أطفال المهاجرين وضياع الهوية

سهير الدفراوي

ليست مبالغة لو قلنا إن هناك شعبًا عربيًا تعداده عشرات الملايين ممن يتوزعون في بلاد المهجر، الغربية منها خاصة، وهؤلاء الملايين تربطهم بأصولهم وشائج لا تزول، لكن الأجيال الحديثة منهم تعيش مواجهة غير مسبوقة بين الجذور والفروع، وصار الاجتهاد التربوي مطلبًا ملحًا، كما صار وضعهم ضمن قائمة الاهتمامات العربية أمرًا واجبًا ومفيدًا في كل الأحوال.

التحديات التي يواجهها معظم المهاجرين تنبع من عوامل عدة منها انشغال الأبناء والآباء بالعديد من الإمكانات المتاحة لهم خاصة في بلد كثير الرفاهية. فبعد انتهاء يومهم الدراسي يجد الأبناء أنه في متناول أيديهم أن ينشغلوا بالعديد من الأنشطة الرياضية والثقافية التابعة للمدرسة، أو ينشغلوا بمئات من قنوات التلفاز أو يزوروا عشرات من أماكن اللهو التي يستطيعون أن يصلوا إليها بسهولة.

ومن ناحية أخرى، ففي متناول أيدي الآباء أن يعملوا ساعات عمل طويلة أو يعملوا في أكثر من عمل، وكثير من الآباء والأمهات يسرفون في العمل ساعات طويلة خارج المنزل مدفوعين إما بإحساس عدم الاطمئنان في بلد المهجر، حيث المال قد يعطيهم الطمأنينة التي يفتقدونها لعدم وجود الأهل، أو بإرادة تملك الكثير من أوجه الرفاهية التي تحيط بهم.

عدم وجود عائلة ممتدة من أجداد وإخوة وأخوات يشكّل تحديًا آخر للآباء في المهجر، فالعائلة الممتدة تساعد على نقل الدين والقيم من جيل إلى آخر.

ومن الواضح مما سبق سرده أن عدم وجود عائلة ممتدة وتعدد الإمكانات المتاحة للآباء وللأبناء، كلها عوامل تقلل من قدرات الآباء على التواصل مع أولادهم ونقل قيمهم لهم.

من التحديات الأخرى نمط الحياة السريع، الذي لا يعطي الإنسان وقتًا للتأمل، وبالتالي لا يساعده على معرفة هويته أو الحفاظ عليها عن طريق الترجمة المتأنية للمعلومات التي ينقلها من العالم الخارجي إلى عالمه الداخلي.

بالإضافة إلى نمط الحياة السريع، فوسائل الإعلام – خصوصًا التلفاز – تتدخل بقوة في تشكيل صورة الإنسان لعالمه ولنفسه، وقد سمى عالم النفس الشهير (إيريك إيريكسون) هذه العوامل (انسياب الهوية)، حيث يجد الإنسان صعوبة في الاحتفاظ بهويته، ويجد صعوبة في جعل أولاده يطوّرون هوية خاصة بهم تتلاءم مع قيم وهوية الآباء.

أخيرًا يجب أن نضع في الاعتبار أن الشخصية الغربية شخصية كثيرة الاستقلال، فيتعلم أولاد المهاجرين هذه الصفة من مجتمعهم. ويجد الآباء صعوبة في التعامل معهم، لأن شدة استقلال الشخصية صفة غير شائعة في معظم أنحاء العالم النامي حيث ترابط العائلة واعتماد الأبناء اقتصاديًا على آبائهم يحد من استقلالية الأبناء. أما في الغرب، فنجد طفلاً في السادسة عشرة من عمره، لم ينته بعد من بناء شخصيته، ولا يمتلك حق التصويت في الانتخابات، يستطيع هذا الطفل أن يحصل على عمل يمكّنه من الاستقلال في معيشته خارج منزل والديه. والعديد من المراهقين العرب قد فعلوا ذلك، فنرى الآباء في حال شديدة من الذهول، لأنهم لم يكونوا مستعدين لاستقلال أبنائهم الاقتصادي المبكر، وغير مستعدين لتقلص تأثيرهم على فكر وقيم أبنائهم.

مشاكل الهوية وعدم وجود العائلات الممتدة والاستقلال المبكر هي مشاكل تواجهها الأقليات والمجموعات العرقية سواء كانت من العرب أو غير العرب، المسلمين أو المسيحيين، إلا أن هناك بعض المشكلات الخاصة بالمسلمين فقط.

فمن المعروف أن الإعلام الغربي متحمّس في هجومه سواء الجليّ أو المستتر على المسلمين، ويشعر أولاد المسلمين بذلك، ويعانون منه، ولسنا في حاجة لأن نسهب في وصف هذا الموضوع ، فقد تحدثنا فيه كثيراً.

الجذور الغائبة

يشكّل مفهوم الجامع ( المسجد)  مرتكزًا للكينونة يجلبه المسلمون العرب معهم من الوطن، وهذا المفهوم يشكّل تحديًا كبيرًا للآباء الذين يسعون للحفاظ على هوية أبنائهم مسلمين. ففي المهجر لا توجد وزارة أوقاف تمول المساجد وترسل لها الأئمة، ويجد المجتمع الإسلامي في المهجر أن عليه أن يعلم أعضاءه العطاء بسخاء مرارًا وتكرارًا، العطاء من مالهم ووقتهم وعملهم حتى يستطيع المجتمع في المهجر القيام بالمسئوليات التي كانت تتحملها الجهات الرسمية في البلاد الإسلامية.

كذلك يشكّل مفهوم الإمام كما يجلبه معهم المسلمون العرب تحديًا كبيرًا للحفاظ على الشق الديني في تربية أبنائهم مسلمين. ففي العديد من المساجد تجد أن عمل الإمام يتناوبه أعضاء المجتمع. ويخلق غياب القدوة الدينية الدائمة في المساجد جوّا من الخواء الذي تشعر به العائلة عند مرور أعضائها بأوقات عصيبة. ويشعرون بهذا الخواء لأنه ليس لديهم عائلة ممتدة يلجأون إليها. وبما أن الجالية الإسلامية حديثة المنشأ، فقليلاً ما نجد إمام جامع نشأ في المهجر، وعاش مشاكل شبابه المسلم، بل نجد معظم الأئمة في المهجر رجالاً كبارًا في السن وفي الفقه والدين، غير أنهم قليلو المعرفة بمشاكل شباب المهجر.

ومدارس نهاية الأسبوع الملحقة بالجامع أيضًا تشكّل تحديًا للآباء، يرسل الآباء أبناءهم إلى هذه المدارس حتى يحتفظوا بدينهم. غير أن هذا الهدف كثيرًا ما يقابل بصعوبات من الأبناء ومن المدرّسين. ونجد كثيرًا من الأبناء (خصوصًا الكبار منهم) يرفضون الذهاب إلى مدرسة الجامع، مع أنهم يحبون الذهاب إلى المدارس العامة، حيث التعليم مبني على الترغيب، وحيث يجد الأبناء احترامًا ومعاملة حسنة من مدرّسيهم، بمعنى أنها تعطيهم مساحة من الاختيار والمناقشة، أكثر مما في مدارس نهاية الأسبوع.

وفي العديد من مدارس الجوامع يتعلم الأولاد على أيدي معلمين من العالم العربي يستخدمون أساليب وكتبًا من العالم العربي، ويعلمون الإسلام بالطريقة نفسها التي تعلموا بها في أوطانهم، غير مدركين أو متجاهلين الفرق بين تربية الأولاد في بيئة تسود فيها القيم الإسلامية والبيئة الغربية التي يقابل فيها الإسلام بالعداوة، فنجد المعلمين يركّزون على حفظ سور القرآن الكريم بدلاً من تركيزهم على أن يغرسوا في نفوس الأبناء حبّ دينهم والاعتزاز به كوافدين جدد للغرب عامة.

هذه خطوط عريضة للتحديات التي يواجهها المسلمون والعرب في المهجر لتربية أولاد أصحاء يحافظون على هويتهم ودينهم. وهناك عائلات ومجتمعات اتبعت أساليب تنبع من هذه التحديات، وتتغلب عليها، فاستطاعت تربية أبنائها تربية سليمة .. فهل يستطيع العرب ذلك؟

نرى فيما سبق أن تربية الأبناء في المهجر تربية سليمة هي معادلة صعبة، تتطلب الكثير من الوقت والعناية والاهتمام من الآباء. إلا أننا أيضًا ندرك أن تدخل التلفاز، وطرق الإعلام في حياتنا، وانسياب الهوية، والانشغال المفرط في العمل، كلها مشاكل ليست بعيدة ولا مجهولة حتى في العالم العربي، ومن ثم فإن كثيرًا مما قيل في هذه المقالة يمكن أن نطبقه في عالمنا العربي.

.