“العلمانية” بين العلم والعالم

ريهام محمود

ما هي العلمانية؟ أحاول الدفاع عن من ينتمون سياسيا لهذا المصطلح طوال الوقت انتصارا للعلم، لكنني لا استطيع حقا الدخول في نقاش حقيقي للدفاع عن “العلمانيين”؛ وذلك لأنني لم اتمتع بالمعرفة الحقيقية، وليس لدي سوى إحساسي وما أراه من أفعال العلمانيين واللبراليين وما يتمتعوا به من علم ورفض للخرافات.

هذا ما دفعني كباحثة إلى محاولة إيجاد تفسير لمصطلح ” العلمانية ” بالرجوع إلى بعض المصادر العلمية التي تحدثت عن أصل هذه الكلمة، وماذا تعني في الأساس.

بالرجوع إلى عدد من الكتب والمصادر وجدت أن مصطلح العلمانية ” secularization ” يعود إلي  كلمة ذات أصل لاتيني (saecularizationis ) ويعبر عن العملية التي تتحول بموجبها الحقائق أو بعضها من ميدان النظرة الدينية إلي الميدان الطبيعي أي الدنيوي.

وقد شاع نوع من الخلط يرجع مصطلح “العلمانية” إلي كلمة العلم. لكن العلمانية مأخوذة ليس من كلمة العلم لكن من كلمة ” العالم” أو “الدنيا”، فهي تعني بالدقة ” العالم الدنيوي “.

والسبب في الخلط بين العلمانية والعلم أن العلمانية تعتمد إلي حد كبير على منجزات العلم.

وقد تعددت التعريفات للعلمانية في أوروبا فهي تعني “البعد عن الانتساب إلي فئة الكهنوت” ، وهي تعني في الأكاديمية الفرنسية ” إعطاء المؤسسات خاصية غير دينية “.

وكما تشير أغلب المراجع، فقد بدأت “العلمانية” رحلتها من فرنسا أواخر القرن الثالث عشر أعوام 1295-1349 عندما أخذ ” جيليوم أوكان” على “البابا” التدخل في الشئون المدنية، ونادى بأنه ليس على الإنسان فهم ما وراء الطبيعة بل فهم ما في الطبيعة، وأيده في ذلك العديد من العلماء والمفكرين.

وزادت تلك النزعة مع حلول عصر النهضة القرنين 14 و 16. وترسخت مواقع العلمانية بفضل فلاسفة التيارات العقلانية مثل ديكارت وبيكون وغيرهما. وشكلت الثورة الفرنسية 1789 خطوة حاسمة في تطور العلمانية لأن الثورة أقرت بنزع زمام عملية التعليم في المدارس والجامعات من رجال الدين وتسليمها إلي الدولة. واستهدفت الحركة العلمانية في صيرورتها إلغاء تدخل المؤسسات الدينية، التي تنسب سلطتها إلى مصادر غيبية، في حياة الناس وشؤونهم العامة.

العلمانية في العالم العربي

لكن العلمانية ظهرت ونشأت في العالم العربي في ظروف مغايرة لنشأتها في الغرب. ونتيجة لأن اليقظة الفكرية العربية تمت في مصر على يدي الحملة الفرنسية، فقد اعتبر الكثيرون ـ خطأ ـ أن العلمانية مرتبطة بالاستعمار، وتهدف إلي التقليل من شأن الدين، ولهذا تمسك كبار المفكرين بأن الحداثة والتطور لا تعني التخلي عن الدين ومنجزات الحضارة الإسلامية، وكان من هؤلاء رفاعة الطهطاوي والأفغاني والكواكبي والإمام محمد عبده.

في الوقت ذاته برز في مصر تيار آخر يتقبل العلمانية ويدرك أنها ليست ثمرة الاستعمار لكنها ثمرة التطور الإنساني، ومن ممثلي التيار الآخر مفكرون كبار مثل شبلي شميل وفرح أنطون وجورجي زيدان وسلامة موسى وغيرهم. وهكذا فإن العلمانية التي ظهرت في الغرب باعتبارها “تحررا” من سيطرة النظرة الكنسية، ظهرت عندنا وكأنها إلي حد ما محاولة للتقليل “من شأن الدين”.

ولهذا السبب روج الكثير من الشيوخ أن العلمانية مذهب مرادف للإلحاد ومناوئ للدين.

يقول المفكر الكبير د. عبد الوهاب المسيري في كتابه ” العلمانية الجزئية – العلمانية الشاملة” أن “من أهم الأسباب التي أدت إلى اختلال مصطلح العلمانية هو “إشكالية العلمانيتين”، وجوهرها أن مصطلح “علمانية” سواء في الخطاب التحليلي الغربي أو العربي يشير إلى أكثر من مدلول، وطرح حلا لهذه الإشكالية بإمكانية تخيل متصل من المدلولات سماه في أقصى أطرافه “العلمانية الجزئية”، وسمي الطرف الآخر “العلمانية الشاملة” حيث تتمازج المدلولات فيما بينهما، وتختلط وتتشابه، وتشتبك وتتصارع، ورغم تداخل المصطلحين فهما طرفان في متصل واحد.

وعرف. د. المسيري رؤية العلمانية الجزئية بأنها “توجب فصل الدين عن عالم السياسة وربما الاقتصاد، وهو ما يعبر عنه بفصل الدين عن الدولة، وهذه الرؤية تلتزم الصمت بشأن المجالات الأخرى من الحياة.  كما أنها لا تنكر بالضرورة وجود مطلقات وكليات أخلاقية وإنسانية وربما دينية، أو وجود الماورائيات والميتافيزيقا؛ ولذا لا تتفرع عنها منظومات معرفية أو أخلاقية. كما أنها رؤية محددة للإنسان، فهي تراه إنسانا طبيعيا ماديا في بعض جوانب حياته، ولكنها تلتزم الصمت فيما يتصل بالجوانب الأخرى من حياته. وفيما يتصل بثنائية الوجود الإنساني ومقدرة الإنسان على التجاوز، لا تسقط العلمانية الجزئية في الواحدية الطبيعية / المادية، بل تترك للإنسان حيزه الإنساني يتحرك فيه إن شاء”.

أما العمانية الشاملة كما عرفها د. المسيري، “فهي رؤية شاملة للعالم ذات بعد معرفي كلي ونهائي، تحاول بكل صرامة تحديد علاقة الدين والمطلقات والماورائيات (الميتافيزيقا) بكل مجالات الحياة.

وهي رؤية عقلانية مادية، تدور في إطار المرجعية الكامنة والواحدية المادية، التي ترى أن مركز الكون كامن فيه، غير مفارق أو متجاوز له، وأن العالم بالأساس مكون أساسا من مادة واحدة، لا قداسة لها ولا تحوي أي أسرار، وفي حالة حركة دائمة لا غاية لها ولا هدف، ولا تكترث بالخصوصيات أو التفرد أو المطلقات أو الثوابت. هذه المادة تشكل كلا من الإنسان والطبيعة. فهي رؤية واحدية طبيعية مادية.

والعلمانية الشاملة ليست مجرد فصل الدين أو الكهنوت، وإنما تعني فصل كل القيم الدينية والأخلاقية والإنسانية عن العلم، أي عن كل من الإنسان في حياته العامة والخاصة والطبيعة ونزع القداسة عنهما، بحيث يصبح العالم مادة نسبية لا قداسة له، يوظفها الإنسان الأقوى لصالحه، ومن هنا نذهب إلى أن العلمانية الشاملة هي التي قامت بترشيد الإنسان الغربي في إطار النموذج المادي لصالحه.

وذكر د. المسيري في كتابه أن العلمانية ليست مجرد تعريف ثابت، وإنما ظاهرة لها تاريخ، وتظهر من خلال حلقات متتابعة.

كما أرجع د. صلاح قنصوة أستاذ علم الجمال بالمعهد العالي للنقد بأكاديمية الفنون، مصطلح العلمانية إلى اللغة “السريانية”، وتعني الشعب أو عامة الناس. فكلمة “علماني” تعني أنها ليست مرتبطة برجال دين، وتترجم كلمة “علماني” باللغة الفرنسية ”  laikui” إلى “شعبي”، وهي كلمة أخذت من اللغة اليونانية الإغريقية “”Laius التي تعني شعبي. أما علماني باللغة الإنجليزية فكانت سابقا ” laic” وتعني أيضا شعبي، لكنهم حاليا  يستخدمون للعلمانية كلمة “sicular”، والتي تأتي من كلمة لاتينية مرتبطة بالزمن، وتقابل هذه الكلمة الإنجليزية مباشرا باللغة العربية الكلمة “زمني”، على أساس وجود سلطة روحية وسلطة زمنية.

ونذكر في نهاية المقال كلمة “أردوغان” رئيس تركيا أثناء زيارته إلى مصر 2012 “نحن دولة علمانية”، والذي أكد أن العلماني ليس صفة للناس بل للدولة التي تكون على مسافة واحدة بين الأديان.

.