الأمة العاقلة لا تظلم

محمد سليمان /

لقد قاد الإمام محمد عبده ثورة تاريخية بحق، لكنها لم تكن ثورة مسلحة ضد الاحتلال العسكري، بل ثورة فكرية ومعرفية تاريخية ضد احتلال العقل والفكر بجيوش الأوهام والدجل والخرافات وقيود الجمود والتقليد، فجدد المعرفة الدينية، وفتح باب الاجتهاد على مصراعيه، ولم يكتف بالجانب النظري من العمل والعطاء، بل انتقل إلى ساحة التطبيق العملي إلى أبرز المؤسسات الدينية في مصر “الأزهر”، إذ عمل على تجديد المعارف الدينية فيه، وإصلاح طرق التدريس ومناهجه منتقدا أسلوب الاستظهار والحفظ ومؤكدا على أهمية الفهم والتفكير.

وعلى صعيد الفكر الإسلامي، رفع الإمام مطالب المرأة بالتحرر ودافع عن حقوقها، كما تحدث بوضوح شديد عن مدنية السلطة السياسية في الإسلام بنفس الوقت الحفاظ على وظائفها الدينية، وقد وصف السلطة الإسلامية وصفا دقيقا بقوله “أنّ السلطة الإسلامية هي سلطة مدنية بوظائف دينية”.

لقد رأى محمد عبده أنّ الجانب الأهم من المشكلة الحضارية لا يتمثل بالاستعمار العسكري، بل بالتخلف وهو الذي أعطى المبرر ومهّد الطريق للاستبداد والاستعمار، ولو كانت الأمة متحررة من قيود التخلف والجهل لما تمكن الحكام من استعبادها ولما دخل الاحتلال أراضيها.

المرحلة الأولى من الإصلاح تتمثل بالإصلاح الديني وتحرير الدين مما علق به من شوائب ومفاهيم خاطئة، لأن تحرير الدين يؤدي إلى تحرير فكر الإنسان وإزالة الفصام المتوهم بين الإسلام وبين العصر والتقدم والذي كان عنوانه آنذاك “المدنية”.

ويمثل الشيخ الإمام محمد عبده مدرسة شامخة في تجديد الفكر الإسلامي الحديث، تنطلق فلسفة هذه المدرسة من ضرورة الاجتهاد وأهميته ونبذ الجمود والتقليد لتحقيق مقاصد الشريعة الإسلامية وأهدافها، والانتقال من الركون لحالة الكسل الذهني والفتاوى الفقهية الجامدة إلى روح الشريعة ومحورية العقل في فهم الأحكام والتعامل مع النصوص.

ويمكن القول – بارتياح شديد – أن الشيخ الإمام أحدث ثورة معرفية وفكرية، وشكل مرحلة انتقالية مهمة أدت إلى قطيعة بين الفكر الإسلامي السابق له، وإذا كان عبده تلميذا مخلصا لرؤية جمال الدين الأفغاني في تفكيك الجمود الذي كان يسيطر على “الحالة الإسلامية”، إلاّ أن مساهمة محمد عبده الفعلية تركزت في مجال الإصلاح الديني بمختلف مستوياته وأبرز هذه الوجوه؛ الاجتهاد في الفقه الإسلامي، وتجديد المقال في التوحيد من خلال رؤية جديدة تتجاوز الأدبيات السابقة، والتي كررت واجترت الخلافات بين الفرق والمذاهب الإسلامية، ليعيد الاعتبار إلى التوحيد من حيث هو مفهوم ومقاصد تدفع بالإنسان من غياهب الظلمات والشرك والبدع والتعلق بالأوهام إلى نور العلم والمعرفة، والتعلق بالمصادر الرئيسة للمعرفة (الوحي والعقل) في مجال العمل والعبادة بعيدا عن الشروحات والمتون التي حولت التوحيد والفقه من مصدر عطاء وتفكير إلى تقليد وتحجر، الأمر الذي أدى بعلماء الدين وفقهاء الشريعة ليتحولوا من مصلحين ومجددين إلى محافظين مقلدين يحاربون كل دعوات التقدم والتحرر، فما قام به الإمام بالفعل أنه “قلب الطاولة رأسا على عقب” إذ جعل من تياره الفكري/ الإسلامي في مقدمة المجتمع ودفع باتجاه التطور والتقدم والتجديد وتجاوز كل الخطوط الحمراء التي وضعت باسم الدين، وفي حقيقتها لم تكن سوى سياج من التقليد يحول بين الإسلام وبين تحقيق أهدافه الإصلاحية العامة. ولذلك ليس غريبا أنْ يكون محمد عبده هو من رعى وأشرف على كتاب قاسم أمين “تحرير المرأة”، وأنه كان أستاذ سعد زغلول القائد الوطني المصري المعروف.

أما اختصار بعض الباحثين مدرسة عبده الفكرية بمفهوم “المستبد العادل” ففيه جور عظيم وفصل لهذا المفهوم عن وظيفته السياسية التي أرداها عبده وعزل له عن الظروف التاريخية المرتبطة به، فقد قصد الإمام بهذا المفهوم “مرحلة تاريخية مؤقتة” لنقل الأمة من حالة التخلف والتأخر إلى مرحلة النهوض والتقدم والإعمار، ولم يكن هذا المفهوم في إطار الدفاع عن الاستبداد والطغيان، وكيف ذلك والإمام هو من رواد المفكرين الإسلاميين الذين دافعوا عن الحرية والمدنية والعقل، وهي أبرز أدوات محاربة الاستبداد؟!، ومن عباراته المشهورة في هذا المجال “الأمة العاقلة لا تظلم”، فقد كان عمل الإمام منصبا على تجفيف منابع الاستبداد وتدمير بنيته التحتية الكامنة في عقول الناس وأفكارهم.

من أقواله:

ـ  “يجب ألا تكون الكلمة الأخيرة للنصوص البالية أو السلطات البائدة؛ بل الحياة النابضة ولروح الترقّي المتصل، وتوخي المصالح العامة.. فإن فكراً يكون مقيداً بالعادات مستبداً للتقليد؛ لهو فكر ميت لا حياة فيه ولا قيمة له”.

ـ  ذهبت إلى الغرب فوجدت إسلامًا بلا مسلمين، ثم رجعت إلى الشرق فوجدت مسلمين بلا إسلام.

ـ  تغلغل الموت في جسم الأمة حتى أصبحت لا تسمع النداء ولا تنتفع بالدواء.

ـ  كلما زادت الأمة جهلاً زادت تمسـكًا بقشور دينها، وكلما زادت نكوصًا واستعمارًا، زاد تجهيلها للغير، وهجومها على كل ما يأتي منه بحكم العداء العام الذي لا انتقاء فيه.

ـ  إذا ما جهل المرء بأمر، فما أيسر عليه من معارضته.

ـ  من يريد خير البلاد فلا يسعى إلا في إتقان التربية , و بعد ذلك يأتي له جميع ما يطلبه .. بدون إتعاب فكر ولا إجهاد نفس.

ـ  “إن فكراً يكون مقيداً بالعادات مستبداً للتقليد؛ لهو فكر ميت لا قيمة له ،،،”

ـ  أوروبا تركت الدين وتقدمت ،و نحن تركنا الدين وتأخرنا.

ـ  “رأيى صواب يحتمل الخطأ ورأى غيرى خطأ يحتمل الصواب”.

.