الاغتيال السياسي في السودان

إبراهيم بدوي

تُعدُّ محاولة اغتيال رئيس الوزراء السوداني عبد الله حمدوك غريبةً على المجتمع السوداني، إذ لم تكن ثقافة التسامح بعيدة من عقل وقلب السودانيين. فعلى الرغم من أزمة الوحدة المتنوعة، إلَّا أنَّ السائد في التاريخ الاجتماعي والسياسي يعجُّ بما يوضح التكيُّف مع الآخر المختلف. ولم يصل السياسيون إلى مرحلة الفجور في الخصومة، إلَّا في عهد الرئيس السابق عمر البشير، فقد أصلت حكومته نظرية المؤامرة والخوف من الآخر، ومارست تمييزاً بين المواطنين أفضى إلى فصل جنوب السودان، بعدما أفنت موارد البلاد في الحرب، ثم أعلت من النزعة القبلية والعربية الإسلامية في تعاملها مع المكونات الأخرى.

سلوك دخيل

يقول بعض ممّن تناولوا الشأن السوداني، إنَّ المواطن السوداني في جزءٍ من تكوينه النفسي وتنوعه الثقافي التاريخي امتداد للحالة الأفريقية، على مستوى الأصول الحضارية والعلاقات الاجتماعية والتشابك العرقي والروح الأخلاقية والدينية. وقد أسهمت تلك الأعراق والقبائل المختلفة في حركة بناء الثقافة السودانية وما فيها من قديم وحديث، وإن تمحورت حول الدين والقبيلة وقواعدهما المتداخلة.

وهذا يعني، في أبسط صور التسامح، الرضا بواقع التعدد القبلي والإثني والديني وإن لم يرتقِ بعد إلى صورة الإقرار بهذه الحقيقة. أما سياسياً، فقد اعتبرته الحكومة السابقة عفواً تصدره على من اختلفت سحناتهم أو أفكارهم وتوجهاتهم، فتنعم عليهم بقبولهم كهامش بدور تكميلي. وبهذا، يظهر المفهوم بتناقضاته في الثقافة السودانية. فعلى المستوى الشعبي، يمتلئ الأفراد بقيم التعدد والاختلاف، إذ يعبرون عن انسجامهم على الرغم من وجود الفوارق الطبيعية والمادية والمعنوية التي وحّدت بين أبناء المجتمع السوداني. والطبيعة السودانية تعكس مدى تداخل النسيج الاجتماعي، الذي يضم في جملة مفاصله قبائل زنجية وعربية، وأنَّ ما يحدث فيها من مشاكل وخلافات، إنّما هو ممّا يحدث في المجتمع المدني، وليس له صلة بالصراع القبلي أو الديني إلَّا بعد تدخل حكومة البشير، مثل تقريبها لقبيلة ضد أخرى في دارفور إبان الحرب الأهلية 2003.

وعلى المستوى السياسي والرسمي، لم تُكسر قيود التمركز حول الذات المتعالية التي غذّتها حكومة الرئيس السابق، وما زالت خلاياها تعبث بهذه المكوِّنات، لعرقلة المسيرة التي بدأها الشعب السوداني بثورته نحو الديمقراطية والتعايش السلمي.

اغتيال أميركي في الخرطوم

من الأحداث النادرة لجرائم الاغتيال، أُلقي القبض على مجموعة تابعة لتنظيم “القاعدة” بعد مقتل الدبلوماسي الأميركي جون مايكل غرانفيل، المسؤول في الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، وسائقه السوداني عبد الرحمن عباس عام 2008، لتُسجَّل بذلك كأول حادثة خلال ثلاثة عقود لمسؤول حكومي أميركي يُقتل في الخرطوم بالرصاص في طريق عودته، مع سائقه، من احتفالات رأس السنة في وقت مبكر من أول يناير (كانون الثاني).

تمكَّن الجناة، بعد الحكم عليهم بالإعدام، من الفرار من سجن كوبر شديد التحصين، في ساعة متقدّمة من إحدى ليالي يونيو (حزيران) 2010، ممّا أثار علامات استفهام عدّة باحتمال تواطؤ السلطات معهم.

أُلقي القبض على بعضهم ومات أحدهم في ليبيا بعد التحاقه بالتنظيم هناك. وبعدما عادوا، أكَّدوا إصرارهم على فعلتهم وعدم ندمهم. فقد جاء في إحدى الصحف السودانية، على لسان عادل عبد الغني، محامي الدفاع عن المتهمين، أنَّه إزاء تعنتهم وإصرارهم على قتل غرانفيل بقولهم “لو تم بعثه ثانية لقتلناه”، اتصل المحامي بوالدة غرانفيل كي تلين قلوبهم بالندم والاعتذار ولحثِّها على العفو، فكان ردها أنّها لا تمانع من التنازل عن القصاص والإعدام ولكنها تشترط العقاب بسجنهم مدى الحياة وذلك كي لا يكرروا ما فعلوه مع آخرين، وأن يعتذروا من الشعب الأميركي عن مقتل ابنها ومن الشعب السوداني عن مقتل السائق.

فتنة دينية

لم يكن السودانيون قبل حكم الإنقاذ بهذا القدر من الفصام الطائفي، على الرغم من وجود أكبر حزبين طائفيين، هما “الأمة” “والاتحادي الديمقراطي”، اللّذين كانا يعملان في إطار الاستقطاب السياسي لا المذهبي. فقد كانت الطرق الصوفية في كل عام، طوال العقود السابقة، تنصب سُرادقها في ساحات المولد المنتشرة بالعاصمة الخرطوم والولايات، في الـ 12 يوماً الأولى من شهر ربيع الأول، جنباً إلى جنب مع سُرادق جماعة أنصار السنّة، الذين يشاركون في المحاضرات الدينية من دون الاحتفال أو الاعتراض.

الاحتقانات بين التيارين الإسلاميين حديثة العهد في المجتمع السوداني، الذي كان يتعاطى مع أيٍّ منهما من دون رفضٍ أو تكفير. ولكن تم تصعيد الأحداث عام 2012، حين حُرق سُرادق أنصار السنّة، واُتهمت الحكومة بالتآمر لتكريس الطائفية. اتّساع الهوة يدلّ على أنّ هناك جهة مستفيدة من تعصب كل فئة، باعتبار نفسها “الفرقة الناجية” ولها الحق في ضرب الأخرى.

وطيلة سنوات الإنقاذ، لم يعد التسامح هو سيّد الموقف في السودان، ولم يعد أهل التصوف يقفون إلى جانب الفقراء والكادحين، ويتوسطون لحلّ مشاكل الناس مع الحكّام، بل صاروا أداة في يد السلطة، وصار التكفير هو السمة التي تعبّد الطريق لخلق فتنة دينيّة.

شروخ اجتماعية

إن ضاقت دهاليز السياسة بالخصوم، تجدهم كأفراد شعب تميز باجتماعياته وعلاقاته المفتوحة يتفرّد في وجوده الأريحي في أماكن الأفراح والأتراح، ويكون الحديث عن السياسة حاضراً وتتبعه الرياضة والاقتصاد وغيرها. ويكون ذلك بالطريقة ذاتها التي يتم فيها الحوار الداخلي مع النفس، بصراحة ووضوح ومن غير حدود ومن غير إحساس بثقل الرقابة، ما عدا الرقابة الذاتية التي تضع سقفاً أخلاقياً بعدم تجاوز المسموح.

هذا الإحساس بأهمية الانتماء وتقبّل الآخر واحترام الاختلاف دمّرته النقاذ وحوّلته إلى أحد أدوات موالاة النظام والخوف من معارضته، وربَّت في هذه الفترة الممتدة إلى ثلاثة عقود نوازع الخوف وعدم الجهر بالرأي ليتحوّل الكلام إلى همس والعلن إلى سر. خلقت الإنقاذ موالين مغيّبين يدورون في فلكها، وبعدما انتفض الناس، لم تصدِّق أنَّ مَن ثاروا هم مَن وضعتهم تحت سوطها 30 عاماً.

أوجد نظام الإنقاذ شرخاً في الهوية الوطنية بشكلٍ رسمي يتمثل في ملء البيانات الخاصة بالقبيلة للأوراق الثبوتية، ممّا يجعل كل مواطن يستند إلى عصبته حسب تصنيفها الاجتماعي من حيث القوة والضعف، العزة والهوان. وكان الأشخاص يتعاملون من قبل بمفهوم اجتماعي يستحي في العلن من تعدّد الهويات على الرغم من وجودها ولكن كانت كلها ترجع إلى مواطنة سودانية واحدة. تجاوز أمر الهوية حديث النخب وتفكيرها وأصبح رسالة حقوق اجتماعية منصوص عليها في الضمير الشعبي السوداني. هذا الضمير المتخم بالاحتقان حدّ الانفجار بسبب عدم الشعور بالعدالة الاجتماعية، التي لم تُغيّب وحدها وإنما أُخذت معها المحبة والتقدير والمشاركة واستلب معها الإحساس بالآخر المختلف.

ومع ما زرعته الإنقاذ في المجتمع السوداني، قد لا يأخذ الكشف عن ملابسات محاولة اغتيال حمدوك والقبض على الجناة وقتاً طويلاً، نظراً إلى بدائية التنفيذ ووصول فريق من مكتب التحقيقات الفيدرالية الأميركية (FBI)، لمساعدة فرق التحقيق المحلية في وقتٍ وجيز. وعند ذلك، سيكون للحكومة الانتقالية كامل الصلاحيات لإتمام عملية تفكيك النظام السابق بما في ذلك الأجهزة الأمنية، إيذاناً بقيام دولة السلام الاجتماعي والعدالة والديمقراطية.

.