اردوغان يراجع لغته التصعيدية

ابراهيم بدوي

مؤخرا نبذ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ومسؤولون أتراك آخرون لغتهم الحربجية، وبدأوا خلال الأشهر القليلة الماضية، مستوى ملحوظاً من الحراك الدبلوماسي في العالم العربي، وهو ما يمكن اعتباره استراتيجية تركية جديدة، حيث كانت تركيا قد قطعت طوال السنوات القليلة الماضية، العلاقات مع سوريا والعراق والسعودية والإمارات ومصر وليبيا،  أو تراجعت علاقاتها إلى أدنى مستوى ممكن.

كما يواجه هذا البلد توترات جدية في العلاقات الثنائية مع جهات دولية أخرى مثل أمريكا وفرنسا وألمانيا وقبرص واليونان واسرائيل، لكن عشية رأس السنة وفي وقت يبدو أن العالم يستعد فيه لعصر ما بعد كورونا وما بعد ترامب، وضعت أنقرة ايضاً استراتيجية خفض التصعيد مع الدول العربية نصب أعينها.

وبالتالي، يمكن دراسة تحليل أسباب مساعي تركيا للدخول في عملية التهدئة مع العرب على ثلاثة مستويات: الداخلي والإقليمي والدولي، لكن قبل تناول هذه القضايا، من الضروري التنويه بمسار تحركات تركيا الأخيرة لتهدئة التوترات مع العرب.

موجة جديدة من خفض التصعيد

اتخذت الحكومة التركية، خلال الشهر الماضي، خطوات ملموسة ومهمة لتهدئة التوترات مع العرب والتي يمكن وصفها بـ “عصر ذوبان الجليد في العلاقات بين أنقرة والعالم العربي” بعد فترة من التوتر الشامل، اذ يمكن رؤية مصر والسعودية ولبنان والإمارات على رادار الجهاز الدبلوماسي للحكومة التركية، حيث تعرضت علاقات تركيا إلى توتر مع القوى العربية وخاصة مصر والسعودية والإمارات بعد مظاهر الإسلام السياسي في المنطقة في سنوات ما بعد 2011 بسبب دعمها للإخوان المسلمين، ولكن يبدو الآن أننا نشهد تغييراً في ساحة المواجهة والمعادلات.

بداية، أرسلت مصر وتركيا اللتان كانتا في توتر واسع النطاق، إشارات خلال الشهر الماضي لنزع فتيل التوتر خاصة بعد زيارة الوفد المصري إلى طرابلس برئاسة نائب رئيس جهاز المخابرات المصرية، وتكررت الاتصالات بين مسؤولي الأمن والاستخبارات في أنقرة والقاهرة، وربما تكون هذه الاتصالات هي المرة الأولى التي كان فيها للجانبين تنسيق واتفاق مبدئي حول بعض قضايا المنطقة وعلى رأسها ليبيا.

لكن جهود تركيا لتهدئة التوترات في العالم العربي لا تقتصر على القاهرة فحسب، بل السعودية دولة أخرى تفكر أنقرة في التصالح معها، حيث يمكن رؤية الدليل الواضح لذلك في زيارة رئيس وزراء لبنان المكلف “سعد الحريري” إلى اسطنبول في 8 يناير 2021، حيث تأتي الزيارة في وقت كانت فيه الرياض وأبو ظبي على الدوام شديدتا الحساسية تجاه النفوذ التركي في الدول العربية، بما في ذلك لبنان، لكن كشفت وسائل الإعلام اللبنانية الآن عن الهدف والمهمة السرية من زيارة الحريري، وهي “التوسط بين السعودية وتركيا”.

وفي هذا الصدد، أكدت قناة “الجديد” اللبنانية أن الحريري كان لديه “مهمة سرية” خلال زيارته لتركيا، وذكرت القناة أن المهمة تدور حول وساطة بين تركيا والسعودية بموافقة الإمارات، كما أعلن الممثل الخاص لوزير الخارجية القطري لشؤون مكافحة الإرهاب والوساطة في النزاعات مطلق القحطاني، مساء يوم 12 يناير 2021، عن استعداد الدوحة للوساطة بين تركيا والسعودية، وهو ما يمثل مستوى جديدا من ذوبان الجليد في العلاقة بين أنقرة والعرب.

من جهة أخرى، أعرب وزير الخارجية الإماراتي أنور قرقاش مؤخرا عن أمله في تحسن العلاقات بين أنقرة والقاهرة، قائلاً إن بلاده مستعدة لتطبيع العلاقات مع تركيا. ورغم أن أبو ظبي تحدثت من أجل نزع فتيل التوترات مع تركيا عن شرط عدم دعم الإخوان المسلمين.

تعزيز مكانة حزب العدالة والتنمية

لا شك أن جزءا كبيرا من السياسات التي ينتهجها حزب العدالة والتنمية بزعامة أردوغان في مجال السياسة الخارجية مرتبط بميزان القوى داخل تركيا. ويدرك أردوغان وقادة حزب العدالة والتنمية جيدا أن الفوز في الانتخابات البرلمانية القادمة في يونيو 2022 والانتخابات الرئاسية في عام 2023 سيتطلب تحسين الوضع الاقتصادي المضطرب على مدار العامين المقبلين، وإلا ينبغي انتظار الهزيمة القاسية.

تسببت التوترات بين تركيا وأمريكا خلال السنوات الأخيرة من جهة وتفشي وباء كورونا من جهة أخرى، في مصاعب كبيرة للحكومة التركية في السيطرة على اقتصاد البلاد وإدارته، فعلى سبيل المثال انخفضت قيمة الليرة مقابل الدولار في عام 2019 بشكل حاد وتراجعت بنحو 50٪. حتى في سبتمبر 2020 وصلت الليرة التركية إلى أدنى مستوى لها على الإطلاق مقابل الدولار، بحيث صعد الدولار 0.29 بالمئة إلى 7.486 ليرة. إضافة إلى ذلك، شهد النمو الاقتصادي في تركيا انخفاضا حادا من 7.4٪ في عام 2017 إلى 0.4٪ في عام 2020.

لكن يمكن تتبع الأيادي الخفية في الوضع الاقتصادي الهش لتركيا في العقوبات الأمريكية والدور المدمر للسعودية والإمارات في ضرب سوق العملات في هذا البلد، لأن الدول العربية بقيادة السعودية وضعت في الآونة الأخيرة على جدول أعمالها خطة لمقاطعة شراء السلع التركية وعدم استيرادها، ما يمثل مستوى جديدا من الأزمة الاقتصادية لأردوغان وحزب العدالة والتنمية.

وصول بايدن إلى السلطة وضروراته لأردوغان

تصاعدت التوترات بين الحكومتين الأمريكية والتركية منذ نهاية رئاسة باراك أوباما ، ووصلت هذه الوتيرة إلى أعلى مستوياتها خلال إدارة دونالد ترامب أي في سنوات ما بعد 2016. ووصلت التوترات بين واشنطن وأنقرة أيضا إلى مرحلة فرض العقوبات في عهد ترامب، وآخرها ما يمكن اعتباره في قرار وزارة الخارجية الأمريكية في 17 ديسمبر 2020 ، حيث فرضت في بيان عقوبات بموجب المادة 231 من قانون كاتسا ضد مؤسسة وإدارة الصناعات الدفاعية التركية.

وبعد انتهاء رئاسة ترامب، يدرك أردوغان بوضوح أن إدارة بايدن تضع سياسة أكثر صرامة تجاه تركيا من ترامب. حتى بايدن وصف في مقابلة مع صحيفة نيويورك تايمز أواخر عام 2019، أردوغان بأنه استبدادي ودعا إلى إقالته من السلطة داعماً أحزاب المعارضة.

ومن خلال اتباع استراتيجية خفض التصعيد مع العرب، يعتزم أردوغان تخفيف الضغط عليه في مجال الدبلوماسية، ومن ناحية أخرى، منع إنشاء جبهة مناهضة لتركيا في المنطقة بقيادة أمريكا وبمشاركة العرب.

على صعيد آخر، يمكن تقييم إحدى أهم القضايا المتعلقة بتهدئة التوترات بين العرب وتركيا من خلال مناقشة الضغوط على أنقرة في منطقة البحر المتوسط. حيث وضع أردوغان بعد توقيع اتفاقية مع حكومة الوفاق الوطني الليبية في 2018، على جدول الأعمال سياسة الوجود المكثف في البحر المتوسط من أجل استغلال احتياطيات الطاقة. كما أن التدخل التركي المباشر في الحرب الأهلية الليبية دعماً لفايز السراج ضد قوات خليفة حفتر كانت مدرجة على جدول أعمال حزب العدالة والتنمية.

حيث جعل هذان التوجهان التركيان في البحر المتوسط، اليونان وقبرص والسعودية ومصر والإمارات وإسرائيل وفرنسا وحتى أمريكا في مواجهة الحكومة التركية. حيث إن كل هؤلاء الفاعلين غير راضين بشدة عن استراتيجية تركيا في البحر المتوسط لأسباب مختلفة. كما أن الخلاف الرئيس بين تركيا والدول العربية كان حول دعمها لحكومة الإخوان الحاكمة في طرابلس. كما يبدو أن أردوغان يحاول الآن من خلال تخفيف التوترات مع مصر والإمارات والسعودية التخفيف من وطأة الضغوط عليه الى ادنى مستوى في مجال الأزمة الليبية.

.