شبح الانهيار وسقوط الحضارة الغربية

تقديم د. أمير حمد

لعل العالم المعاصر لم يعرف أزمة هوية كما يعرفها في هذه الايام، لاسيما في ظل الكثير مما يتردد عن أزمة عميقة تنتاب الحضارة الغربية، وعلامات في الأفق تشير إلى أن قلب العالم تحرك بالفعل جهة الكتلة الآسيوية، الأمر الذي يذكرنا بما أشار إليه الإيطالي، أنطونيو غرامشي في رؤيته للقديم الذي يتوارى والجديد الذي يحاول جاهداً أن يولد، وبينهما تحدث عوارض مرضية عدة.

هل نحن الآن في قلب التحول

لكي يكون ذلك كذلك، ينبغي أن نعود لقراءة أفكار كبار المؤرخين الغربيين، أولئك الذين استشرفوا من بعيد نهايات الحضارة الغربية عن عقل ووعي، وليس عن عاطفة هوجاء، على أنه قبل الدخول في عمق تحليل “زمن الانحسار”، يعن لنا أن نشير إلى ما قاله فلاسفة غربيون كبار عن نشوء وارتقاء الحضارات.

يعتقد الفيلسوف الألماني أوزوالد شبنغلر في كتابه “انحسار الغرب” أن الحضارات مثل الكائنات الحية تولد وتنضج وتزدهر ثم تموت، وفي عمله الموسوعي كان أول من ذكر أن الحضارة الغربية تموت وسوف تحل محلها حضارة آسيوية جديدة.

ولعله من المثير جداً أن العالم استمع لتلك الرؤية في الفترة ما بين 1918 و 1922، وهو حديث غريب وقتها، لاسيما أن الكتلة الآسيوية كانت في حالة تراجع غير مسبوقة ومنها الصين والهند وبقية المنطقة الواقع معظمها تحت الاحتلال الأوروبي آنذاك.

الانحسار والفوضى

من بين أفضل المؤلفات التي صدرت قبل نهاية القرن الماضي، كتاب الصحافي والمؤلف الأميركي “ب.ج. براندر” والذي صدر عن المركز القومي للترجمة في القاهرة، تحت عنوان “رؤية الفوضى… استطلاعات عن انحسار الحضارة الغربية“.

فكرة هذا العمل الكبير تدور حول التحذيرات الخاصة بمستقبل الغرب.

والثابت أنه حتى جزء كبير من القرن العشرين، أدت الإنجازات المدهشة في العلم والتكنولوجيا وإنتاج الثروة بأكثر الناس إلى الاعتقاد بأن الحضارة الغربية في تقدم صاعد ثابت وتحمل معها العالم بأكمله، غير أن حقيقة الأمر أنه فيما عدا السنوات التي تلت الحربين العالميتين مباشرة، كانت نذر الانحسار التي جاءت حتى من شخصيات محترمة، تبدو غريبة عبثية ومتشائمة للغاية، إن كانت تسمع من الأصل، وخلال العقود الأخيرة فقط من القرن العشرين، بأن انحسار تقدم الغرب واستقراره ونفوذه بدرجة جعلت هذه التحذيرات جديرة بالاهتمام.

في مقدمة الذين رأوا من بعيد نهايات الغرب، الشاعر الفرنسي شارل بودلير (1821- 1867) إذ كان من أوائل الذين حذروا من التدهور عندما رأى أن التكنولوجيا التي يعيش بها الغرب تدمر الثقافة أيضاً. اتفق مع بودلير، الروائي الروسي الكبير ليو تولستوي 1828- 1919.

ذهب كذلك الروائي الروسي فيودور دوستويفسكي (1821- 1881) إلى أن الحضارة الغربية تتجه نحو انهيار مأساوي،  أما جاكوب بوركهارت (1818- 1879) أحد أبرز المؤرخين في القرن التاسع عشر، فقد شبه أوروبا في عصره بروما القديمة حال انحلالها، وهو الموضوع الذي كان فيه خبيراً ذائع الصيت، وفي الوقت الذي كان أبناء الغرب مفتونين بتقدمهم ومفعمين بالتفاؤل، توقع كساداً اقتصادياً في القرن العشرين، وحروباً كبرى وتضاؤل الديمقراطية وظهور دول استبدادية.

التقدم والشك

على مدى القرون الخمسة الماضية، ازدهرت الحضارة الغربية ووسعت بقوة جاذبية تقدمها، وقد كان تقدماً مدهشاً في الكشوف الجغرافية والأيديولوجية، السياسية والعلمية التكنولوجية وإنتاج الثروة، عطفاً على مروحة واسعة من الوسائل الأخرى، وربما يعيش العالم اليوم، وللمصداقية، في رحابة ثمار التقدم الغربي، وهو تقدم لم يسبق له مثيل في التاريخ.

على رغم ذلك، فإن من عاش في العالم الغربي على مدى الأجيال الماضية سوف يدرك بشدة التغييرات الواسعة التي اكتسحت الثقافة، وهذه التحولات السريعة المشوشة للذهن، وربما الخارجة عن السيطرة، تعد تحولات صعبة، وتعيد تشكيل الفن والفلسفة والتجارة والسياسة والأخلاق، وكذلك القانون والتعليم والدين، وكل العلاقات التي توحد مجتمعاً من شعب متحضر.

هنا يتفق العلماء عموماً على أن موجة من التغيير العارم نادراً ما كان لها نظير في الماضي، سواء من حيث المقدار أو السرعة، ما يترك الكثيرين في حالة مروعة من القلق في ظل تلك الاختلالات البنيوية والهيكلية دفعة واحدة.

شبح الانهيار

الفيلسوف والمؤرخ الألماني أوزوالد شبنغلر، في كتابه الذي لم يقدر لنقاده النيل منه، وبدلاً عن التسلسل التاريخي للحضارات الإنسانية السابقة، استعاض شبنغلر عنه بالمقارنة، إذ وضع جنباً إلى جنب تاريخاً شاملاً للثقافات الثمانية الرفيعة التي اختار دراستها، وبالقيام بذلك، اكتشف تشابهات في الطريقة التي تطورت بها الثقافات، مثلما لاحظ الفيلسوف والسياسي الألماني، إيرنست فون لاسو، تطوراً منتظماً من التعدين إلى الرعي ثم الفن والعلم.

في رؤيته للحضارات توقف شبنغلر بنوع خاص أمام الثقافات الرفيعة التي مرت بالإنسانية، وأعلن أنها كائنات حية، كل ثقافة لها حياتها الخاصة والفريدة والواقعية، وتستمر هذه الحياة مستقلة عن البشر من أبناء الثقافة، كما لو كانت لهم حياة أعلى فضلاً عن الخلايا الحية المختلفة التي تكون أجسامهم.

هل تموت الحضارات حين تندثر ثقافات الشعوب أو تختل؟

ربما كانت هذه الجزئية واحدة من أهم نقاط ارتكاز رؤية شبنغلر، فأكد أن الثقافات مثل جميع الكائنات الحية الأخرى، لها دورات حياة ثابتة ومتوقعة، تولد وتنمو وتضمحل وتموت، وإذا توخينا الدقة فإن كل ثقافة تمر بأطوار وجود شخص معين، من طفولة وشباب ونضج ثم شيخوخة.

ويلفت شبنغلر إلى أن متوسط العمر الطبيعي المتوقع للثقافة ألف سنة، ومع ذلك فإنه قد يتفاوت بدرجة كبيرة مثلما يمكن أن تزيد أو تقل حياة البشر عن سبعين سنة، وبعد زوال طور الثقافة، تصبح القرون أقل أهمية من الناحية التاريخية عما كانت منذ عقود أثناء فترة النمو، وهذا السبب في شعور زوار الحضارات القديمة أنها لم تتغير، وكما كانت حياة الإنسان البدائي ما قبل الثقافة، فكذلك الحال بالنسبة للفلاحين، مثل تعاقب حيواني ليس له معنى.

وفي تقدير شبنغلر، يقارن انحسار الغرب بدقة تضاؤل العالم الإغريقي في المسار والدوام، وما يحدث حولنا وداخلنا سيستمر خلال القرون الأولى من الألفية الثالثة، وبعد ذلك سينتهي حتماً تاريخ الجنس البشري “غرب-الأوروبي”.

استشرف شبنغلر المستقبل ولاسيما القرن العشرين بجرأة، وصدم وأقلق العديد من القراء، كما أنكر تهم التشاؤم، واعترف بأن استنتاجاته ربما تكون محزنة غير أن التمني العاطفي المجرد لا يغير حقائق الوجود، لذا جادل في صفحات كتابه بعيداً من أن يثبط عزيمة قرائه، معتبراً أن كلماته قد تكون ضرورية لاستنهاض همم الأجيال الغربية القادمة، والتي يدعوها لتكريس أنفسهم للتقنيات بدلاً من القصائد الغنائية، وللبحر بدلاً من فرشاة الطلاء، والسياسة عوضاً عن نظرية المعرفة المجردة.

تفكك الغرب

ولد أرنولد توينبي في قلب لندن عام 1889 لعائلة من الطبقة المتوسطة، وكان محاطاً منذ البداية بالكتابات الكلاسيكية لليونان وروما القديمة والكتاب المقدس، وتعلم اللاتينية في سن السابعة ومن خلال منحة في جامعة أكسفورد حلق في عالم الفكر التاريخي القديم لليونان والرومان، ما أكسبه دراية كبيرة بالعصر الكلاسيكي، لدرجة أنه في لحظات الانفعال كان يكتب أشعاراً باليونانية أو اللاتينية بدلاً من لغته الأصلية الإنجليزية.

حين وصل توينبي إلى مرحلة الدراسة في جامعة أكسفورد، عثر على نسخة قديمة من كتاب “انهيار الغرب” لشبنغلر، وبعد قراءتها تساءل في نفسه ما إذا كانت خطة البحث الكبيرة التي تشكلت في ذهنه أنجزها الفيلسوف الألماني بشكل كامل أم ليس بعد؟

بعد تدقيق وتحقيق تبين لتوينبي وجود ثغرات في موضوعه وطريقته، حيث لاحظ أن شبنغلر لم يوضح كيف تنشأ الحضارات من مستنقع ظروف بدائية، واعتبر ظهورها مجرد لغز، كما أعتقد أيضاً أن الدراسة الشاملة الكاملة لتاريخها يمكن أن تتحسن بطريقة تجريبية علمية، وعندما طمأن نفسه، مضى في مشروعه.

خلال 40 عاماً تالية، قام توينبي باستقصاء كل حضارة بشرية مدونة، من العصور التاريخية الأقدم، حتى الزمن الحاضر، بما فيها الحضارات غير المعروفة كثيراً، وقام بفحص أصولها وتطورها وانحسارها وفنائها، وقارن مسار أكثر من 20 حضارة بالثقافة الغربية، ثم نشر نتائجه العظيمة على صفحات كتاب ضخم، يتكون من 12 جزءاً وسمى عمله |دراسة التاريخ”. (A Study of History).

هل قراءة توينبي هذه الأيام تكتسي أهمية خاصة؟

لها أهمية قولاً وفعلاً، لاسيما أنه أفرد في موسوعته عن الحضارة الغربية، مساحات واسعة للفكر الهنتنغتوني، وقد كان سابقاً له، إذ اعتبر أن الحضارة الغربية في صورتها الأوروبية في أزمة طاحنة، ولم تتعلم الدرس من سقوط روما في مواجهة البربر أو قبائل الفندال خلال القرن الخامس الميلادي.

يلفت توينبي إلى أنه في أزمنة معينة، كانت الحضارة الغربية تتعرض لهجمات البربر من خارجها، وهذه تكفلت بها جيوش أوروبا، وأوقفتها عند حدودها، كما حدث مع الفرنسي شارل مارتل في معركة “بواتييه”.

غير أن اليوم، هناك استدعاء للبربر إلى داخل الحضارة الأوروبية، في شكل مهاجرين، وهي رؤية تحليلية خطيرة ومثيرة لا ينقصها التصريح وليس التلميح الدوغمائي، وما يحدث في فرنسا والسويد هذه الأيام خير شاهد على ذلك.

يذكر توينبي ما نصه “أنه بينما تتحطم بوابات المجتمع من الخارج، يعمل العدو من الداخل، وعادة ما تجند الحضارات الآخذة في الضعف أجانب للمساعدة في الدفاع عنها، وعندما كان الجنود المأجورون يناضلون من أجل المجتمع، يتعرفون على استراتيجياته وضعفه، فمن المحتم أن يتسرب هذا الإدراك عبر الحدود”.

وما يؤرخ عادة بأنه سقوط روما عام 476 يمثل المناسبة عندما انتزع زعيم المرتزقة أودوفاسر من قبيلة البدو الألمان الإمبراطورية الغربية لنفسه، وخلع الإمبراطور الآخر وأحاله إلى التقاعد.

هل هناك في الداخل الأوروبي اليوم، من يقرأ كتابات أرنولد توينبي، لاسيما من تيارات اليمين العنصري، ذات التوجهات النازية والفاشية، المغرقة في تطرفها وتشددها، والكفيلة بإغراق أوروبا برمتها في مستنقع من الكراهية والعداوات التي تنهي السلم الأهلي والمجتمعي الداخلي أول الأمر، وفي العالم تالياً؟

الجنة الأبدية

عالم الاجتماع الروسي المولد “بتريم ا. سوروكين” كان إلى حد كبير سابقاً لعصره، حيث رأى في وقت مبكر في بداية حياته العملية أن الحضارة الحديثة لم تتطور نحو الجنة الأبدية التي توقعها المتفائلون الاجتماعيون في القرن التاسع عشر.

وحين نُفي سوروكين إلى الولايات المتحدة، خلص إلى أن ثقافة الغرب تعاني أزمة لها أبعاد هائلة وأهمية ضخمة، وكرئيس لقسم علم الاجتماع بجامعة هارفارد، قام بتحليل غير مسبوق للاتجاهات الثقافية لتاريخ أوروبا بكامله، ودرس بحثه الفنون الجميلة والفلسفة والأخلاق والقانون، وكذلك العلم والتقنية والعلاقات الاجتماعية المختلفة، التي تشكل في مجموعها شعباً متحضراً، وبعد عشر سنوات من العمل نشر دراسة من أربعة أجزاء أراد بها توضيح أزمة الغرب، وتوقع إلى أين تتجه الثقافة في المستقبل.

اكتشف سوروكين ثلاثة اتجاهات ضخمة تتكشف في العصر الحالي وهي أن الإبداع الثقافي يصنع قائمة تحول عهد تاريخي جديد من أوروبا إلى أجزاء أخرى من العالم، وكذلك الثقافة الحسية الحديثة، إذ إن الناس الذين يعيشون فيها يعانون من تفكك مستفحل، إضافة إلى الشتلات المبكرة الأولى لنظام ثقافي جديد صاعد ومتزايد ببطء.

بحسب سوروكين، فإنه منذ بداية التاريخ وحتى نهاية القرن الرابع عشر، استقرت القيادة المبدعة للجنس البشري في آسيا وشمال أفريقيا وأوروبا والبحر الأبيض المتوسط، كما تجلت في ثقافات الشرق الأوسط ومصر والصين والهند، وكذلك كريت واليونان وروما والأراضي العربية، وكانت شعوب أوروبا الغربية آخر من حمل مشعل الحضارة، وعلى مدى القرون الخمسة أو الستة الماضية، دعمت رسالتها المبدعة بشكل رائع، خصوصاً في الفنون والسياسة والاقتصاد والعلوم والتقنية.

لماذا توشك الآن زعامة الغرب على الانتهاء؟

بحسب عالم الاجتماع الروسي الأصل، الأميركي الجنسية، تضاءلت قوة وتأثير الثقافة عقداً بعد آخر، والإمبراطوريات الأوروبية العظيمة التي غطت الذاكرة الحديثة للكرة الأرضية، انزوت واختفت وهربت منها مراكز الإبداع، فمن أوروبا الأنجلوساكسونية إلى أميركا الشمالية، ومن إسبانيا والبرتغال إلى أميركا الجنوبية، بينما حدث في أراضي الاتحاد السوفياتي السابقة، النمو الأكثر حيوية، لا في روسيا القديمة فقط، بل في الجزء الآسيوي الذي كانت تهيمن عليه سابقاً.

في الوقت نفسه، تتمتع اليابان والصين والهند وإندونيسيا وبلدان عربية بنهضة ثقافية، وهي تتطور اجتماعياً وسياسياً وعلمياً وتقنياً، كما تمارس تأثيراً جديداً في الشؤون الدولية، وتصدر معتقداتها وفلسفاتها وفنونها وقيمها الثقافية إلى الغرب.

ويخلص سوروكين إلى أنه لو بقيت بلدان أوروبا منفصلة ومستقلة، فسوف تصبح القارة في حالة ركود إقليمي وليست لها أهمية نسبية في الشؤون العالمية، وفي الاتحاد السياسي، يمكن أن تحتفظ بدور مهم، لكن من المستحيل أن تستعيد المنطقة موقعها المهيمن الذي احتفظت به خلال عدة قرون ماضية.

استحقاقات مصيرية

يبدو الغرب في كل الأحوال أمام استحقاقات أسئلة مصيرية، ولا يبدو أنه لا يزال محتفظاً بحجر الفلاسفة، ذاك الذي كفل له خلال الخمسة قرون السابقة، السيادة والريادة.

اليوم وبحسب سوروكين بنوع خاص، فإنه في عالم المستقبل، سوف تصبح المنطقة الواسعة من المحيط الهادئ هي المركز الإقليمي، وأما الأميركتين والهند والصين واليابان وروسيا فسيصبحون لاعبين بارزين في المسرحية المقبلة للثقافة التكاملية أو الفكرية المساعدة.

هل تقودنا هذه الخلاصة لفهم الصراع الحادث في مياه المحيط الهادئ في الفترات الأخيرة؟

تبقى هناك علامة استفهام عن الإرث الغربي التنويري، والذي تخلق في رحم الحضارة الغربية خلال خمسة عقود، وماذا سيكون مصيره، فهل سيضمحل ويذوى كما جرى مع الحضارات المصرية القديمة أو البابلية، مروراً بحضارتي المايا والرومانية، أم أن سيشكل إضافة تاريخية في أضابير التاريخ؟

.