لماذا تأخر المسلمون؟ ولماذا تقدم غيرهم؟

.

تقديم / محمد عبد المنعم

ـ الله يَنصُر الدولة العادلة ولو كانت كافرة، ولا يَنصُر الدولة الظالمة وإنْ كانت مسلمة

قبل أكثر من ثمانين عامًا وبالتحديد في شهر ربيع الآخر سنة 1348هـ الموافق سنة 1929م أرسل الشيخ/محمد بسيوني عمران من “جاوة” إلى صاحب مجلة المنار الشيخ/محمد رشيد رضا رسالة يُثني فيها على الأعمال والمساعي التي يقوم بها الأمير شكيب في سبيل الإسلام، مقترحًا عليه أن يبين لـ”المنار” أسباب تأخر المسلمين بمقارنتهم بدول اليابان وأوروبا وأميركا، وهل يمكن مجاراتهم في سباق الحضارة مع المحافظة على دينهم الحنيف؟ فأحال الشيخ/رضا الرسالة على الأمير ويظهر أنها أثرت في نفسه فقرر الإجابة. وكان السؤال يلح في خاطره منذ زمن بعيد، يشغله عن ذلك شجون العالم الإسلامي، وما كان يعتريه من مؤامرات تُحاك في الخفاء.

أسباب ارتقاء المسلمين في الماضي

بين أرسلان في البداية أنَّ الانحطاط والضعف اللذَيْنِ عليهما المسلمون اليوم شيءٌ عام لهم في المشارق والمغارب، فلم ينحصر في “جاوة” و”ملايو”، ولا في مكانٍ آخَر، وإنما هو مُتَفاوِتٌ في دَرَكاته؛ فمنه ما هو شديد العُمق، ومنه ما هو قريب الغَوْر، ومنه ما هو عظيم الخطر، ومنه ما هو أقل خطرًا. كما قرر أنَّ الشعوب الإسلاميَّة متشابهة في ضعفها، فحالتهم الحاضرة لا تُرضَى لا من جهة الدِّين، ولا من جهة الدنيا، ولا من جهة المادة، ولا من جهة المعنى. وذكر أمثلةً لهذا الضعف مثل: البوسنة، وأذربيجان، ومسلمي الصين.

لقد حدَث ما حدث، فلا ينفع البكاء على اللبن المسكوب، لكن وجب علينا أن نبحث في الأسباب التي أوجدت هذا التقَهْقُر في العالم الإسلامي بعد أنْ كان منذ أربعة عشر قرنًا هو الصدر المقدَّم، والسيد المرهوب المطاع بين الأمم شرقًا وغربًا.

يقول أرسلان: إن أسباب ارتقائهم الماضي إنما تَرجِع إلى الإسلام الذي كان قد ظهر في الجزيرة العربية فدانَ به قبائل العرب، وتحولوا بهدايته من الفُرقة إلى الوَحدة، ومن الجاهلية إلى المدنية، ومن القسوة إلى الرحمة، ومن عبادة الأصنام إلى عبادة الواحد الأحد، وتبدَّلوا بأرواحهم الأولى أرواحًا جديدة، صيَّرتهم إلى ما صاروا عليه من عزٍّ ومنعة، ومجد وعرفان وثروة، وفتحوا نصف كرة الأرض في نصف قرن، ولولا الخلافُ الذي عاد فدبَّ بينهم في أواخر خلافة عثمان وفي خلافة علي -رضي الله عنهما- لكانوا أكملوا فتح العالم، ولم يقف في وجهِهم واقفٌ، لكن قدر الله وما شاء فعل.

إذا فحَصنا عن ذلك وجدنا أن السبب الذي استَقام به المسلمون سابقًا قد أصبح مفقودًا بلا نِزاع، وإنْ كان بقِيَ منه شيءٌ فكباقي الوشْم في ظاهر اليد؛ فلو كان الله وعَد المؤمنين بالعِزَّة بمجرَّد الاسم دُون الفعل لكان يحقُّ لنا أنْ نقول: أين عزَّة المؤمنين من قوله تعالى: ﴿ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ﴾؟ [المنافقون: 8]. ولو كان الله قد قال: ﴿ وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الروم: 47] بمعنى: أنَّه ينصرهم بدون أدنى مَزِيَّة فيهم سوى أنهم يُعلِنون كونهم مسلمين لكان ثَمَّةَ محل للتعجب من هذا الخِذلان بعد ذلك الوعد الصريح بالنصر. ولكنَّ النصوص في القُرآن هي غير هذا، فالله غير مخلِفٍ وعدَه، والقرآن لم يتغيَّر، وإنما المسلمون هم الذين تغيَّروا، والله تعالى أنذر بهذا فقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾. [الرعد: 11].

وإذا قُمنا بعمل مقابلة بين حالَي المسلمين والإفرنج اليوم فسنجد أن المسلمين قد فقَدُوا الحماسة التي كانت عند آبائهم، وقد تخلَّقَ بها أعداء الإسلام الذين لم يُوصِهم كتابُهم بهذا؛ فتجد أجنادَهم تتوارَدُ على حِياض المنايا سِباقًا وتتلقَّى الأسِنَّة والرماح عِناقًا، فلقد فقَدُوا الغالي والنفيس، وضحَّوا بأغلى ما عندهم، ألا وهي نفوسهم -في سبيل نشْر دِينهم الباطل، أمَّا نحن فهل ينصرنا الله -عزَّ وجلَّ- بدون عمل؟! بالطبع لا.

بعد ذلك قام أرسلان بذِكر بعض اعتذارات المسلمين، ثم قام بالردِّ عليها ثم تحدَّث قليلاً عن نتائج إعانة مصر لِمُجاهِدي طرابلس وبرقة، ويبدو أنَّه قد ضاقَ بمثْل هذه المواقف؛ لأنَّه بعد ذلك تحدَّث عن خِيانة بعض المسلمين لدِينهم ووطنهم بخدمة الأجانب واعتذارهم الباطل، وقد ضرب لذلك عدَّة أمثلة منها: سورية يوم الثورة على فرنسا، وما فعله عساكر شرقي الأردن تجاه مجاهدي فلسطين، وغير ذلك.

أسباب تأخُّر المسلمين

ثم يجمل أرسلان أسباب تأخُّر المسلمين في الجهل والعلم الناقص، وفساد الأخلاق -ولاسيما فساد الأمراء والعلماء- والجبن والهلع، واليأس والقنوط، ونسيان المسلمين ماضيهم المجيد، وشبهات الجبناء والجهلاء، وضياع الإسلام بين الجامدين والجاحدين وعمل كلٍّ منهما.

وأطال أرسلان كلامه عن الرجعية والتقدُّم والجمود والجحود، وذكر ضمن كلامه اليابان ورقيَّها، وجعَلَها عبرةً للعرب وسائر المسلمين، وهذا الكلام ملخَّصه أنَّ الغرب يتَّهموننا بالتخلُّف والرجعيَّة وأنَّ السبب في ذلك ديننا، لكنَّهم قد تقدَّموا وازدهرت حضارتهم وارتقَوا بسبب تمسُّكهم بدينهم – كما يَزعُمون- ودينهم باطل لا شكَّ، لكن السؤال: لماذا لا نُسمي أوروبا واليابان رجعيَّة بتدينها (الكافر)؟ وهذا ما وضَّحَه أرسلان في كلامه عن بعض عقائدهم الباطلة.

بعد ذلك ذكر آيات العمل في القُرآن، المُبطِلة لتفسير القدَر بالجَبْر والكسل، وفَساد الزَّعم الإفرنجي، وأوضح أنَّ المسلمين الجامدين فتنةٌ لأعداء الإسلام وحجة عليه، وإنما يُؤتَى الإسلام من قِبَلِهم.

أما عن شبهة مدنية الإسلام، فلقد أفرد لها حديثًا خاصًّا في جوابه، وردَّ على زعْم مَن زعَم أنَّ الإسلام لم يتمكَّن من تأسيس مدنية خاصَّة، ثم ساق الاستدلالَ على ذلك بحالته الحاضرة، وقال: إنَّ هذا الكلام خُرافة يُموِّه بها بعض أعداء الإسلام من الخارج وبعض جاحِديه من الداخل، ولكلٍّ منهم هدفُهم، فالأعداء يريدون أنْ يصبغوا المسلمين بالصبغة الأوروبيَّة، أمَّا الجاحدون فيريدون أنْ يزرعوا في العالم الإسلامي بُذورَ الإلحاد.

ثم قال: نحن لا نُنكِر أثرَ الدِّين في المدنية، ولكنَّنا لا نُسلِّم بأنَّه لا يصحُّ أنْ يكون لها ميزان؛ وذلك لأنَّه كثيرًا ما يَضعُف تأثيرُ الدِّين في الأمم، فتتفلَّت من قُيوده، وتفسد أخلاقها، وتَنهار أوضاعُها، فيكون فَساد الأخلاق هو علَّةَ السقوط، ولا يكون الدِّين هو المسئول. وكثيرًا ما تَطرَأ عوامل خارجيَّة غير مُنتظَرة، فتتغلَّب على ما أثلته الشرائع من حضارة، وتزلزل أركانها، وقد تهدمها من بوانيها، ولا يكون القُصور من الشريعة نفسها. فتأخُّر المسلمين في القرون الأخيرة لم يكنْ من الشريعة، بل من الجهل بالشريعة، أو كان من عدم إجراء أحكامها كما ينبغي. ولَمَّا كانت الشريعة جاريةً على حَقِّها كان الإسلام عظيمًا عزيزًا، وأيُّ عظمة أعظم ممَّا كان عليه الإسلام في أيَّام ابن الخطاب مثلاً. إن مدنية الإسلام لا تقبل المُماحَكة، فليس من أمَّةٍ إلا وعندها تَآلِيف لا تُحصَى في مدنيَّة الإسلام، فلو لم تكن للإسلام مدنيَّة حقيقيَّة سامية راقية مطبوعة بطابعه، مبنيَّة على كتابه وسنَّته، ما كان علماء أوروبا – حتى الذين عُرفوا منهم بالتحامُل على الإسلام- يُكثِرون من ذِكر المدنيَّة الإسلامية، ومن سرْد تواريخها، ومن المقابلة بينها وبين غيرها من المدنيَّات. فالمدنيَّة الإسلاميَّة هي من المدنيَّات الشهيرة التي يَزدان بها التاريخ العام.

ثم ذكر أمثلةً لبلاد الإسلام؛ مثل: بغداد، ودمشق، والقاهرة، وحلب، وسمرقند، وحواضر أخرى كثيرة من بلاد الإسلام.

بعد ذلك رد أرسلان على حُسَّاد المدنية الإسلاميَّة المكابِرين، الذين نَسُوا فضلَ الإسلام وحضارته وتراثه. ولقد قام بضرب أمثلة على الأمم الأخرى لأجْل المقابلة، فذكر اليونان والرومان قبلَ النصرانية وبعدَها:

إنَّ القائلين بأنَّ الإسلام قد كان سببَ انحطاط الأمم الدائنة به لا مفر له من القول بأن النصرانيَّة قد أدَّت إلى انحِطاط اليونان، كذلك كانت رومية (وهي روما الآن) في عصرها الدولةَ العُظمَى التي لا يُذكَر معها دولةٌ، ولم تزل هكذا إلى أنْ تنصَّرت لعهد قسطنطين، فبدَأتْ في الانحِطاط. أيُعقَل أنْ نقول أيضًا: إنَّ تديُّنها هو سبب تخلُّفها؟ إنَّ السبب الحقيقي وَراء هذا التخلُّف والانهِيار لليونان والرومان إنما هو الغارات البربرية من الخارج، وبعض العوامل من الداخل. فلو فرَضْنا أنَّ النصرانيَّة لم تكن جاءَتْ وقتئذٍ لم يكن اليونان والرومان نجوا من عَواقِب تلك الحوادث، ولا تخطَّتْهم نتائج تلك الأسباب، فهي بمثابة القشَّة التي قَصمتْ ظهر البعير.

ثم ذكر أنَّ سبب تأخُّر أوروبا واليابان الماضي وسبب نهضتهما الحاضرة ليس هو الدِّين، فلا داعي لإدْخال الأديان في هذا المعترك، وجعلها هي وحدَها مِعيارَ التقدُّم والرقي والتردِّي، ليس من النَّصَفة في شيءٍ، فالله -عزَّ وجلَّ- يَنصُر الدولة العادلة ولو كانت كافرة، ولا يَنصُر الدولة الظالمة وإنْ كانت مسلمة. أمَّا الإسلام فلا جِدال في كونه سببَ نهضة العرب وفُتوحاتهم المدهشة ممَّا أجمَعَ على الاعتِراف به المؤرِّخون شرقًا وغربًا، لكنَّه لم يكن سببَ انحطاطهم فيما بعدُ، كما يَزعُم المُفتَرون الذين لا غرض لهم سوى نشر الثقافة الأوروبية بين المسلمين دون ثقافة الإسلام، وبسْط سِيادة أوروبا على بلدانهم، بل كان السبب في تردِّي المسلمين هو أنهم اكتفَوا في آخِر الأمر من الإسلام بمجرَّد الاسم، ولكنَّ الإسلام اسم وفعل.

أسباب نهضة العالم الإسلامي

ثم يبين أرسلان أنَّ أسباب نهضة العالم الإسلامي من جديدٍ كثيرةٌ ولا حصر لها، ومن أهمها حثُّ القُرآن على العلم ويرى أنَّ هذا الحثَّ لهو أقوى باعِثٍ للمسلمين على سبْقهم لسائر الأمم في الرُّقيِّ، والناظر في آيات القُرآن يستطيع أنْ يُقرِّر أنَّ العلم هو سبب نهضة الأمم، لكن بالعلم ثم العمل، ولقد فضَّل الله العلم، ورفع مكانته وأعلى شأنه، ومدح أصحابه، ولا مجال هنا لذِكر هذه الآثار.

ثم وجَّه الأمير كلمةً إلى طلاب النهضة القوميَّة لا الدينيَّة؛ ليُوضِّح فيها أنَّ النهضة لا بُدَّ للنفوس أنْ تسير بها في حلبة العلم، فالنهضة في الأساس دينيَّة، أمَّا إنْ بعدنا عن القرآن واتَّخذناها قوميَّة كما فعلت أوروبا، فإنَّ هذا يكون مدخلاً إلى الإلحاد والإباحة، وعبادة الأبدان، واتِّباع الشهوات، وهذا ضرَرُه يُفوِّت نفعَه؛ فلا بُدَّ لنا من تربيةٍ علمية سائرة جنبًا إلى جنب مع تربيةٍ دينية، ومَن يظنُّ أنَّ نهضة أوروبا جرت دون تربية دينية -لا يهمُّنا صوابٌ أم خطأ فكلُّها باطلة- فهو مخطئٌ.

ويقول: إن أسباب انحِطاط المسلمين في العصر الحديث هي أسبابُه في العصر القديم، لكن زاد عليها فقْدُ كل الثقة بالنفس، وهو ما يُسمى في علم النفس عقدة النقص؛ فلقد دَبَّ اليأس في نفوس المسلمين -إلا مَن رَحِمَ الله- وظنُّوا – بل تيقَّن بعضهم- بعدم النصر، ووثقوا في ذلك، وكأنهم نَسُوا قول الله: ﴿ أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ﴾ [البقرة: 214]. لكنَّ الأوائل كانوا واثقين في وعْد الله وهم الأعْلَون، فلم يهِنوا ولم يحزنوا؛ ولذلك نصَرُوا اللهَ في أنفسهم فنصرهم الله، إلى أنْ دبَّ الخلاف.

كان عدد المسلمين في بدر (313) فقط، ونصرهم الله على عدوِّهم، فلم يهتمُّوا بالعُدَّة ولا العَتاد، ولكنَّهم وثِقوا في وعد الله، فحينما نزل قول الله تعالى: ﴿ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ﴾ [الأنفال: 65] لم يُنكِروا ذلك، ولم يقولوا: كيف بلا عدد، بلا عدَّة، بلا طائرات ودبابات، ومدافع ورشاشات … إلخ.

إنَّ فقْد الثقة بالنفس من أشدِّ الأمراض الاجتماعية وأخبث الآفات الروحية، ولا يتسلَّط هذا الداء على إنسانٍ إلا أَوْدَى به، ولا على أمَّةٍ إلا ساقَها إلى الفناء، وكيف يرجو الشفاء عليلٌ يعتقد أنَّ علته قاتِلتُه؟

ويرى أرسلان أن المسلمين إذا تعلموا العلوم العصرية استطاعوا أنْ يعملوا الأعمال العمرانية التي يقوم بها الإفرنج، وهناك أمثلة كثيرة على قدرة المسلمين لنهوض العمران؛ وذكر أرسلان الخط الحديدي الحجازي، والغاية من إنشاء هذا الخط، ومَداه، وتعطيل كلٍّ من إنجلترا وفرنسا لهذا الخط. كما قام بذكر أدوار مصرية بارزة مثل محمد طلعت حرب -مع ما يُؤخَذ عليه- الذي كان أمَّةً وحدَه في الحلبات الاقتصادية، وقد أسَّس بنك مصر ووسَّع نشاطه ليستَوعِب كثيرًا من المشاريع الاقتصادية والحيوية وبدرجة عالية من الجودة والإتقان. كذلك أحمد حلمي باشا، وعبد الحميد شومان اللذان كان لهما دور كبير في منافسة أوروبا في الاقتصاد. بعد ذلك دعا المؤلف الأمم ووجَّه همتها إلى أهميَّة الإصلاحات المعنوية والمادية في البلاد الإسلامية؛ فالشريعة لا تعرف حسبًا ولا نسبًا، وإنما أكرَمُ الناس عند الله أتقاهم، وقد طبق هذا الكلام على بلاد الحجاز والشعب السعودي.

وفي النهاية يرى أرسلان أن المسلمين لن ينهضوا إلاَّ بالأشياء التي نهض بها غيرُهم، وقد ذكر أمثلةً لهذه الأشياء، ومنها:الجهاد بالمال والنفس، والعلم. يقول: ولن يتمَّ للمسلمين – ولا لأيِّ أمَّة من الأمم- نجاحٌ أو رُقِيٌّ إلا بالتضحية، فإنَّ هذا الأمر قد أمر الله -عزَّ وجلَّ- به مِرارًا في كتابه العزيز. والحقيقة أنَّ هذه الأمور فروعٌ لا أصول، بل هي نتائج لا مقدِّمات، فإنَّ التضحية أو الجهاد بالمال والنفس هو العِلم الأعلى الذي يهتف بالعلوم كلها، فإذا تعلَّمت الأمَّة هذا العلم وعملت به، دانَتْ لها سائر العلوم والمعارف، ودنَتْ منها جميع القطوف والجفاني.

فإنْ قال قائلٌ: إنَّ الرسول كان أميًّا، نقول له: قال الله تعالى: ﴿ عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ﴾ [النجم: 5] وبهذا استطاع أنْ يُقِيمَ دولةً ليس من الصفر بل ممَّا هو أقل من الصفر؛ فقد أنقذ العالم من براثن الجاهلية إلى نور العلم، وكما نعرف (محمد علي) الذي ربما كان أميًّا لكنَّه بعَث مصر من العدم إلى الوجود في زمنٍ قصير، كذلك الأب الأمي الشفيق على ولده قد يكونُ من أجهل الجهلاء، لكنه لا يأتي لابنه إلا بأحذق الأطباء.

فلننفض غبار اليأس، ولنتقدَّم إلى الأمام، ولنعلم أنَّنا بالِغُون كلَّ أمنيَّة بالعمل والدأب والإقدام، وتحقيق شروط الإيمان؛ قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾. [العنكبوت: 69].

شكيب أرسلان

شكيب أرسلان هو رائد من رواد الإصلاح والنهضة في عالمنا العربي والإسلامي، ولد يوم الاثنين 25 ديسمبر 1869م بمنطقة الشويفات في لبنان لأسرة عريقة، ودرس بمعهد الحكمة وأتقن – مع العربية- التركية والفرنسية والألمانية والإنجليزية.

وفى شبابه أدركته حرفة الأدب فنظم الشعر وكتب المقالات وطبع ديوانًا بعنوان (الباكورة) وهو في الثامنة عشرة من عمره، ولكنه سرعان ما انصرف إلى النثر بمختلف فنونه فحقق بعض كتب التراث وترجم رواية آخر بني سراج عن الفرنسية، وألف عددًا من الكتب عن الإسلام وحضارته منها: “الحلل السندسية في الأخبار والآثار الأندلسية”، و”الارتسامات اللطاف في خاطر الحاج إلى أقدس مطاف”، كما كتب هوامش وتعليقات مستفيضة على ترجمة كتاب “حاضر العالم الإسلامي” لمؤلفه الأمريكي “ستودارد” ومترجمه “عجاج نويهض”، كما أصدر في برلين مجلة عربية باسم “لواء الإسلام”، ورأس “المؤتمر الإسلامي” في أوروبا، كما ساهم في تأسيس “المعهد الإسلامي” في برلين عام 1927م، وأسس مجلة شهرية بالفرنسية باسم “الأمة العربية” عام 1930م. وقد انتقل إلى جنيف حيث عاش آخر حياته ولفظ أنفاسه الأخيرة ليلة الاثنين 9 ديسمبر 1946 .