الثقافةُ الأنغلوساكسونية .. تلك الدّودة الّشريطيّة

موسى الزعيم

كتابٌ جديدٌ يتحدّث عن الثقافة الغربية، من داخلها وباللغة العربيّة وهو لكاتبٍ عاش في كنفٍ الغرب فترةً زمنيةً طويلةً، استطاع من خلالها الوقوف على تفاصيل المجتمع وثقافته، الثقافة التي تمثّل المرآة الحقيقية له، وهي ليست على الصعيد الأدبيّ والفنيّ فقط، وإنّما على صعيد الحياة العامة أو السّمة المميزة لشعب ما، ويبدو أنّ مؤلف كتاب “الثقافة الانغلو ساكسونية تلك الدودة الشريطية” فاضل عباس هادي، وصل إلى هذه المرحلة من الاختراق للمجتمع الأنغلو ساكسوني الأوربّي، ساعده في ذلك  دراستهُ للأدب الانكليزي في ستينيات القرن الماضي، ومن ثمّ عمله في الصحافة الانكليزيّة في العراق، في فترة ازدهار الترجمة من الغرب، الفترة التي شهدت عدداً من أهمّ المترجمين العرب نقلوا آداب الغرب لتكون زاداً أساسياً لمثقفي تلك الفترة، والمكّون الثقافيّ المعرفي للمؤلف، قبل وصوله إلى لندن .

 وكتاب الثقافة الأنغلو ساكسونية أو الجزء الثالث من كتاب “الورّاق” الذي سعى الكاتب فيه إلى تدوين كلما يخطرُ في باله حول الثقافة الغربيّة ومكوناتها بأسلوب نقدي حادّ معتمداً في ذلك على عين مصوّرٍ خبيرٍ يتقنُ التقاط الحدث، ويهتمّ بتاريخ الفوتوغرافية، والسينما والصورة، واصطياد الفكرة المناسبة وإن كان الترتيب لهذه الأفكار والنصوص خارجة عن إطار التّنظيم والتّسلسل المُتعارف عليه، وهي الأقرب إلى الدّفقة، ووجهة النّظر، كلّ ذلك مَسرودٌ على مدى ثلاثمائة وستين صفحة.

  حاولَ هادي جمعَ تجربتهِ الثقافيّة والحياتيّة، وخبرتهِ المعرفيّة في شتّى فنون الحياة، وتفاصيلها ابتداء من الحكمة، مروراً بالفلسفة و الأدب العالميّ، إلى تفاصيل مُعجميّة لغويّة تنهجُ مَنهجَ المُقارنة، إلى حديث السياسية والجاسوسيّة، وفنّ التّصوير وغيرها مما لا يخطر لكَ على بالٍ .. بل أنتَ مرهونٌ بما تفرزه قريحتهُ، متى تشاء وبما تشاء، نصّ يبسطهُ أمامكَ، لا يضبطه سوى النقطة في آخره، بعدها ينتقل إلى موضوعٍ آخرَ لا يمتّ لما قبلهُ بِصِلَةٍ.

  وبالنتيجة فهو ليس بالرّحالة لكنّه يكتبُ عن المُدن.. وهو ليسَ باللّغوي، لكنه يكتبُ في أصول اللغات وفِقه الكلمات و بأسلوبٍ حكائيّ طريفٍ يروي كأنّه حكواتيّ، وهو ليس ناقداً  لكن له رأيهُ النافذُ في الأدبِ والفنّ.. هو ليس عاشقاً لكن الحبّ يملأ قلبه..فيتحدث عن تفاصيل دقيقة تخصّ المرأة والعاشقين.. وليستْ له خبرةٌ في الطبخِ، لكنّه يعرفُ المقاديرَ جيداً، وهو ليس مُطرباً، لكنّه يكتبُ عن الغِناء وعن أسمهان و الحنجرة العميقةِ وغيرها.

 وهو لا يكتبُ سيرتهُ الذاتيّة، لكنّه يُغرق أحياناً بتفاصيلَ عاشها، فيختفي حيناً وراء ضمير الغائب، و يغلبه أحياناً أخرى السّرد فيقول: عندما كنتُ في العراق.. أو قالتْ لي.. مستنداً إلى ضمير المُتكلم ومرّة يتحدّث بصيغية الجمع فيقول يوم كنّا .. أو عندما زرنا.

 عشيقاتُه.. مُدن

  ” الرجال يعشقون النساءَ وهو يعشق مُدناً” هكذا يحاكي هادي؛ همنغواي في أقصر قصّةٍ قصيرةٍ

وعندما سألهُ أحدهم لماذا تسافر إلى تونس؟ قال “لأسمعَ صياح الدّيك”

ويقول في عِشقه لبرلين ويفاضلُ بينها وبينَ لندن، فتخالهُ يفاضل بينَ امرأتين، ففي حضنها يطير عصفورُ قلبه.

يتجوهرُ في برلين | يتبعثرُ في لندن | يتجلّى في برلين |يتقعّرُ في لندن| يتمتّعُ في برلين |يتبعثرُ في لندن| يتوجّعُ في لندن | يبتسمُ ويتبرعمُ في برلين| ينكسفُ ويتجهّم في لندن|

 يعودُ ليستدركَ في مكانٍ آخرَ من الكتاب لماذا يتعافي؟ ألمْ نَقُلْ يتصابى في برلين |يتجهّمُ و يتعاوى في لندن.

ورغم أنّه يتحدّث أحياناً بانبهار عن لندن ودورِ النشر فيها والتي تعنى بالترجمات من وإلى العربية، لكن كثيرةٌ هي النصوص في الكتاب التي تحدثتْ أقانيم برلين الثلاثة (الماءُ والخُضرةُ ووجه النساءِ الحَسن) ..يحاولُ أحياناً أن يجدَ السببَ..تبهرهُ كثرةُ مقاهيها، والتي تعكس الطّابع الشّخصيّ لأصحابها، عكس مقاهي لندن ذاتِ الطابع الايطالي أو الأمريكي،هو يحبّ سوقَ الخُردة في برلين ومكتباتها، قرب الأشجار من البيوت، حدائقها، جسورها.

الانكليز أسنانُهم مُسوّسَة

ينتقدُ الكاتبُالانكليز بشدّة، وخاصّة حياتهم الاجتماعيّة والسياسيّة والعمرانيّة أحياناً، يمقتُ علاقات الحبّ بينهم ومطبخهم ..تكرارهم لكلمة بزنس وتسوسَ أسنانهم، ولغتهم القصديريّة، يقول فيهم إنّ حاسّة الذّوق عندهم ضعيفة، وأنّ حكومتهم مَنعت الأفكار الفرنسيّة الثوريّة من عبور القنَال إليهم، ويصفهم بالجُبن أحياناً وبالبرود أحياناً أخرى، ولعل ذلك يظهر في الكتاب كَسمة عامّة، تراه أحياناً يتهكّم عليهم في بعض القضايا إذ يرى أنّ لديهم عادةً غريبةً مثل كشفِ مؤخراتِهم كتعبيرٍ عن الاحتجاج السياسيّ، يصف وجوههم الوادعة والتي تُخفي ما تخفيه من زيفٍ، يقول في أحد النصوص مؤكداً:

  ..  للمرّة الألف الانكليزيّ أو الانكليزيّة لها وجهٌ ناعمٌ أملس، ملاكي إلاّ أنّه يُخفي طبيعةً إجراميّة مخيفةً وراء ابتسامةٍ صفراءَ “

أمّا نظام الخوف الداخليّ لديهم يفسّره بقوله:

إذا التقيت بشخصٍ انكليزيّ فكنْ على ثقةٍ بأن هناك شخصاً ثالثاً اسمه القانون يقف بينكما.. إذا التقى رجل بامرأة تجد الشخص الثالث المذكور وهو أكثر قوةً وجبروتاً وتهديداً مما سبقه”

اللغة والمقارنات اللفظية  

في الكتاب تجد الكثير من النصوص التي تتحدث عن ألفاظ معيّنة، يبسطها ويحلل معانيها من عدّة لغاتٍ يقفُ عند بعض الكلمات الانكليزيّة والألمانيّة والاسبانيّة الفرنسيّة والعربيّة ،مرّةً يقارنها ببعض الألفاظ القديمة، يُبدي رأيه أو اعتراضه على ترجمة مُصطلح ما، معلقاً ومبدياً ملاحظاته التي لا تخلو من روح الدّعابة أحياناً، والعُمق في الطّرح أحياناً أخرى ومن أمثلة ذلك:

“المفرداتُ التي تقودكَ إلى الينابيع باللغتين الفرنسيّة والعربيّة،تشير إلى طريق البواليع في الانكليزية”

في موضع أخر يخاطبُ الألمان من أجل حلّ قضية لغويّة تبدو مُضحكة إلى حدّ ما، فقد نشرَ مقالاً في صحيفةٍ عربيّةٍ بمناسبة حلّ مشكلة جدار برلين، إلاّ أنّ مُشكلة التقاء الساكنين لم تُحلّ في اللغة الألمانية يقترحُ عليهم استعارة لفظ من العربيّة مثلاً   

متى يحلّ الألمان مشكلة التقاء الساكنين ؟ – PF  كيف أن ألمانيا أفلحت في توحيد البلاد إلاّ أنّها لم تستطع أن تحلّ مُشكلة التقاء حرفين ساكنين، ويتمنى لو أن الألمان يضعون بينهما حرفا صائتاً لتسهيل اللفظ ، كما في كلمةالبرقوقبالألمانية Pfiaumen وغيرها .. لعل عربياً يقرأ هذه الملاحظة، عربيا يجيد الألمانية ليكتب إلى المبجّلله.أنجيلا ميركللتطبيق هذا الاقتراح

 من جهة ثانية يطالب الألمان مثلاً بإلغاء كلمة سفر” Fahrt” من لغتهم لأنّ معناها في الانكليزية مقززٌ أو مضحكٌ ويطالبهم إنْ استطاعوا باستعارة كلمة “سفر، سافر” من العربيّة لأنّ لفظ حرف الرّاء على ألسنتهم عذبٌ جميلٌ

 ومرّة أخرى يعلّق على بعض التراكيب في اللغات، والتي تحمل سمات عامّة يقول: الانكليزيّة تستعذبُ لغة الحروب  وتستخدمُ تراكيب مثلَ المرّوجون للحرب،  الأمّة الحربيّة، وكمائن القتال.

كشكولٌ ثقافيّ أوربيّ

يحاولُ عباس فاضل أن تكونَ له ألفُ عينٍ وألفُ أذنٍ .. يرصدُ ويسمعُ، يحمل في جيبه ورقةً وقلماً يدوّن كلّ فكرةٍ سانحةٍ تخطر له .

 يقول لا أتدخّل في شؤون الناس”لا أريدُ أن يسألونني عن رأيي في كتاباتهم، لأنّي لا أسألهم عن رأيهم في كتاباتي”

حياتهم ليستْ ضمنَ دائرة فضولي واهتمامي، لكنني أحياناً أكتبُ ما أعيشُ وأسمعُ، ما يمليهِ عليّ بعضُ المعارفُ والأصدقاء من حكايات وربّما أسرار، أباحوا لي نشرها دون ذكر أسمائهم، حتّى لو كانت ضمن السرير.

في الكتاب تسرحُ ذاكرة الكاتب ببطء ويُسر تتداعى تحتّد في نقد الثقافة الانغلو ساكسونية عبر قرابة  نصف قرن عاشها في أوربا متنقلاً، يحاولُ أن يكون خفيفَ الظلّ فيما يسرده، أحياناً يفاجئك بالحكمة المُستخلصة لديه من الحياة في أوربا من عمق كتبِ الفلسفة والروايات الأوربيّة التي قرأها، من ألاف الصّور التي يؤرشفها، والتي يحفظُ لكلّ صورةٍ حكاية يرويها، يُبهرك أحياناً بأسماء الكتّاب الأوربيين والأمريكيين الذين يذكر أسماءهم، وإعمالهم الأدبية، وبمتابعته للحوارات التلفزيونيّة، والقضايا المطروحة في الإعلام الأوربي فنياً وأدبياً وسياسياً، رغم أنّه يحاول أن يكون بعيداً عن السياسة يعقد مقارنات، ويتحدّث قليلاً عن ذكريات طفولته في العراق والذي بات يراه في صورة تَعلّق الطفل بأمّه …يعبّر عن ذلك بنصّ فيه من القصصية والحنين والأصالة الشيء الكثير.

 “سألوه: لماذا انتحرتَ ؟ أجابَ: لم أعدْ أستطيع تحمّل سماع طفل يبكي، ثم سألوه: وكيف عُدت إلى الحياة ؟ أجاب: لأننّي سمعتُه يصدح قليلاً بما يشبهُ النّاي العربيّ”

الرقيب في كتاب فاضل في إجازة طويلة وقد تركَ له باب الخطوط الحمر مفتوحاً تماماً، لكنه لم يُسفّ .

في منهج تأليف الكتاب

  يقول المؤلّف في الصفحة الأولى: ” فلسفة الكتاب باختصار هذا ما رأيتُ، هذا ما شعرتُ به”

من جهة ثانية يقول إنه “باتَ ينفرُ من الثقافة الأنغلو ساكسونية نفوره من الدّودة الشريطيّة التي سكنتْ أمعاءه أيام الصبا”

 على مدى ثلاثمائة وستين صفحةٍ لا تجدُ عنواناً رئيسياً أو فرعياً واحداً، حتّى أنّه خلا من فهرس لثبتِ معلوماته، بل أنهى الكتاب بعدد من الصور الفوتوغرافية، وأغلفة الكتب التي دوّن عليها ملاحظات الصِبا..

 للحظةٍ وأنت تقرأ تشعر أنّ ما يقوله عادياً، يتحدّث في موضوع بسيطٍ بلغةٍ سهلةٍ عن رواية عالميّة ربما أنت قادرٌ أن تكتب في وصفها أفضل منه، لكن هل قرأت الرواية و المذهب الأدبيّ الذي تنتمي إليه وسيرة حياة كاتبها وأسفاره، من هنا يأتي السّهل المُمتنع في كتابات فاضل.

  تراوحتِ النصوص في الكتاب بين الطّول والقِصر، بعضها لا يتعدى السّطر الواحد بينما أطولها لا يتعدى خمس صفحات كحدّ أقصى.

 من جهة أخرى عَرف تراثنا العربيّ مثل هذه الكتابات الموسوعيّة ولعلنا نذكر هنا الجاحظ أوّل من مهّد الطريق لهذا النوع من الكتابة في كتبه ” البخلاء والبيان والتبيين والحيوان وغيرها ” وأسلوبه الموسوعي في شتى فنون القول فبرأي الجاحظ حتى تكون أديباً “يجب أن تأخذَ من علمٍ بطرف “ِ

 الجاحظ مهّد لفوضى الكتابة من هذا النوع كما يقول النقاد، جاء بعده ابن عبد ربّه، وغيره لكنّهم اعتمدوا التبويب والتنظيم في سرد معلوماتهم.. يذكر في هذا السياق أيضا كتاب (الكشكول) لبهاءِ الدّين العاملي و(المُستطرف في كلّ فنّ مُستظرف).. وغيرها، حتى نصل إلى أبي حيّان التّوحيدي في كتابه الإمتاع والمؤانسة.

في الأدب الأوربيّ سُميت هذا الكتابة بالكتابة الشذريّة وقد ظهرت بعد ظهور الآلة الكاتبة، ويعدّ فريدريك نيتشة صاحب الشذرات الفلسفية، أوّل من كتب بهذه الطريقة، يقول في ذلك:«إنّ مرماي أن أقولَ في عشر جملٍ ما يقوله غيري في كتاب بأكمله»، ويعتبرُ الشذرة«فنّ الخلود.

ولعل  فاضل عباس هادي تأثر في كتاباته بنيتشه، نتيجةَ قراءته له و متابعته واطلاعه الواسع على الآداب الأوربية، وربّما قطيعته مع التراث والأدب العربي، (فحسبَ قوله هو مُقلّ في قراءاته للتراثِ العربيّ، وقد انتبه إلى ذلك متأخراً)

ما يُؤخذ على الكتاب من وجهة نظري أنّه يخلو من التوثيق، إذ أنّ قسماً من المعلومات والأفكار فيه مأخوذةٌ أحياناً عن مقالات منشورة في صحفٍ غربية، أو كتبٍ لها أهميتها، أو أشخاص وكتابٍ ربما يجهلهم القارئ، كان يمكن للمؤلف أن يضع ثبتاً لتوثيق ذلك، أو هوامشَ وإحالاتٍ تفسّر بعض القضايا..

في المُحصلة هو كتابٌ ممتعٌ خفيفُ الظّلّ لا يُلزمكَ بقراءةٍ مُتسلسلةٍ أو عميقةٍ، فيه المُتعة والمعرفة والفائدة واللغة الجيدة، وهي من شروط نجاح أيّ كتاب.  

أخيراً كتاب الثقافة الأنغلو ساكسونية للكاتب العراقي فاضل عباس هادي صدرَ مؤخراً عن دار الدليل للطباعة والنشر في برلين في شهر آب عام 2019  يذكر أن الكاتب من مواليد العراق ويُقيم في لندن، صدر له لمسات ورّاق فرنسي الهوى والثّمار الأرضيّة بأسمائها الفرنسية وديوان شعر بعنوان قدح من الدموع المُجففة إلى أوديت.

.