الدول النامية بصدد تمويل الدول الغنية

محمد عبد المنعم /

يُعدُّ هذا الأمر بمثابة اللغز بالنسبة للخبراء الاقتصاديين: فبدلا من أن تتجه تدفقات رؤوس الأموال من الدول المتقدمة باتجاه الدول النامية، اتضح أنها تسير في الاتجاه المعاكس. وهكذا، يتم تهريب مئات مليارات الدولارات من الدول النامية في كل سنة إلى البلدان الغنية، بما في ذلك سويسرا.

في ربيع هذا العام، أعلنت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أنَّ أكثر من 160 مليار دولار، أي ما يُعادل إجمالي الناتج المحلي لدولة أوروبية كالمجر: هو المبلغ «غير المسبوق» الذي خصّصته الدول المتقدمة للمساعدة الإنمائية الرسمية أو العمومية (يُشار إليها اختصارا بـ APD) في عام 2020.

في عام الجائحة هذا، زادت نصف الدول المانحة مساهماتها من أجل مساعدة الدول الأقل نمواً على مواجهة الأزمة الصحية.

حتى قبل اندلاع الأزمة الصحية العالمية، كانت المساعدة الإنمائية الرسمية في ارتفاع مستمر حيث ازدادت قيمتها أكثر من الضعف منذ عام 2000، على الرغم من الأزمة التي شهدها العالم سنة 2008. وقد تمَّ دفع 120 مليار دولار في المتوسط كل عام، أي في المجموع ما يزيد عن 2500 مليار دولار خلال عشرين عاما، وهو ما يعادل تقريباً إجمالي الناتج المحلي السنوي لفرنسا.

إلا أنَّ عددا كبيرا من المتخصصين يُهوّنون من ضخامة المساعدات التي تمنحها الدول الأعضاء في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. لأنَّ العديد منها لا تقدم ما يكفي من الموارد مقارنة بالتزاماتها الدولية. ومع أنَّ هدف أعضاء لجنة المساعدة الإنمائية هو تخصيص 0,7% من دخلهم القومي الإجمالي للمساعدة الإنمائية الرسمية ذات الطابع العمومي، إلا أنَّ هذه الحصة لم تتجاوز نسبة 0,32% في عام 2020.

ووفقاً للبعض، قد يكون ذلك أيضاً للحفاظ على فكرة أن الأموال تتدفق باتجاه واحد من الدول المانحة إلى الدول النامية، في حين أنَّ الأمور ليست بهذه البساطة. وهذا، على سبيل المثال، ما كتبه جيزون هايكل، الخبير البريطاني المتخصص في الاقتصاد والسياسة والتفاوت على الصعيد العالمي، في صحيفة الغارديان في عام 2017:  «تُروى لنا حكاية منذ زمن بعيد (…) [مفادها] أنَّ الدول الغنية في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية تتبرع بسخاء من ثرواتها للدول الفقيرة (…) من أجل (…) الارتقاء بها في مجال التنمية. (…) هذه الرواية منتشرة بشكل واسع (…) لدرجة أننا أصبحنا نعتبرها أمراً مُسلّماً به». بيد أنَّ البلدان الغنية تتلقى تدفقات مالية قادمة من الدول الناشئة أكثر بكثير مما يتم تحويله في الاتجاه المعاكس.

عجز متواصل

بالتأكيد، ليس المقصود بالمساعدات الإنمائية أن تكون تعويضاً مالياً عن جميع أوجه عدم المساواة القائمة بين الدول المتقدمة والبلدان السائرة في طريق النمو، لكنها «شيء ضئيل جداً بالنظر إلى حجم الخلل» وفقاً لرشيد بوحية، الخبير الاقتصادي في مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (أونكتاد)، الذي يتخذ من جنيف مقرا له.

ويذكر رشيد بوحية أنَّ هذه الظاهرة «تتعارض مع النظريات الاقتصادية الكلاسيكية الجديدة، التي مفادها أنَّ رؤوس الأموال يجب أن تذهب بشكل طبيعي من الدول الغنية إلى الدول التي تُعاني من عجز في رأس المال. كما تُظهر أيضاً أنَّ بعض نماذج التنمية التي سُلطت عليها الأضواء في العقود الأخيرة، لم تفشل فحسب، وإنما تسببت في الكثير من الهشاشة».

كما يُشير المنشور إلى أنَّ تهريب رؤوس الأموال هو نتيجة لعدة عوامل، ولكنه مرتبط بشكل خاص بـ «الهشاشة المالية الناتجة عن الديون الخارجية للبلدان النامية».

لقد وصلت بعض الدول، التي يتم تشجيعها على تحمل القروض الخارجية بهدف تحقيق التنمية، إلى مستويات عالية جداً من الديون، التي تجعلها في دوامة: حيث تُعطى الأولوية لدفع الفوائد وتحويل الأرباح على حساب الدخل.

في هذا السياق، تُظهر إحصاءات أعدتها المنظمة البريطانية غير الحكومية “حملة اليوبيل للديون”، التي تناضل من أجل إسقاط ديون دول الجنوب، أنَّ حصة الدخل التي يتم إنفاقها لسداد الديون الخارجية آخذة في الارتفاع. حيث تقترب النسبة، على سبيل المثال، من 60% في الغابون و46% في أنغولا، مقابل 3 إلى 4% في معظم دول أوروبا الغربية و0,4% في سويسرا.

كما نوَّه رشيد بوحية أيضاً إلى عجز الميزان التجاري الذي تُعاني منه العديد من الدول السائرة في طريق النمو التي تستورد أكثر مما تُصدّر، أو تُصدّر المواد الخام التي تتأرجح أسعارها بشكل كبير.

وذكر الخبير الاقتصادي موضحاً بأنَّ «العديد من الدول لم تنجح في تطوير الصناعة بشكل كاف لكي تتمكّن من التصدير إلى الدول المتقدمة وبقيت عالقة في “دوامة الفقر”»، على حد قوله.

والجدير بالذكر أنَّ هناك عامل آخر: «فلكي تقي نفسها من المخاطر، شرعت الدول النامية في سباق لتكديس العملات الأجنبية، وخاصة الدولار»، وهو ما يعني خروج رؤوس الأموال من البلد الذي يشتري هذه العملات، ودخولها إلى البلد الذي يصنعها.

عشرات المليارات من تدفقات الأموال غير المشروعة

بالتالي، اقترب العجز المتراكم على البلدان النامية بين عامي 2000 و2017 من 11000 مليار دولار، منها 500 مليار دولار لعام 2017 وحده (أي أكثر من ثلاثة أضعاف إجمالي المساعدة الإنمائية الرسمية في تلك السنة).

هذه الأرقام هي الأرقام الرسمية، التي لا تأخذ بعين الاعتبار التدفقات المالية غير المشروعة. وتغطي هذه التدفقات الأخيرة جزءًا من الصفقات الإجرامية وغسيل الأموال والتهرب الضريبي إلخ. ولكن، وبشكل خاص، من التجارة القانونية «التي تمَّ تزوير فواتيرها (…) بهدف التلاعب في الضرائب»، بحسب الأستاذ في المعهد العالي للدراسات الدولية والتنمية جيل كاربونييه.

ببساطة: تتلاعب بعض الشركات متعددة الجنسيات بالفواتير لكي تتمكن من التصريح عن أرباح أقل للسلطات الضريبية في البلدان النامية التي جنت فيها تلك الأرباح ثم تُصرّح عنها، بدلاً من ذلك، في الدول التي تكون فيها الضرائب قليلة، كما هو الحال في سويسرا.

.