الفيروس الأبدي

د. أمير حمد

آن وقت الإفصاح عن ذلك عالياً: الفيروس الذي أطلق جائحة “كوفيد- 19” لن يندثر. ليس في المستطاع القضاء على “سارس- كوف- 2″، لأنه آخذ في الازدياد فعلاً في أكثر من 12 نوعاً مختلفاً من الحيوانات.

وفي أوساط الناس، يتعذر الوصول إلى المناعة المجتمعية (مناعة القطيع) العالمية، التي رُوج لها كحل أوحد.

ببساطة، لا تملك غالبية البلاد لقاحات مضادة تكفي الجميع، وحتى في الدول القليلة المحظوظة حيث تتوافر إمدادات كافية من الجرعات، يعرض كثر عن أخذ اللقاح. بناء عليه، لن يبلغ العالم مرحلة يتمتع فيها عدد كافٍ من الناس بمناعة تلجم تفشي الفيروس قبل نشوء المتحورات الخطرة منه- أي النسخ الأكثر قدرة على الانتقال من شخص إلى آخر، والأقدر على مقاومة للقاحات، وحتى على التملص من اختبارات الكشف التشخيصية المعتمدة حالياً. في مقدور تلك المتحورات الخارقة أن تعود بالعالم بأسره إلى المربع الأول. ربما يتكرر مشهد عام 2020 مرة أخرى.

عوضاً عن أن يندثر الفيروس سينتقل على الأرجح جيئة وذهاباً في شتى أنحاء العالم طوال سنوات عدة مقبلة. بعض الحالات الناجحة في الأمس تتهددها الآن موجات تفش خطيرة. كثير من تلك المناطق كبح جماح الجائحة عبر تطبيق ضوابط صارمة على حدودها وإجراء اختبارات كشف ممتازة، وتتبع المخالطين، وعزل المصابين، بيد أنها لم تستطع أن تحصل على لقاحات جيدة. وخير دليل على ذلك تايوان وفيتنام، حيث بقيت معدلات وفيات كورونا متدنية بشكل لافت حتى مايو (أيار) 2021، قبل أن يواجه البلدان انقلاباً تاماً في الأحوال نتيجة نقص التطعيم.

ولكن حتى البلاد التي وزعت اللقاحات على نسبة كبيرة من سكانها ستكون عرضة لتفشيات تنشأ عن متحورات مجددة. وقد حدث ذلك على ما يبدو في بؤر إصابات توزعت بين تشيلي ومنغوليا وسيشل والمملكة المتحدة.

السؤال الذي يطرح نفسه، ماذا علينا أن نفعل كي نضمن بقاءنا نحن أيضاً؟

لا يتحقق الانتصار على جائحة ما بالمال والموارد فحسب؛ إنما أيضاً بالأفكار والاستراتيجيات.

في عام 1854، في وقت لم تكن نظرية جرثومية المرض germ theory  قد ترسخت بعد، صد الطبيب جون سنو وباء الكوليرا في لندن عن طريق تتبع مصدره إلى بئر يملكها أحد المصابين. وبعدما أقنع سنو القادة المحليين بنزع مقبض مضخة البئر بغية تعطيلها، انتهى التفشي.

في سبعينيات القرن العشرين، كانت إصابات الجدري تعصف بأفريقيا والهند. أدرك عالم الأوبئة ويليام فويج، الذي كان يعمل في أحد المستشفيات في نيجيريا، أن الكمية الصغيرة من اللقاحات التي خصصت له لم تكن كافية لتطعيم الجميع. لذا ابتكر طريقة جديدة لاستخدام اللقاحات، إذ لم يصب تركيزه على المتطوعين أو من يحظون بمعارف ذات نفوذ، بل على الأشخاص الأكثر عرضة لخطر الإصابة بالمرض لاحقاً. بحلول نهاية العقد، وبفضل تلك الاستراتيجية، التي سميت بداية “المراقبة والاحتواء” ثم لاحقاً “التطعيم الدائري” (بمعنى مراقبة الحالات وعزلها وتطعيم كل من يعيش بالقرب منها)- قضي على الجدري.

نسخة القرن الحادي والعشرين من تلك الاستراتيجية، مصحوبة بحملات تطعيم شاملة سريعة، يمكنها أن تسهم في أن يصبح “كوفيد- 19” جزءاً من الماضي.

بالنسبة إلى جائحة كورونا، في جعبة علم الأوبئة أيضاً أدوات تعيد العالم إلى سابق عهده نسبياً، إلى حال تسمح لنا بالتعايش مع “سارس- كوف- 2” كما تعلمنا التعامل مع أمراض أخرى، من قبيل الأنفلونزا الموسمية والحصبة. يكمن الحل في التعامل مع اللقاحات على أنها موارد قابلة للنقل في المقدور نشرها على وجه السرعة في المناطق حيث تبرز الحاجة إليها: إلى البؤر الأشد تأثراً التي ترتفع فيها معدلات الإصابة فيما تنخفض إمدادات اللقاحات. الولايات المتحدة، التي تفيض باللقاحات، في وضع يؤهلها لقيادة هذا الجهد، عبر الارتكان إلى نسخة حديثة من الاستراتيجية التي استخدمت في السيطرة على الجدري.

كيف وصلنا لهذه الحالة

ضرب “كوفيد -19” العالم في لحظة جيوسياسية مشؤومة. في عصر صعود القومية والشعبوية، كان من العسير على نحو محبط تنظيم استجابة جماعية لمواجهة جائحة عالمية. جايير بولسونارو الرئيس البرازيلي، وشي جينبينغ نظيره الصيني، وناريندرا مودي الهندي، وفلاديمير بوتين الروسي، ورجب طيب أردوغان التركي، وبوريس جونسون رئيس الوزراء البريطاني، ودونالد ترمب الرئيس الأميركي- نمّ عن هؤلاء القادة كلهم خليط من التفكير الضيق الأفق وانعدام الأمن السياسي، جعلهم يهونون من خطورة الأزمة، ويتجاهلون العلم، ويرفضون التعاون الدولي.

كانت الاستجابة الدولية لـ”كوفيد- 19″ غير كفوءة على نحو مفاجئ، خصوصاً عند مقارنتها مع حملات سابقة احتوت أوبئة عدة، أو قضت على بعض الأمراض. في مواجهة الجدري وشلل الأطفال، مثلاً، تعاونت حكومات ومنظمات دولية معاً في سبيل تطوير وتمويل استراتيجيات متماسكة، حظيت بفرق استجابة في مختلف أنحاء العالم. للأسف، لم يُعامل “كوفيد- 19” بالمثل. لقد قوضت السياسة قطاع الصحة العامة في أزمة عالمية لم يظن أحد إلى حد ما أنها ممكنة. كممّ رئيس الولايات المتحدة أفواه قادة الصحة العامة الموثوق بهم في “المركز الأميركي للسيطرة على الأمراض والوقاية منها” (CDC)، وأعلن ترمب انسحاب الولايات المتحدة رسمياً من “منظمة الصحة العالمية” (WHO) في وقت كانت الحاجة إلى التعاون العالمي بالغة الضرورة.

على الرغم من أن إنتاج اللقاحات خطّ انتصاراً للتعاون الدولي، إلا أن توزيعها كان على النقيض من ذلك تماماً. تحوطاً، ابتاعت الولايات المتحدة ودول غنية أخرى من شركات مصنعة عدة أضعاف عدد الجرعات التي احتاج سكانها إليها، مستحوذة بشكل أساسي على سوق اللقاحات كما لو أن المنتج كان سلعة أساسية. وما زاد الطين بلة، أن بعض البلاد وضع لوائح تقييدية لتنظيم التصدير حالت دون تصنيع اللقاحات وتوزيعها على نطاق أوسع. في مايو الماضي، أشار مدير عام منظمة الصحة العالمية إلى أن 75 في المئة من الجرعات التحصينية ذهبت حتى الآن إلى 10 دول فقط، وقال إن التوزيع تشوبه “لا مساواة فاضحة” وأنه “يطيل أمد الجائحة”.

كورونا عند مفترق طرق

بعد مضي أكثر من سنة ونصف السنة على نشوء الجائحة، بات جلياً أن السباق لاحتواء الفيروس عبارة عن مسابقة عدو قصيرة المدى، وفي الوقت نفسه ماراثون طويل المدى. نعم، يتعين على العالم تطعيم أكبر عدد ممكن من الأشخاص في أسرع وقت ممكن بغية إبطاء انتشار الفيروس. ولكن حتى لو أن كل إنسان على هذا الكوكب أخذ اللقاح غداً، سيظل “سارس- كوف- 2” موجوداً في أنواع عدة من الحيوانات، من بينها القرود والقطط والغزلان. في الدنمارك، التقط أكثر من 200 شخص عدوى “كوفيد- 19” من حيوانات المنك. وعلى الرغم من غياب أي دليل حتى الآن يؤكد الانتقال الثابت للفيروس من البشر إلى الحيوانات ثم إلى البشر مجدداً، يشير رصد “سارس- كوف- 2” في أنواع حيوانات عدة أن ذلك الانتقال ليس محتملاً فحسب بل مرجحاً.

كذلك مات حلم الوصول إلى مناعة القطيع. قبل سنة واحدة فقط، راح بعض الخبراء الجدد يقدمون الحجج بشأن ضرورة منح الفيروس حرية الانتشار كي تصل البلدان إلى المناعة المجتمعية في أقرب أجل ممكن. اشتهرت السويد باعتماد هذا النهج؛ وكما كان متوقعاً، كانت معدلات الإصابات والوفيات التي سجلتها أعلى أشواطاً مقارنة بالدنمارك وفنلندا والنرويج المجاورة لها (علماً أنها واجهت أضراراً اقتصادية مماثلة). ولم تتخل بلاد عدة عن هذه الاستراتيجية الخاطئة إلا بعد حدوث مئات الآلاف من الوفيات التي كان في المستطاع تفاديها حول العالم.

في الآونة الأخيرة، وضع علماء الأوبئة على طاولة النقاش النسبة المئوية للسكان الذين ينبغي تطعيمهم من أجل الوصول إلى مناعة القطيع، ومتى نبلغ تلك العتبة. ولكن الآن، بات واضحاً أن العالم لا يسعه أن ينتظر مناعة القطيع من أجل السيطرة على الجائحة. من ناحية، يسير التطعيم بخطى وئيدة. يستغرق إنتاج إمدادات كافية من اللقاحات وتوزيعها وقتاً طويلاً، وتؤدي حركة عالمية كبيرة ضد اللقاحات إلى خفض الطلب عليها. ومن ناحية أخرى، شهدت البلاد تدفقاً مستمراً من متحورات جديدة من الفيروس، مهددةً التقدم المحرز في اللقاحات والتشخيصات.

في الواقع، المتحورات نتيجة ثانوية لا مفر منها للصعود المطرد للجائحة. يومياً، يُسجل أكثر من نصف مليون إصابة جديدة بـ”كوفيد- 19″. يؤوي كل مصاب مئات المليارات من جزيئات الفيروس في جسمه، وكلها تتكاثر على نحو مستمر. تنتج كل جولة من تكاثر جسيم فيروسي واحد ما معدله 30 طفرة جينية. صحيح أن الغالبية العظمى من الطفرات لا تعزز قدرة الفيروس على العدوى ولا تجعله أكثر فتكاً. ولكن في ظل العدد الهائل من الطفرات التي تستجد يومياً في مختلف أنحاء العالم، يتعاظم باستمرار احتمال أن يؤدي بعضها إلى فيروسات أكثر خطورة، فتصبح “متغيرات مثيرة للقلق”، كما يسميها علماء الأوبئة. حالات التفشي الشديدة جداً، على شاكلة تلك التي ضربت نيويورك في مارس (آذار) 2020، والبرازيل في مارس 2021، والهند في مايو 2021، لن تؤدي إلا إلى مفاقمة الخطر.

دور أميركا

كونها بلداً غنياً وقوياً ومتقدماً علمياً، تبدو الولايات المتحدة الطرف الأقدر على المساعدة في توجيه المعركة الطويلة ضد كوفيد- 19″. كي يتسنى لها ذلك، عليها أن تستعيد سمعتها لقيادة الصحة العامة على الصعيد العالمي. في هذا الوقت من صعود النزعة القومية فيها وفي بلاد أخرى مجدداً، سيكون على أميركا أن ترتقي فوق قوى الانقسام، وأن تحشد بقية العالم للانضمام إليها في النهوض بما يعتبر ربما التجربة الأكبر على الإطلاق في التعاون الصحي العالمي.

للشروع في مسعاها، على واشنطن أن تمضي قدماً في مسارها نحو الوصول إلى تسجيل صفر إصابات “كوفيد- 19” داخل حدودها. ليس في مقدور أي بلد أن يساعد غيره من البلاد إذا كان هو نفسه عاجزاً.

إذا نجحت الولايات المتحدة الأميركية في حل لغز السيطرة على تفشي “كوفيد- 19” داخل حدودها وحماية نفسها من دخول الفيروس إليها من الخارج، سيكون في متناولها مخطط تتشاركه مع البلاد الأخرى حول العالم. عليها أن تفعل ذلك، متحولة إلى الخارج من أجل المساعدة في قيادة ما سيشكل أكبر حملة للسيطرة على الأمراض وأكثرها تعقيداً في تاريخ البشرية. لبلوغ هذه الغاية، يتعين عليها أن تدعم القدرة التصنيعية الموسعة للقاحات “كوفيد- 19” في شتى أنحاء العالم، والشروع في توزيع ما يكفي منها للوصول إلى الميل الأخير من كل بلد في العالم- في خطى سريعة تسبق ظهور متحورات جديدة.

إنجاز المهمة

حتى الآن، ليس “كوفيد -19” أسوأ جائحة في التاريخ. لكن لا ينبغي لنا أن نخاطر بحياتنا.

السنة ونصف السنة الماضيان كشفا كيف أن العولمة، والسفر الجوي، والتقارب المتزايد بين البشر والحيوانات- باختصار، الحداثة- جعلت البشرية أكثر عرضة للأمراض المعدية. من ثم، يتطلب الحفاظ على أسلوب حياتنا إدخال تغييرات عميقة إلى طريقة تفاعلنا مع عالم الطبيعة، وطريقة تفكيرنا بشأن الوقاية، والكيفية التي نستجيب بها لحالات الطوارئ الصحية العالمية. كذلك يستدعي من القادة الشعبويين التفكير في شؤون العالم أجمع. ففي الحقيقة، لا تجدي المصلحة الذاتية والنزعة القومية نفعاً عندما يتعلق الأمر بمرض معد قاتل يعبر أرجاء العالم بسرعة طائرة نفاثة وينتشر بوتيرة مهولة. في خضم الجائحة، تتلاقى الأولويات المحلية والأجنبية عند نقطة واحدة.

ما زال شطر كبير من المعمورة في حداد على أرواح كثيرة أزهقت منذ أن بدأت الجائحة.

توفي ثلاثة ملايين ونصف مليون شخص في أقل تقدير بسبب كورونا. ويكابد كثيرون تأثيرات مستمرة للمرض لم تبرح أجسادهم. أما الخسائر المالية التي أسفرت عنها الجائحة فبلغت نحو 20 تريليون دولار، وفق التقديرات.

عملياً، لم يسلم أحداً من بعض الحزن أو الخسائر. الناس مستعدون لوصول الكابوس الطويل إلى خواتيمه. لكن في معظم المناطق، تختلف الحال..

.