الرابطة وأن خروجها سيكلفها 6 مليار يورو ضريبة مغادرة أو انسحاب من العضوية.

تقول صحيفة ديلي تلغراف اللندنية بأن كل ثالث شركة في انجلترا تنوي نقل موقعها خارج انجلترا لاسيما إلى دول الرابطة الأوروبية في حال ان خرجت انجلترا بلا صيغة No Deal، اتفاقية مبرمة مع الرابطة. بل ونتوقع في هذا الوضع أن يرحل الأسرة الملكية برمتها من الفقر الملكي إلى مكان آمن مجهول موقعه لاحتمال احتجاجات جامحة تهدد أمن انجلترا لاهتزازها وتدهورها الاقتصادي وتفشي سياسة التقشف فيها.

نعم طلبت انجلترا الخروج من الرابطة لأسباب عدة أهمها تحقيق رغبة “توريس” الحكم بقيادة تريزا مي المتمثل في انفراد انجلترا بممارسة حق حفظ الحدود والسرية في اتخاذ القرارات والقوانين والحفاظ على الهوية.

لقد طالب إلى جانب الصيادون في شمال انجلترا وكذلك شمال إيرلندا الخروج من الرابطة للاحتفاظ بملكية الصين في المياه الانجليزية والتصدي لمنافسة الصيادين الفرنسيين. أما الأهم في ذلك هو رغبة معظم الانجليز لاسيما العجزة في الخروج من الرابطة لإيقاف هجرة الاجانب لاسيما اللاجئين وأبناء شرق  البولنديين بالأخص. وذهبت تيارات راديكالية بتشييد حصن لعزل انجلترا عن الحدود الأوروبية فووجه بالرفض لضرورة تواصل حركة المرور وشاحنات التبادل الاقتصادي بين انجلترا وأوروبا، هذا كما أن انجلترا جزيرة في حد ذاتها ليست بحوجة لحصون وجدران لعزلها.

القوة الجديدة للجدران

أجاب باسم مارشال في كتابه الجديد الرائع بعنوان القوة الجديدة للجدران عن أسباب تشييد الجدران والسياج الفاصلة بين الدول اذ قال بأن الخوف على التنافس الاقتصادي والمعيشي الجيد وتغيير الهوية والمنظومة العقائدية والاجتماعية هي أكثر وأهم عوامل النحو إلى مثل هذه الاجراءات الراديكالية “تشييد جدر فاصلة”.

يقول بأن 69 دولة في العالم أقامت جدر عازلة للأسباب المذكورة السابقة وغيرها فالصين مثلا شيدت جدار النار ليعزلها عن العرب كما شيدت اسرائيل جدار فاصل بينها وبين الأردن، أما جدار ترامب المتوقع الفاصل بين المكسيك وجنوب الولايات المتحدة الامريكية فليس في الواقع لإيقاف تجارة المخدرات وإنما لتقليل نسبة مواطني جنوب أمريكا المكسيكيين في جنوب الولايات المتحدة الامريكية  40% لاتينيون. هذا هو السبب الحقيقي لتشييد الجدار بأمر ترامب العنصري المتهيب من تذويب وتناقص البيض الأمريكان في ولاية تكساس مثلا.

أما الاتحاد الأوروبي فمشغول بالفعل بالحفاظ على حدوده الجنوبية لإيقاف هجرة اللاجئين.

تقول ميركل بأن الرابطة الأوروبية ستصعد عدد جنود قوات فونتكس لحراسة الحدود إلى10 آلاف جندي في السنين القادمة. من المعلوم ان قوات فونتكس الاوربية تراقب حدود اوروبا الجنوبية لاسيما اسبانيا وايطاليا واليونان لرصد هجرات اللاجئين أو التحركات البحرية وذلك عبر لقط الصور من أعلى بطائرات وإرسالها إلى السفن الأوروبية وقوات الحدود.

وفي ختام هذا المقطع نذكر بخطبة “دونالد ترامب” التي صرح فيها مجددا تصميمه على بناء جدار ضخم بفصل المكسيك عن أمريكا… يقول أن اللاجئين يهددون أمن أمريكا عبر تجارة المخدرات والدعارة وتفشي جرائم القتل.

كان وقد ذكر فيما قبل بأن ألمانيا والرابطة الأوروبية عرضة لمسرح جرائم اللاجئين وكثيرا ما تهتم بهم وتهمل مواطني أوروبا. لقد ادعى ترامب بأنه استطاع تشغيل خمسة مليون أمريكي فأخرج من مأساة البطالة وأن اقتصاد أمريكا في تقدم لم يشهده من قبل!

جاء في صحيفة بيلد الالمانية بأن 100 مليون لاجئ معظمهم من تركيا يرغبون مغادرتها إلى اوروبا مما سهل على تركيا الضغط على الرابطة الأوروبية لاسيما ألمانيا بإملاء الشروط السياسية عليها فتركيا لا تزال صمام أمان لإيقاف اللاجئين في ارضها ولن تبالي بلغي الاتفاق المبرم معها على ابقائهم استنادا إلى عدم تقاضي تركيا ل 9 مليار يورو متفق عليها في اتفاقية اللاجئين. أي أن أوروبا مهددة بالفعل لموجة لجوء جديدة من الشرق وأخرى من ليبيا قرابة 3 مليون لاجئ تتهيأ لوصول الساحل الايطالي أو اسبانيا عن طريق المغرب.

هجرة بلا انتهاء

مر سبعون عاما على تشكيل الدستور الألماني، انضباط وتقيد به إلا أن الاتهامات الأخيرة الموجهة من مجلس مراقبة حماية الدستور الألماني أن AFD حزب البديل يتناقض كثيرا مع الدستور الألماني في مواضيع العنصرية واحترام الأقليات والأجانب اذ أن تصريحات وآراء هذا الحزب مليئة بالنقد اللاذع والعنصرية وتهميش الأجانب واللاجئين.

هذا وقد حرك تضخم صورة الحزب وكسبه لشعور الألمان القومي لأن تؤكد حكومة ميركل على تثبيت حقوق اللجوء بأن تكون نموذجا أولا في الرابطة الأوروبية على النقيض من ايطاليا حاليا مثلا.

وأعربت بولندا عن قلقها ورفضها لازدواجية سياسة ميركل الداعية إلى وحدة الرابطة من جهة والمنفردة بمصالح ألمانيا من ناحية لاسيما تعاملها برلين مع روسيا وتوسيع استثمارها هناك ومحاولة تشكيل وحدة قطارات سريعة مع فرنسا لمنافسة الصين وتنامي العولمة المتسارعة.

لقد بدأ عرش ميركل يهتز قبيل تخليها عن رئاسة حزبها الحاكم وخلافها مع وزير الداخلية وتصميمها على مواصلة نهج سياستها السابقة المعنية باللاجئين. أدرك ذلك حزبها وعلى رأسه فولفجانج شويبله رئيس البرلمان فسارع بتصريحاته التي أضعفت ميركل أكثر. يقول شويبلة بات تضخم الأحزاب الراديكالية بقيادة AFD وتمثيله برلمانيا في كل مقاطعات ألمانيا نتاج سياسة ميركل التي حولت حزبها إلى حزب اشتراكي فيما تقلص التيار الوسط والليبرالي المنجزان المهمان باقتصاد ألمانيا وليس القضايا الاجتماعية وسياسة الأجانب بالدرجة الأولى.

تقول ميركل ردا على انقسام الرابطة جراء أزمة الهجرة السرية، أن اتفاقية UWO في المغرب المرحبة بالهجرة المشروعة للأجانب واللاجئين ستوقف الهجرة السرية وان طال الأمد إلى سنة أو أكثر.

هذا كما نذكر أن مؤتمر الهروب والهجرة بأديس أبابا / أثيوبيا لفت الاعلام والسياسة الألمانية إلى آخر تطورات هذا الملف المأساوي 3 مليون طفل لاجئ وثلثهم في أفريقيا جراء الحروب والفقر. ذكرت كارينباور بأن جهود ألمانيا وفرنسا في افريقيا لحل أزمة الهجرة السرية والتشرد ظلتا مواكبتان رغم الخلافات بين البلدين وأن الحل الأساسي للهجرة السرية هو تبني دول الجوار بل والقارة بأكملها للاجئين كما في جهود أفريقيا الراهنة، هذا إلى جانب فتح باب الهجرة المشروعة كما في اتفاق المغرب الأخير المخلص من ربقة اجرام المهربين وبؤس أوديسا اللجوء واللاانتهاء.

.