البديل في الطريق .. والجالية بنوم عميق

الدليل ـ برلين

ظاهرة الاغتراب هي ظاهرة عالمية الطابع، زاد انتشارها منذ منتصف القرن الماضي وتسارعت وتيرتها بانتهاء الحرب الباردة، وانهيار الحواجز الأمنية في جنبات أوروبا المقسمة ايديولوجياً على إيقاع أنغام العولمة. ورغم أنها ليست وليدة الأمس، إلا أن مشاكل الاندماج التي برزت إلى السطح، مدفوعة بتزايد أعداد المهاجرين وأبناء الجيل الثاني والثالث، بدأت تدق نواقيس الخطر، ليس فقط لدى مواطني تلك البلاد الأصليين، بل ولدي أولئك المهاجرين أنفسهم وحتى تلك البلاد التي قدموا منها.

والمجتمعات العربية والإسلامية بعامة، تشكل جزءًا من تيار المهاجرين الجدد، وهو تيار كانت هجرة أغلبه أساسا من أجل مستقبل اقتصادي أفضل. صحيح أن بعضهم هاجر لأسبابٍ سياسية وأمنية وهرباً من اضطهاد لحق بمجتمعاتهم، إلا أن الأغلبية كانت وما زالت تتطلع إلى فرص جديدة، تقدمها لهم مجتمعات تحكمها دساتير مكتوبة تحترم آدمية أفرادها وحقهم في الحصول على فرصٍ متكافئة تضمنها جهودهم الذاتية من أجل مستقبل أفضل، بغض النظر عن خلفياتهم العرقية والثقافية.   

تنبع مشكلة الأقليات في التعامل مع الاندماج – في الأساس- من مشكلة تحديد الهوية، وهي مشكلة لا يمكن فصلها عن المشكلات الخاصة بمجتمعاتها الأم. هناك أزمة هوية حقيقية في مجتمعاتنا العربية، وهي أزمة لازمت المهاجرين والمُهجَّرين، الذين حملوها معهم إما عن إدراك أو تجاهل، وانتهى بهم المطاف إلى ضرورة مواجهتها، شاءوا ذلك أم أبوا. هذه الأزمة تتمحور حول ربط الماضي الثقافي والحضاري بالحاضر والمستقبل.

أن الاتفاق على هوية أساسية ذات ملامح واضحة أصبح مطلباً ملحاً، ليس فقط من أجل التواصل بين أطياف الجالية العربية، بل ومن أجل التفاعل بين هذه الجاليات وبين المجتمع الذي اختارت أن تعيش فيه. 

ومن المؤسف حقاً أن جاليتنا العربية مشتتة الأفكار، وتتبعثر جهودها يميناً وشمالاً، بل وأحيانا يلغي بعضها بعضاً. ومن الصعب أن نلوم الآخرين على عدم فهمنا، إذا كنا قد جعلنا من أنفسنا مادةً تستعصي على الفهم.

من الإنصاف أن نقر بأن السعي لاكتساب النفوذ مطلوب في العمل العام، وإلا انتفى الهدف منه، فأساس العمل العام هو تمثيل الجالية بهيئة تعمل على تحقيق مصالحها، ولكي تتمكن من ذلك، عليها أن تستمد قوتها من حقيقة تمثيلها لهذه الجالية وثقلها الاجتماعي والانتخابي. هذا التمثيل هو ما يمنح هذه الهيئة النفوذ الذي تحتاجه للتعامل مع الدوائر الحكومية، وهو نفوذ تأمل في استغلاله لصالح الجالية التي تمثلها. (لذلك فلا عيب من محاولة استكساب النفوذ وجذب أفراد الجالية للنشاط العام، ودعم الهيئات التي تنشط في هذا المجال). المشكلة تبدأ عندما تعمل كل جهة على حدة في استقطاب الأفراد إلى جانبها عن طريق إقصاء الهيئات الأخرى ومحاولة إخراجها من المنافسة بشتى الطرق. ويبدو المشهد العام وكأننا أمام أطراف في حالة حرب، وليس أمام تيارات يدعي كل منهم أن هدفه هو خدمة الجالية وحماية مصالحها.

على أن الاتفاق حول هوية محددة المعالم ومقبولة من معظم الأطراف وليس كلها، ليس أمراً سهلاً. فالأمر يحتاج إلى جرأة في الطرح ودقة في النقد، مع حيادية في الحكم ونفاذ في البصيرة. وتبدأ هذه العملية بمراجعة حقيقية لمقومات الشخصية العربية وتحديد ما هو أساسي لا يقبل التغيير، وما هو ثانوي يقبل المراجعة والتطوير أو حتى الإلغاء.

ولنكن واقعيين .. فلا أحد يتوقع حلولاً فورية لمشاكل مزمنة عانت من إهمال شديد ولفترات طويلة. ولكن في المقابل، علينا أن ندرك أن هناك إمكانية حقيقية لإرساء مبادئ أساسية تحدد إطاراً عاماً يصلح كقاعدةً للحراك المدني في مجتمعات المهجر، وذلك إذا قررنا العمل على تحقيق هذا الهدف.

وقد تبدو مشاكل تحديد ملامح واضحة للهوية أمراً صعباً في ظل صراعات مجتمعاتنا الأم في فضائنا المحلي. لكننا في بلد المهجر نمتلك ميزةً أساسية، وهي (إننا لسنا ملزمين بالتمسك بأفكار وعادات ثبت فشلها في لعب دور إيجابي في حياتنا، كما أننا لسنا ملزمين بمتابعة صراعات فرضتها علينا قبليةٌ، ما عادت توائم عصراً يحتاج إلى دولة مؤسسات وليس أفرادا)ً. إضافة إلى ذلك، تسعى مجتمعات المهجر إلى البقاء .. و هدف البقاء هنا يعني التمسك بالأساسيات، ورفع مستوى التعاون بين الأفراد، والتمسك بروح الجماعة وإنكار الذات. كما يعني التخلص من إرث الماضي من صراعات واختلافات لا معنى لها في كثير من الأحيان. فبالتركيز على نقاط الاتفاق التي تجمعنا ، سيصبح بالإمكان وضع إطار عام للهوية يحتضن الأطياف المختلفه فيها، ويُفَعِّل إمكاناتها لتصبح قوة مؤثرة وفعالة في مجتمعاتها الجديدة، وقادرة على التواصل وحماية مصالحها، وقادرة على تمثيل ثقافتها و حضارتها.

الخوف وليس الكُره ..

تأتي في المرتبة الثانية تطوير مفهوم سيادة القانون والتزامنا به في إطار حياتنا في مجتمعات المهجر، وهذه نقطة جوهرية بالغة الأهمية. فإحدى المشاكل التي تواجه مجتمعاتنا الأم، هي بطء التحول من الإطار القبلي إلى دولة المؤسسات، وفي معظم الحالات لم تكتمل هذه العملية. المهم أن ضعف الإحساس المزمن بسيطرة القانون، والذي حملناه معنا من بلادنا الأم، دفع بعض أفراد الجالية عن قصد أو غير قصد، إلى خط المواجهة مع سلطات القانون في دول المهجر.

ولا يمكن أن نتوقع لأي اندماج أن ينجح، ما لم يتم تضمين احترام سيادة القانون في أية هوية يتم تشكيلها ضمن الوجدان النفسي لأية جماعة مهاجرة، وهناك أسباب منطقية لذلك. (فالكثيرون لا يدركون أن العامل الحقيقي الذي يحكم تعامل مواطني بلد المهجر مع الوافدين إليهم هو الخوف وليس الكره!). فالخوف هو هاجس أهل البلاد وهم يرون المهاجرين وقد حملوا معهم منظومة مختلفة من العادات والتقاليد والأفكار.. بعضها قريب من ثقافتهم والأخر جديد عليهم، والجديد دائماً يعني التغيير. من هنا تأتي سيادة القانون كضمانة ضد الخوف من جديد المهاجرين، الذي قد يتناقض مع الأوضاع الحالية التي ارتضاها أهل البلاد لأنفسهم، ولا يريدون لأحد أن يغيرها قسراً. 

لذلك، فإن أية جالية لا تظهر احتراما للقانون وسيادته، تضع نفسها في موقع المُهَدِّد للسلام الاجتماعي للدولة، وبالتالي تستنفر العديد من القوى الداخلية لمواطني بلد المهجر التي ترى في المهاجرين تهديداً لمستقبلهم على أرض بلادهم.

.