حديث عن العصاميّة والعصاميين..

م/ فتحي الحبوبي

بعيدا عن مفهوم فلسفة القوّة للفيلسوف “نيتشة”، ومفهوم الوجوديّة – الملحدة وغير الملحدة- خاصة لدى”جان بول سارتر” و”مارتن هايدغر، وفلسفة العبث لرائدها ألبير كامي. وبعيدا عن المفهوم الديني السطحي للقدر الذي يروّجه من يسمّونهم- تجاوزا- علماء الأمّة،  فإنّ مقاربة جبران خليل جبران مطلع المقال،  لمفهوم الإنسان الحقّ، المنسجمة مع مقولة أبو القاسم الشابّي الشعريّة “إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بدّ أن يستجيب القدر” تفيد أنّه ذو قدرات لا محدودة، كفيلة بتمكينه من نحت مصيره ونيل ما يريد بقلب كلّ الاوضاع لفائدته، بما يتّفق مع مفهوم التنمية البشريّة حديثة الظهور. ولا يتسنّى ذلك للإنسان إلاّ إذا «عرف نفسه بنفسه» كما جاء على لسان سقراط، وتفطّن الى مواطن القوّة فيه ووجّهها الوجهة الصحيحة.

ومن مفاعيل ذلك، أن بات اليوم من البديهيات التي لا يختلف فيها عاقلان ولا ينتطح فيها عنزان كما قالت العرب، أنّ الإنسان- أيّا كان سوء وضعه ومهما كانت الاكراهات والعقبات وقساوة المأساة التي يعانيها- لا تفيده، لا اللطميات والبكائيات، ولا الندبيات ولا حتّى المآتم على  الحظ المنكود الذي قد يلازمه كظلّه في مرحلة ما من حياته، ولكن ما يفيده، بالتأكيد، ويثري تجربته الحياتيّة، إنّما هو النظر إلى الحياة من زاوية نظر جديدة غير التي كان ينظر من خلالها وأدّت إلى معاناته.

ويترتّب عن ذلك – حتما- رسم غاية وتكريس كلّ الجهود لبلوغها وفق منهج مرسوم بدقّة لا يخضع للصدف، في إطار زاوية  النظر الجديدة، بدل التعلّق بالأوهام الكاذبة وتنبّؤات الدجاجلة الهلاميّة أو بالأماني التي لا تتحقّق. وهنا يكتشف المرء أبعادا أخرى للحياة كان يجهلها وتظهر له صورتها شديدة الوضوح بتجلّياتها المختلفة، وما تنطوي عليه من تعدّد للرؤى، متجاوزة للأسوار الحاجبة لرؤية جمال الكون وورديّة المستقبل. ولكن- للأسف- السواد الأعظم من النّاس لا يغيّر زاوية نظره للحياة، ولو باتت شديدة الضيق، فيحكم على نفسه بالعيش في الضيق بما هو عيش ضنك.  ولعلّ من نافلة القول، في هذا السياق، التأكيد على أنّ الحياة رغم أنّها فسيحة طولا وعرضا كما الأرض، إلّا أنّ آفاقها المضيئة، غير المتناهية في سعتها، لا يبصرها بوضوح وجلاء تامّ إلّا  القليلون، الذين ينظرون إلى الحياة من الزاوية المناسبة بما ينسجم مع مقولة «  إذا رأيت الصحراء تمتدُّ وتمتدُّ، فاعلم أنَّ وراءها رياضاً خضراء وارفةّ الظِّلالِ“ . ذلك أنّ الآفاق الرحبة لا تتجلّى إلّا لغير النمطيين ممّن أومأنا إليهم، الذين يرسمون الغايات، والمناهج لبلوغها ، فضلا عن توفّرهم على جذوة التعويل على النفس لصنع الذات الفاعلة، المؤثّرة، في المجتمع أو بالحدّ الأدنى، في محيطها القريب.

ما يعني أنّ هذا الصنف من النّاس، يدخل معترك الحياة ولا يبالي بالمتاعب و يركب البحر ولا يخشى الغرق. وهو لإثبات ذاته يروم امتطاء صهوة المصاعب مهما بلغت من الشدّة و القسوة، ومهما بلغ وخز الأشواك المحيطة به من كل جانب. وهو كذلك يقبل- ساعة الفصل- بنتيجة مواجهة متاعب الحياة، وحيدا، في حالتي النجاح و الإخفاق، رغم نزوعه الشديد إلى النجاح والتفوّق. لأنّ الفشل، بمعنى من المعاني،  إنّما هو حافز للنجاح وأوّل خطوة على الطريق لبلوغه. بهذا المعنى، فهؤلاء لا يهزمهم الدهر، ولا يستسلمون للهزيمة،  ولا يرفعون الراية البيضاء منذ أوّل فشل، لا بل ولو تكرّر الفشل 99 مرّة كما كان الحال في تجارب “توماس أديسون”  التي أدّت  في النهاية إلى اختراع المصباح الكهربائي ، فضلا عن تسجيل أكثر من  1000 براءة  اختراع باسمه.  وهي المقاربة ذاتها التي أيّدها لاحقا  “ألبرت أينشتاين” : بقوله  “المعرفة ليست المعلومات، فالمصدر الوحيد للمعرفة هو التجربة والخبرة”. فالحياة من منظور هذا الصنف من الناس ليست في نهاية الأمر سوى مغامرة – وليست قصيدة كما يرى الشاعر محمّد آدم- ممتدّة في الزمان كما في المكان، بما هما (الزمكان) بتعبير الفيزياء.

لا أعتقد أنّ أحدا يجادل في  أنّ هذه المعاني – مجتمعة- تكاد تتماهى مع مفهوم العصاميّة كمصطلح يدلّ  منذ العصر الجاهلي على “اعتماد المرء على نفسه حتى ينال الشَّرف والمجد” ويسودَ “بشرفِ نفسِه (فيكون عصاميّا) لا بشرّفِ آبائه” فيكون عظاميّا، كما جاء في المعاجم العربية.

للتذكير، فإنّ عصام بن شَهبَر الجِرمي، حاجب النعمان بن المنذر- أحد ملوك المناذرة قبل الإسلام – هو من نسب إليه هذا المفهوم  بعد أن أشاد به  الشاعر المسيحي، النابغة الذبياني، لإرادته القويّة وعزيمته الفولاذية واجتهاده المستمرّ الذي أهّله عن جدارة أن يصبح من أقرب المساعدين للملك المذكور، وهو الذي بدأ مشواره المهني عاملا بسيطا في قصر النعمان  ثمّ حاجبا له. وقد قال فيه النابغة الذبياني  :

نفس عصام سوّدت عصامِاً … وعلمته الكر والإقداما

وجعلته ملكاً هماماً … فتعالى وجاوز الأقواما

وقال فيه الملك النعمان نفسه” إنّ عصام بن شهبر بألف جندي”.

 ما دعاني إلى هذا المبحث في العصامية، وهذه المقدّمة التي قد تكون ممطّطة وركيكة لدى البعض هو، بداية، إسهامات العصاميين ممّن عرفوا مكامن القوّة فيهم وطاقاتهم الخلّاقة، فحوّلوها إلى إكتشافات وآختراعات وإبداعات وخدمات جليلة لفائدة مجتمعاتهم، وأحيانا لفائدة المجتمع الإنساني. وقد كان لي شرف الإطّلاع الواسع على السير الذاتيّة للكثير منهم في بعض المؤلّفات الغربيّة  كما الشرقيّة – ولو بدرجة أقلّ- تلك الإسهامات التي كان لها عظيم الأثر في النهضة العلميّة و التقدّم الإنساني في مختلف مجالات النشاط الإنساني عبر الزمان والمكان بما هو الفضاء بأبعاده الأربعة . وما شدّني، ثانية، هو كوني أنا أيضا عصامي في مجالي الصحافة والكتابة الأدبيّة، باعتباري علمي التكوين والمباشرة العمليّة. وإن كنت من غير صنف المؤثّرين، فأنّ  ذلك لم ولن يثنيني عن ممارستي لهواية الكتابة. تلك الهواية بالغة المتعة، الممتدّة لنحو نصف قرن.

ولأنّي إزاء مبحث غير أكاديمي، والعصاميون كثر- وأكثرهم تأثيرا من الغربيين المعروفة سيرهم لدى الجميع مثل فلتة الدهر “توماس أديسون” سالف الذكر- فإنّي سأكتفي في المقالة القادمة، بعرض نموذج ملهم ووحيد، من العصاميين العرب؛ وهو الكاتب اللبناني النابغة جرجي زيدان، الذي دشّن عالم الشغل، وهو في سنّ الحادية عشرة، بالعمل في مطعم، بما يشبه ما كان لاحقا، حال الشاعر التونسي الموهوب صديقي منوّر صمادح، الذي، إن كتب لي البقاء رغم الوباء، قد يكون مادة لمقالة لاحقة، وهو العصامي الذي دشّن عالم الشغل كعامل بمخبزة، وكان لا يزال فتى يافعا، واللعب أنسب إليه من العمل، فإذا  به يصبح رجلاً غير الرجال وشاعرا غير الشعراء، ويلقّب بشاعر الثورة والحريّة.

جرجي زيدان؛ نموذج قوة الإرادة ومضاء العزيمة

عندما تقلّب صفحات التاريخ التي تتحدّث عن العصاميين العرب، تعثر على عدد غير قليل من الذبن يستحقّون منّك إنحناءة  إحترام. ولكنّ قلّة قليلة منهم لا يكفيهم ذلك. ولعلّ من أبرزهم في التاريخ الحديث  العصامي جرجي زيدان الذي قال عنه بعض النقاد أنّه  “من أوائل من كتبوا روايات تاريخية مستمدة في اطارها العام من التاريخ الإسلامي” بل واعتبره  الكثير منهم “رائدا للقصّة التاريخية الإسلامية في عالمنا العربي.” ولكن من هو العصامي جرجي زيدان؟

لقد وجد جرجي زيدان نفسه،  منذ الصغر، أمام متاعب وعقبات لا حدّ ولا حصر لها، فقرّر شق طريقه الى إكتناه  عمق المعارف وإلى  المجد، بالاعتماد على جهوده  الفرديّة  فقط،  دون الاستناد إلى أحد غيره – بما في ذلك  السند العائلي-؛ فوالده أمّي لا يقدّر فضل العلم لأنّه لا يملك ناصيته، وفقير يعوزه تسديد نفقات تعليم إبنه. وبهذا التمشّي(الإعتماد على الذات) يكون جرجي زيدان تفاعل تلقائيّا مع مقولة إبن الوردي – دون علم بها- :”لا تقل أصلي وفصلي أبدا إنّما أصل الفتى ما قد حصل”

 وكذا مع القول المشهورالمختلف على قائله

إنّ الفتى من يقول هأنذا  … ليس الفتى من يقول كان أبي

فقد كانت نشأة هذا العصامي  في أسرة لبنانيّة  متواضعة سرعان ما تدحرجت، بعد غضب إحدى المتنفّذات على الأسرة، إلى مستوى الفقر، رغم كدحها المتواصل، وفي هذا يقول جرجي زيدان في مذكراته  : “نشأت  في صباي وأنا أرى والدي يخرج إلى دكانه في الفجر، ولا يعود إلّا في  نحو منتصف الليل أو قبيله،  وأرى والدتي لا تهدأ لحظة من الصباح إلى المساء …لم تكن تذهب إلى الصلاة بالكنيسة إلّا نادرا، وإنّما همّها تدبير بيتها وتربية أولادها … وقد شببت على ذلك والفته فغرس في ذهني أنّ الإنسان خلق ليشتغل وأن الجلوس بلا عمل عيب كبير”.

إلّا أنّ  الطفل اللَّمَّاح جرجي زيدان، بوعيه المبكّر، لم يعتبر لا الفقر ولا الصعوبات، حائلا جدّيّا بينه وبين النجاح والنبوغ، إن في النهل من العلم أو في مسيرته العمليّة والعلميّة. فهو من طينة النوابغ القلائل الذين لا يهزمهم الدهر ولا يستسلمون مطلقا للهزيمة. لذلك وطّد العزم على أن يبذل كل ما يملك من قوة وإرادة في سبيل تحقيق ذاته كذات مؤثرة في محيطها.

درس جرجي زيدان لمدة 6 سنوات بشكل متقطّع وفي ثلاث مدارس مختلفة، ورغم ذلك فقد تفتّحت شاهيته للمعرفة، كما لو كان على علم بمقولة  الإمام الشافعي البليغة :

“ومن لم يذق مرّ التعلّم ساعــة .. تجرّع ذلّ الجهل طول حياته”

ولكن “تجري الرياح بما لا تشتهيه السفن”، فقد اضطرّ لمساعدة والده في مطعمه الصغير في أحد أسواق بيروت. ولمّا كانت والدة جرجي زيدان تريد إعادته إلى المدرسة كان والده يردّ عليها “إنّه قد أتمّ دروسه ولا فائدة من كثرة الدروس، إلّا إذا كنت تنوين أن تجعليه كاتبا أو معلّما”. و وعبارة كاتب في السياق الذي وردت فيه تفيد معناها التوظيفي لا الإبداعي بما هو التأليف والبحث.

 لذلك وجّهه والداه في سنّ الثانية عشرة إلى تعلّم صناعة الأحذية، إلّا أنّها سبّبت له  متاعب صحيّة فتركها بعد سنتين فقط، ليعود مجدّدا إلى مطعم والده. وفي الأثناء، وكان سنّه لا يتجاوز خمس عشرة سنة، تعلّم الإنجليزية على مدى خمسة أشهر لدى معلّم، كان يتردّد على المطعم، لقاء ما يتناوله من مأكولات.ورغم تأكيد المعلّم  لجرجي زيدان أنّه أصبح يجيد هذه اللغة، فإنّه واصل تعلّمه لها بالاعتماد على نفسه حتّى أجادها فعلا وسبر أغوارها وفكّ رموزها وفتح مغاليقها، إلى درجة أنّه حاول وضع قاموس انجليزي عربي وشرع في الإشتغال عليه لكنّه لم ينهه.

ويروي جرجي زيدان أنّ أوّل كتاب رغب في مطالعته، ولم يقدر على اشترائه، إلّا مستعملا و بأقلّ من نصف ثمنه،  أثار غضب أبيه لأنّه “يشري الورق بلا فائدة” ووبّخه بقوله  :  »أتبدّل الدراهم بورق«! 

لكن فطنة العصامي الذي نعرض له، جعلته في سنّه المبكّرة، يستعين ببعض المعلّمين ممن يتردّدون على مطعم والده لمطالعة كتب الطبيعة والجغرافيا، فهو له ميل كبير لا للأدب فحسب، بل وكذلك للعلم. ثمّ تعلّم بعد ذلك حساب مسك الدفاتر ليكون كاتبا في أحد المخازن عسى أن يتخلّص من العمل في المطعم، وتفتح له آفاق جديدة في مساره لمزيد التحصيل في  العلم والأدب، معتقدا أنّ العمل بالمخزن، كما جاء في القول الشعري :

هو المهرب المنجي لمن أحدقت به

مكاره دهر ليس عنهنّ مهرب

لكن جرت الرياح ثانية بما لا تشتهيه سفينته وخاب ظنّه، فتجربته بالمخزن لم تدم سوى نصف يوم، وعاد في مساء ذات اليوم إلى مطعم والده أين التقى في مرحلة لاحقة بلفيف نيّر من  العلماء والكتاب والصحفيين الذين إستفاد منهم بمثل استفادته من مناقشاته مع الطلبة الذين كان يجتمع بهم وخاصة منهم طلبة الطبّ الذين أعجبوا بذكائه وأصبحوا أصدقاء له ويدعونه لزيارة الكليّة مما حفّز فيه رغبة تعلّم الطبّ، لاسيما بعد  اطلاعه على كتاب “سرّ النجاح”، وانخراطه في جمعيّة أدبيّة جلّ أعضائها من طلبة الطبّ. 

وقد استغرب أصدقاؤه هذه الرغبة لأنّ امتحان الدخول إلى الكليّة يفترض الإلمام بالهندسة والحساب والجبر ونحوها من المواد التي يجهلها. إلّا أنّ جرجي زيدان، وفي فترة العطلة الصيفية فحسب، أقبل على درس هذه المواد، بالليل والنهار، واستوعبها بفضل ذكائه الوقّاد ونباهته. وهو ما أفضى إلى نجاحه في الإمتحان، ليندهش أصدقاؤه ثانية. ولا غرابة في ذلك مطلقا،،فهم طلبة نمطيون يجهلون معنى العصامية التي تقرع الأبواب الموصدة  فتنفتح لها- ولو بعد حين- بما يترتّب عنه حصول مفارقات عجيبة تشكّل عالما سرياليا ) (surréel أو ما يشبه روايات فنتازيا الخيال،  بما هي معالجة إبداعية للواقع خارج دائرة المألوف.وهكذا دخل جرجي زيدان كليّة الطبّ ونجح  بامتياز في السنة الأولى ولكّنه وفي بداية السنة الثانية حمل لواء ” أول ثورة وإضراب  للطلبة في الشرق” للمطالبة بالحريّة الفكريّة بالكليّة، فوقع رفته مع لفيف من زملائه. إلّا أنّه تدارك الأمر ودرس علوم الصيدلة بمفرده، ثمّ أجرى امتحانا أمام لجنة من كبار الدكاترة من لبنان وسورية شفع بمنحه شهادة الصيدلة. 

إثر ذلك غامر بالهجرة إلى مصر – وكانت سنّه لا تتجاوز إثنتين وعشرين سنة-  لدراسة الطب البشري ولم يكن لديه المال الكافي لمتطلبات الهجرة فساعده أحد جيرانه بإقراضه بعض المال. ولكنّه في مدرسة الطبّ المصرية اعتبر طول المدّة عائقا أمامه فاتّجه نحو الصحافة واشتغل لأكثر من سنة محرّرا في الجريدة اليومية الوحيدة بالقاهرة وهي “جريدة الزمان” ثم استقال منها للعمل في السودان  كمترجم لحوالي سنة لاقى إثناءها بعض المتاعب تبعا لأهوال الحرب التي كانت قائمة آنذاك. ورغم نيله 3 أوسمة مصرية بعد عودته من السودان مكافأة  له على  الخدمات التي قدّمها هناك، فإنّه غادر مصر إلى بيروت، حيث أصبح عضوا عاملا في المجمع العلمي الشرقي. وفي الاثناء درس اللغات الشرقية  كالعبرانية  والسريانية، بما مكّنه من وضع كتاب”الفلسفة اللغوية والألفاظ العربية” وكانت سنّه لا تتجاوز الخامسة والعشرين سنة.. !

وكان من فرط إعجاب أحد أصدقائه به في هذه المرحلة، أنّ ألف رواية وسمها ب” رواية البطلين” تطرّق فيها بالخصوص إلى عصامية جرجي زيدان، باعتباره أوّل بطلي الرواية، معدّدا انتصاراته العديدة في معركة الحياة.

ولمّا عاد جرجي زيدان مجدّدا إلى مصر، واعترافا بجهوده في صناعة الفكر والعلم، فقد عيّن  مديرا عاما لمجلّة “المقتطف” التي كانت تعتبر حينذاك أهم وأشهر المجلاّت العلميّة في الشرق العربي لاستقطابها لأقلام العلماء والأدباء المرموقين. وكان هو نفسه قد ساهم فيها ببعض مقالاته الأدبيّة وبحوثه العلميّة. علما وأنّ أوّل مقالة له في بداياته في بيروت- ولم تحظ بالنشر- كان قد أرسلها إلى هذه المجلّة. وقد أجابه ، مدير المجلة، لمّا سأله جرجي زيدان عن ذلك عند لقائه به لاحقا في بيروت بالقول “إنّه يرجو أن تكون  المقالة الثانية خيرا من الأولى !”. إلّا أنّ العصامي الذي يقرع الأبواب حتّى تفتح له عن طواعية أصبح في هذه المرحلة المسؤول الأوّل عن المجلّة وباقتراح من أصحابها بعد نحو10 سنوات من ذلك . لكنّه بعد سنتين من العمل الدءوب على متابعة كل الجزئيات في علاقة بتحرير المجلة وبشؤونها الادارية، ارتأى أنّ هذا الجهد يعوقه عن متابعة البحوث والتأليف، فقرّر أن  يستقيل وينصرف من المجلّة  ليصرف وقته بالكامل للتأليف وكان “تاريخ مصر الحديث” (في جزءين) أوّل منجز له في هذا المضمار خلال هذه المرحلة.

ثمّ جاء كتاب تاريخ الماسونيّة العام فكتاب التاريخ العام. ورغم أنّ المدرسة العبيديّة الكبرى لطائفة الروم اللأرتودكس بمصر عيّنته ليتولّى إدارة التدريس العربي بها، فانّ ذلك لم يمنعه خلال السنتين اللتين قضاهما بها من تأليف أوّل رواية تاريخية  له- وكانت سنّه لا تتجاوز ثمان وعشرين سنة- ؛ ألا وهي “المملوك الشارد” التي لاقت رواجا كبيرا، حتّى أنّها طبعت طبعات عديدة. ولمّا قرر التفرّغ كلّيّا لأهمّ مشروع في حياته؛ وهو تأسيس “مجلّة الهلال” التي أكسبته شهرة واسعة وميّزته في المجال الصحفي – فضلا عن تأليفه 22 رواية تاريخيّة تسجل أحداثا من تاريخ العرب والمسلمين منذ عصر ما قبل الإسلام حتّى العصر الحديث- غادر المدرسة العبيديّة في عمر لم يتجاوز 31 سنة. وفي هذه المرحلة، فإنّه كعادته، لم يكتف بالتحرير فحسب، بل ألّف روايات تاريخ الإسلام  وهي6  وكتاب “التمدّن الإسلامي” ( في 5 أجزاء) وكتاب “العرب قبل الإسلام” و”علم الفراسة الحديث” و”مشاهير الشرق” في (جزءين) و”تاريخ الآداب العربية” في 4 أجزاء و”أنساب العرب القدماء” و”طبقات الأمم” و”عجائب الخلق” و”تاريخ انجلترا 3 . أمّا رواياته في غير التاريخ الإسلامي فهي “المملوك الشارد” و”أسير المتمهدي” و”استبداد المماليك” و”جهاد المحبّين” و … ولا بد من التساؤل هنا كيف أمكن لهذا العصامي من تأليف هذا الكمّ الهائل من الروايات التاريخية في حيز زمني لا يتجاوز الاثنتين والعشرين سنة.

لقد نال جرجي زيدان، لا فقط إعجاب العرب والمسلمين بعبقريتّه وتفرّده، بل حاز أيضا على إعجاب المستشرقين، فقد سأله أحد هم مستغربا :” أأنت جرجي زيدان؟” فأجابه :”نعم” فقال: “المستشرق “كنت انتظر أن ارى شيخا  ذا لحية بيضاء، لأنّ من يطّلع على مؤلّفاتك، لا يقدّر عمرك باقلّ من ثمانين سنة.” !

ولا غرابة في ذلك، فقد كانت حياته كلّها، رغم قصرها، عملا دؤوبا لتجاوز المعوقات؛ من فقر وجهل وشدائد وعقبات في سبيل  بلوغ  ما  يرضي طموحه . وبذلك قفز من الفقر إلى الرخاء ومن الامّية إلى التعلّم؛ فأصبح متعدّد  اللغات، يتردّد على فضاءات العلم وبذلك أيضا أنتقل من العمل في مطبخ وفي صناعة الاحذية إلى العمل في صناعة الرأي وإنتاج الفكر و العلم والأدب. واستطاع، بالنتيجة، أن يشكّل حالة إبداعيّة مختلفة اثرت المكتبة العربية بإبداعات  شكلت إضافة نوعية في تاريخ العرب والمسلمين وظلّت ولا تزال مصدر إلهام وثروة تنهل منها الأجيال وبقيت خالدة في الذاكرة والوجدان العربي بل والعالمي أيضا،وذلك بالنظر إلى ترجمة مؤلفاته إلى لغات عديدة.

وهو ما يؤكّد مضي عزيمته وقوّة إرادته بما صح فيه قول أحمد شوقي :

وما نيل المطالب  بالتمنّي ولكن تؤخذ الدنيا غلابا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المراجع:

1-   كتاب عصاميون عظماء/ أحد كتب الهلال التي تتنزّل في إطار السلسلة الشهرية إلتي تصدرها دار الهلال (القاهرة)، العدد35/ فيفري1954.وهو في 268 صفحة باقلام نخبة من الكتّاب وإشراف محمّد فريد أبوحديد.

2- كتاب مذكرات جرجي زيدان في 107 صفحات/ تاليف جرجي زيدان /  نشر دار الكتاب الجديد 1968

3-كتاب وقفة مع جرجي زيدان/ د. عبد الرحمان العشماوي (مقاربة أديان في 89 صفحة) الطبعة الأولى/ 1993

4.كتاب بانورما الرواية العربية الحديثة/ د.سيد حامد النساج/ الطبعة الاولى/بيروت (المركز العري للثقافة والعلوم)