الشباب العربي .. وأحلام الفرار

 

محمد عبد السلام 

 

توجد حالة يمكن اكتشافها ببساطة ترتبط بتنامي الرغبة في مغادرة المنطقة العربية. وهناك أرقام محددة يمكن أن تقدم دلالات واضحة حول المدى الذي وصلت إليها عملية الخروج، معظمها يتعلق بالمؤشرات المعروفة للهجرة، لكن المسألة تتجاوز بكثير ما تعنيه “الهجرة”، إلى حالة بشرية ذات أبعاد غير رقمية، تتصاعد في المنطقة العربية.

إن “المغادرة” ليست هي بالضبط الهجرة، فالأخيرة تتِـم في أطُـر منضبطة وأساليب آمنة يمكن فهمها، أما المغادرة، فهي نوع من الفِـرار من الدولة عبر أي وسيلة مُـتاحة للخروج، بصرف النظر عما سيتم بعد ذلك، يتضمّـن ذلك الهجرات غير الشرعية، التي أصبحت تُـشبه العمليات الانتحارية أو عدم العودة إلى الدولة والاستقرار خارجها بعد استكمال المهمة أو التكوين والدراسة، فيما يُـسمى عادة نزيف العقول.

أيضا، لا ترتبط المغادرة أحيانا بعمليات اللجوء السياسي، التي ربما لا يرغب من يضطر إليها في القيام بها أو النزوح الجماعي للبشر بفعل المشكلات الأمنية، كما حدث في العراق وسوريا ، ولا ترتبط بأعمال التهجير الإجباري، التي تقوم بها سلطات أو جماعات ضد قطاع من السكان أو اللاجئين عبر الحدود بفعل عوامل الطبيعة. ورغم استبعاد كل ذلك، تظل هناك مشكلة “مغادرة” أو فِـرار حادّة.

إن تقرير التنمية الإنسانية العربية  يقرّر أن 51% من الشباب في المنطقة قد عبَّـروا عن رغبتهم في الهجرة، ضيقا من الأوضاع السائدة بالنسبة لفُـرص التعليم والعمل.

فالدوافع المعيشية والتطورات المهنية، تشكِّـل هاجسا مستمرا وقلقا دائما بالنسبة لهم، وهي ظاهرة ليست جديدة وتتفاوت بالطَّـبع من دولة لأخرى، لكن من الواضح أنها استفحلت بصفة عامة في السنوات الأخيرة.

 

ثقافة المغادرة

هناك بحث أعدّه مركز دراسات الانتشار اللبناني يؤكِّـد هذا الواقع، خاصة بعد حرب يوليو 2006. فنتائج البحث تشير إلى أن 60% من اللبنانيين المقيمين، أبدوا رغبتهم في المغادرة، علما بأن حوالي 40 ألف فرد سنويا من فئات عمرية في سن العمل، يغادرون الدولة، مما قد يؤدى إلى شيخوخة المجتمع مع مرور الوقت.

لكن المسألة تبدو لدى اللبنانيين وكأنها ثقافة، أكثر منها ردّ فعل لضغط داخلي، فعلى الرغم من أن قطاعا كبيرا من الشبان اللبنانيين يشكون من الضيق المالي أو الأوضاع العامة، إلا أن الطموحات غير المحدودة للبنانيين في السعي وراء ظروف معيشية أفضل، أوسع من قدرة لبنان على تلبيتها، إضافة إلى أنهم لا يجدون مشكلة في الاندماج في المجتمعات الأخرى، التي تتحول بشكل سريع إلى بلدهم الثاني، وربما الأول.

إن ثقافة المغادرة أدّت في النهاية إلى حقيقة مثيرة، وهي أن عدد اللبنانيين خارج لبنان، أصبح أضعاف من يُـوجدون منهم داخلها ويتمتع هؤلاء بنفوذ قويا في مناطق هجراتهم، خاصة في أمريكا اللاتينية وغرب إفريقيا، بحيث أصبحوا مواطنين قادرين على الترشح لمناصب سياسية في تلك الدول.

 

أحلام الفرار

 إن المسألة في منطقة “وسط الشرق الأوسط”، تتَّـسم بطابع مختلف، فقد كان سائدا في الثقافة المصرية التقليدية، أن المصريين يموتون في المكان الذي يولدون فيه، أي أنهم لا يغادرون مناطقهم قبل أن يبدو أن طبيعة المصريين قد تغيَّـرت في منتصف السبعينات عبر تحركات بشرية مفاجئة بهدف العمل إلى ليبيا ثم دول الخليج والعراق، ووصلت أعدادهم في الخارج إلى عدّة ملايين، إلا أن معظمهم – فيما عدا فئة خاصة تغادر لدول غربية – يعودون إلى أرض الوطن أو يرغبون دائما في العودة.

المشكلة قائمة بصورة أكثر عُـنفا في دول مثل السودان والأردن، ثم في بلد الهجرات العظمى، وهى اليمن. فقد اتَّـخذت رغبة أعداد كبيرة من السودانيين في الخروج أشكالا مأساوية، وتتحرك الأردن في اتجاه “النموذج اللبناني”، المتعلق بثقافة المغادرة، أما اليمن، فإنها كانت المورد الرئيسي للهجرات الكبرى إلى كل مكان تاريخيا، ولا تزال كذلك على الأرجح.

في تلك المنطقة عموما، يمكن التمييز بوضوح بين المشاعر المعادية للولايات المتحدة لأسباب سياسية، وبين الرغبة في الذهاب إلى الولايات المتحدة، على نحو ما توضِّـح على الأقل أرقام التسجيل الضخمة في استمارات التقدم للحصول العشوائي على الـبطاقة الخضراء “غرين كارد” على شبكة الإنترنت، ويمكن مشاهدة الطوابير الطويلة أمام السفارات الأمريكية للحصول على تأشيرة للذهاب إلى هناك، لأسباب لا يمكن حصرها، فهناك “حلم أمريكي” لا زال قائما.

 

الحلم الأوروبي

 في شمال إفريقيا، يردد الشبان أغنية راي شهيرة تبدأ بـمقطع “بابور يامون آمور”، تتِـم من خلالها مناجاة مؤثرة لسفينة تأتي لتُـخرج شخصا ما من حالة البؤس التي يعاني منها إلى أرض أخرى، لا تهمه كثيرا معالمها، بل أنها تبدو أحيانا كحلم، فما يهمه هو “التخلص” من تلك الحالة، وتبدو الأغنية، لمن يسمعها، وكأنها تعبِّـر عن مشاعر تاريخية أكثر من واقع قائم، مثل موسيقى “الجاز”، بالنسبة للأمريكيين الأفارقة، لكن المشكلة أنها ليست كذلك، فهي ليست بعيدة عن الواقع بالنسبة لكثير من شباب تلك المنطقة.

إن هناك مؤشرات حقيقية تتعلَّـق باتِّـساع نطاق الرغبة في المغادرة إلى شمال المتوسط، فالمسافة الجغرافية القصيرة بين أوروبا وشمال إفريقيا، قد خلقت حُـلما أوروبيا يصعُـب الفكاك منه، حتى لو تكررت على المسامع عبارات تؤكِّـد بأن الجنة ليست هناك، وأن الشاب لن يكون أفضل في بلد أخرى، مما هو عليه في بلده، لدرجة أصبحت معها “المغادرة” وكأنها الخطوة الطبيعية التالية لإنهاء الدراسة أو حتى قبل إنهائها، لو توافرت فرصة ما.

 

الكابوس العربي

إن الرغبة في المغادرة ليست عبثية، فهي نابعة من مناخ يسوده اللاأمن الإنساني، الذي يشمل اللاأمن الإقتصادي واللاأمن الصحي وغيره.

فالمناخ العام السائد لا يوحي بالثقة ولا يشجع المواطنين على البقاء في بلادهم وبناء مستقبلهم، وحالة اللاأمن وعدم اليقين تلك، تنطبق على كثير من الدول العربية وتسبب الرّغبة في المغادرة، حتى في بعض دول الخليج العربية، التي يتّـخذ “الخروج” فيها أشكالا مختلفة، بعضها شديد الإيذاء للذات وللدول وللآخرين.

إن القضية بالنسبة لقطاع كبير من الشباب العربي لم تعد مجرّد الحصول على شهادة علمية، وإنما نوعية أفضل من التعليم، كما لم تعد مجرّد الحصول على فرصة عمل، لكن على عمل مناسب في مجال التخصص، وذلك في ظل أوضاع يصعُـب فيها أصلا استكمال التعليم أو الحصول على أية وظيفة.

 

“عدم العودة” المتعلقة بهجرة العقول، مسألة لا تتعلق في كل جوانبها بالهروب من الفقر والبؤس، وإنما تحقيق الذات، وتَـبعا لتقارير منظمة العمل العربية، فإن أكثر من 500 ألف من حملة الشهادات العليا العرب استقرّوا في العقد الماضي في الدول الغربية، قدّمت دولة مثل مصر وحدها ما بين 50 إلى 60% ممَّـن استقروا في الولايات المتحدة منهم.

إن المسألة ببساطة هي أن المجتمعات تتغيَّـر، بينما لا تقدم لها نخبتها السياسية “حلما” مُـقنعا يمكِّـنها أن تتمسَّـك به أو تعود إليه، وعندما لا يجد القِـطاع الأكثر طموحا وقلقا في تلك المجتمعات سوى النفق الرمادي، سواء كان حقيقيا أو متخيّـلا، تبدأ “أفكار الخروج” في الظهور، ويعد التفكير في مغادرة الحدود أكثر تلك الأفكار شعبية وأقلها خطورة.

اترك تعليقاً