الثقوب السوداء

محمد رضا

مع كلِ اكتشافٍ علميٍ جديدٍ يقوم به الغربُ، تشعرُ الشعوبُ المتخلفةُ بجهلِها وتقدِّمِ الآخرين عليها، بينما هم كأصحاب الكهف ضربَ اللهُ على آذانِهم سنينَ عددًا، بل إن شئت قل «قرونَ عددًا». فتظهر في هذه الحالة مواقف عِدَّة، بين لاعنين لهذا الغرب وتلك الدول، ثم يروجون بعد ذلك لنظرية المؤامرة، كي يريحوا أنفسَهم من تحمُّلِ نتيجة تخلُّفهم، فلسان حالهم يقول: نحن لسنا متخلفين، وإنما غيرُنا هم مَن أرادوا لنا التخلف، وهم سبب ما نحن فيه. أما نحن فلا ذنب لنا في جهلنا وحالنا تلك، نحن فقط مجرد ضحايا لهذا العالم الشرير الذي يتكالب ويتآمر علينا.

وبين صنفٍ أخر أيضًا منهزم نفسيًا ولكنه يُعوِّض انهزامَه برِفعةٍ دينية، بما أن الدين هو أحد المكونات والأعمدة الرئيسة في حياتهم، حتى قال الإمام الثوري «إن استطعت ألا تحك رأسَك إلا بأثرٍ، فافعل» فحتى حكّ الرأس يُفَضَّل أنْ يكونَ بِناءً على نصٍ وعلى دليلٍ من الدين.

وعليهِ، فلا بد لهؤلاء أن يبرروا أي شيء من الدين، حتى أن أحداث 11 سبتمبر أوجدوا لها ذكرًا في القرآن استنادًا إلى آية «أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» حيث أن الآية تقع في الجزء الـ11، في سورة التوبة التي هي رقم 9، وعدد كلمات السورة 2001 كلمة. لتشير إلى 11 من شهر سبتمبر (أيلول) عام 2001، وقد اعتمد هذا الرأي شيخ كبير كالشيخ محمد الحسن ولد الدوو، وهنا يتبادر سؤال: على أي أساس تمت هذه الحسابات؟ لمَ قالوا إن الآية تقع في الجزء الـ11، ولم يعتبروا أن الآية هي رقم 109 في السورة؟ ما هي القاعدة التي استندوا عليها حين اختاروا رقم الجزء ولم يختاروا رقم الآية؟

من الواضح أن القضية قضية تلفيق أرقام لتظهر في النهاية بشكل مرتب، حتى لو لم توجد منهجية في هذه التلفيقات.

لكن دعوني أعود إلى قضية الثقوب السوداء التي لاقت رواجًا في اليومين الماضيين.

يفسر الدكتور زغلول النجار آية «فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ لْجَوَارِ الْكُنَّسِ» بأنها هي الثقوب السوداء والتي من إعجاز الله أنها لا تُرى – والتي بالمناسبة تم رؤيتها بشكل حقيقي منذ أسابيع – بالإضافة إلى أنها تكنس السماءَ، ورغم عدم صحة هذا الكلام بشكل تام، فلو تم تبديل الشمس بثقب أسود بنفس الكتلة، فلن يتغير شيء في النظام الشمسي، ولن تكنس الشمسُ أيَ شيء، وستبقى الكواكبُ تدور حول هذا الثقب الأسود وكأن شيئًا لم يحدث. ولكن بعيدًا عن صدق هذا التفسير من عدمه وهو القول بأن الجوار الكنس هي الثقوب السوداء، تأتي إلينا بعد ذلك المذيعة البريطانية كلير فورستير على قناة There is no clash، لتفسر إلينا آيات سورة النجم بأنها هي الثقوب السوداء، وأن النبيَ حين عرج في السماءِ كان قد دخل ومرّ في ثقب أسود، وبهذا استطاع أن يذهبَ إلى عالمٍ آخر.

سباق الأديان

بل إن القضية للأسف لا تخص المسلمين وحدهم، فقد قرأت كلامًا أيضًا لبعض المسيحيين يستدلون به في الإعجاز العلمي كذلك، وتعليقًا على قضية الثقب الأسود فقد استدلوا بآيةٍ في الكتاب المقدس في رسالة يهوذا «أَمْوَاجُ بَحْرٍ هَائِجَةٌ مُزْبِدَةٌ بِخِزْيِهِمْ. نُجُومٌ تَائِهَةٌ مَحْفُوظٌ لَهَا قَتَامُ الظَّلاَمِ إِلَى الأَبَدِ» (رسالة يهوذا 1: 13). وعليهِ، فقد استدل المسلمون من قرآنِهم، واستدل المسيحيون من كتابِهم المقدس، ويستدل أيضًا الهنودس على الإعجاز العلمي في كتابهم الفيدا، فبأي دين نؤمن الآن؟

كل هذه الادعاءات الغريبة والخاطئة دينيًا وعلميًا لأجل ماذا؟ لأجل ماذا يعتبر د. زغلول النجار أن عدم رؤية الثقوب السوداء من دلائل قدرة الله وإعجازه، فهل سيستمر في اعتبار عدم رؤيتها إعجازًا بعد أن رأيناها حقيقةً منذ ساعات؟

هل ستستمر كلير فورستير في ادعائها بأن النبي عبر من خلال ثقب أسود في حادثة المعراج؟ هذه الحادثة التي لم يتفق المسلمون على أيِّ شيء فيها. فقد اختلفوا في تاريخ الحادثة، في يومها وعامها، واختلفوا في عدد مراتها وتكرارها، ثم اختلفوا في شكلها وطريقتها، هل كانت يقظةً أم منامًا، بالروح أم بالجسد، واختلفوا كذلك في اتصال الحادثتين أم انفصالهما، فهل حدث الإسراء والمعراج في وقت واحد أم كل حادثة منفصلة عن الأخرى، كما اختلفوا في تفاصيل كل حادثة على حدة، فاختلفوا حول المعراج هل ذُكر في القرآن أم لم يُذكر، وهل رأى النبيُ ربَّه ببصره أم لا، وهل ما ذكرته سورةُ النجم من رؤية كان لجبريل أم لله عز وجل؟ بل منهم مَن أنكر هذه الحادثة تمامًا لتعارض أحاديثها وغرابتها.

فكيف يتم بناء كل هذه الافتراضات والتعقيدات العلمية على قصةٍ لسنا متأكدين أصلًا من صحتها!

وهنا أريد أن أسأل، إذا كانت سرعةُ الضوء مذكورةً في القرآن، والثقوبُ السوداء في القرآن، وأحداث 11 سبتمبر أيضًا في القرآن، فلماذا لم يكتشفها المسلمون قبل الغرب؟

لماذا ينتظرون حين يتم الإعلان عن الاكتشاف، ثم يأتون بعدها ليقولوا: لم تأتوا بجديد، وإنما نعلم هذا الكلامَ منذ أربعة عشر قرنًا؟ لماذا لا يأخذ أحدٌ منهم القرآنَ ويجلس في غرفةٍ مغلقة ثم يخرج لنا بالنظريات العلمية، وبالإخبار عما سيحدث في المستقبل؟ لماذا لم يتقدم المسلمون علميًا وهم لديهم جميع هذه العلوم والمعلومات منذ 1400 عام؟ هل أنزل اللهُ كتابَه ليشرحَ لنا سرعةَ الضوء وماهيةَ الثقوب السوداء؟ لماذا يتعاملون بالملقاط في كلمات القرآن، فيأخذون كلمةً على إنها إعجاز في العلم، ويتركون التي تليها؛ لأن العلم لا يعرف ماهيتها؟ كآية «أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا» إننا نتشبث بكلمة «رتقًا» و«فتقناهما» على أنهما يدلان على نظرية الانفجار العظيم، ولكن السؤال: إذا أردت أن تُفسر «رتقًا» و«فتقناهما» بالعلم، فلماذا لا تفسر الكلمةَ التي قبلهما وهي «السماوات» بالعلمِ أيضًا؟ إن العلمَ لا يعرف ما هي السماوات؟ لا يعرف العلمُ إلا سماءً واحدة، وإذا وضعنا هذا الكلام تحت مجهر العلم التجريبي، فهو كلام باطل ليس عليه دليل. إننا نستخدم الملقاطَ لنأخذَ كلمةً واحدةً أو كلمتين ونترك باقي الآية؛ لأننا نريد إثباتَ وجهة نظر منحازة.

هل يستطيع أحدٌ أن يُخضع جميعَ آيات القرآن للعلم الحديث، ليقولَ لنا أين السماوات السبع؟ وأين الأرضين السبع؟ وأين هذا السقف الذي فوقنا كما جاء في قوله تعالى «وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَّحْفُوظًا»؟ هل يمكن لشخص أن يفسر لنا كيف أن النجومَ رجومٌ للشياطين؟ هل يستطيع أحدٌ أن يفسرَ لنا الحديثَ الموجود في صحيح البخاري القائل بأن الشمسَ بعدما تغرب تذهب تحت عرش الرحمن؟ حين قال النبي «يَا أَبَا ذَرّ، أَتَدْرِي أَيْنَ تَغْرُب الشَّمْس؟» قُلْت: اللَّه وَرَسُوله أَعْلَم. قَالَ: صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِنَّهَا تَذْهَب حَتَّى تَسْجُد تَحْت الْعَرْش» أم أنهم سيستمرون في استخدام طريقة الملقاط هذه ليأخذوا فقط بعضَ الآيات والكلمات التي يريدونها؟

إن القرآنَ لم يقل انظروا بداخلي لتجدوا المعجزاتِ العلميةَ، وإنما قال «قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا»، لم يقل القرآنُ أنظروا بداخلي لتجدوا علومَ الفلك، وإنما قال «قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ»، لم يقل القرآنُ انظروا بداخلي لتجدوا علومَ الأحياء وإنما قال «أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كيف خلقت»، وقال «وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ»، لم يقل القرآنُ أنه يحوي كلَ علوم الدنيا وإنما قال «أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ».

أنني مقتنع تمام الاقتناع أنه حين يكتشف الغربُ علاجًا للسرطان، سيخرجون علينا ويقولون: إن هذا الدواءَ موجودٌ لدينا منذ 1400 عام، ولم تأتوا لنا بجديد.

.