مسرح القهر والمُداواة والتمرّد

ثلاثون عاماً من المسرح المستقل في مصر

موسى الزعيم

عن دار الدليل للطباعة والنشر في برلين صدر كتاب “مسرح القهر للكاتبة والفنّانة المصريّة نورا أمين تقدّم الفنانة لكتابها من خلال منهج بعيد عن التنظير والتأريخ والأرشفة، عبر حالة الاستدعاء والتذّكر، فهي  قصتها أولاّ وأخيراً، وحدها المعنية بما فيها.. أسئلة كثيرة يحاول الكتاب الإجابة عنها، مثل كيف نشأت الثقافة المستقلة في مصر؟ كيف تطور هذا المسرح المستقل المغاير، وكيف خلقت جماليات متمردة على السائد؟  بالإضافة إلى أسئلة أخرى يقف الكتاب عندها، سنحاول التوقف عند بعض فصول الكتاب ونترك البقة للقارئ يبدي رأيه فيه، أو لعله يجد بين طياته ما خفي من سيرة هذا النوع من المسرح في مصر.   

من خلال تجربتها التي قاربت الثلاثين عاماً في مجال العمل المسرحي، بكافة مجالاته، تطرح الفنانة والكاتبة نورا أمين، قضيّة التوثيق التي تربط بين المسرح بقنواته المُختلفة والحركة النسويّة والظرف الاجتماعي والتاريخي والسياسي، فمن خلال تجربتها المسرحية، كانت تعيش يومياً تلك التقاطعات والتشابكات، إلاّ أنها ترى أنّ هذه القنوات الفنيّة والمعرفيّة، كانت مُنعزلة مُنغلقة على نفسها.

ومن خلال التجربة الطويلة في التنقل بين روافد المسرح ” من رقص وديكور وترجمة وتمثيل وكتابة وغيرها من الأعمال، إلى أن أطلقت فرقتها المسرحية ” لاموزيكا” عام 2000.

وثقت ذلك، من خلال اعتمادها على الذاكرة الشخصية والجمعيّة بما تختزنه من تفصيلات، ومن خلال الكتابة يمكن تأمل تلك التجربة ومراجعتها والتوقف مطولاً عندها، يأتي ذلك كله على نقيض التهميش والتزيين الذي يحيط بالواقع.

فتحاول القبض على اللحظة الهاربة وتسجيلها على مدى ثلاثين عاماً من العمل الدؤوب في المسرح. 

اللغة، الذاكرة، الجسد هي أدوات الكاتبة في تثبيت لحظتها الفارقة من تاريخ المسرح وبالتالي تاريخ حياتها الحافل بالإنجاز.

يأتي ذلك عبر لغة لم تؤثر عليها سنوات المهجر، وجسد لا يزال يختزن ذاكرته الحسيّة والحركيّة والشعوريّة والانفعالية، يكتنز الكثير من الصور والمشاعر.. كل ذلك قد يكون كافياً لتدوين أسفار تلك الرحلة الفنية التي عبرتها الكاتبة، تفرغ محتواها على الورق وتراها  قد غدت وثيقة وشاهداً على مرحلة غنيّة بالتفاعلات.

حيث تقتفي في كتابها آثار مسرحيات أسهمت في صناعتها، تركت بصمة فيها، بداية من المسرح الجامعي ومن ثم المسرح الحرّ والمستقل وصولاً إلى 2011 مبادرة المسرح المصري، مسرح المقهورين ومن خلال تقاطع الفعل الثوري مع الفعل المسرحي الميداني ومع تثوير تربية المواطن كيلا يعيد انتاج منظومة قهرهِ.

بعد ذلك تقدّم الكاتبة نماذجاً لعروض قدّمتها حتى عام 2021  كان آخرها “أرشيف حيّ” وهي تجسيد لمشاهد ولمواقف مختزنة في جسدها  بشكلٍ فاعل  ومتغيّر.

من جهة ثانية يرصد الكتاب المرحلة الزمنية ما بين 1988 و2021 من خلال تأثير تلك الأوضاع الحياتية والسياسية على الإبداع الفني وعلى خلق أشكال مسرحية من خلال رصد فرق مستقلة بعينها و عدد من الأعمال التي شاركت فيها في تلك المرحلة.  

ومن رصد للتشابك بين الظروف السياسية والاجتماعية والإنتاج المسرحي والفني والابداعي وما تنطوي عليه حياة الناس.

يأتي هذا الكتاب ليجعل من السير الشخصية للمبدعين مرتكزاً عاماً لفهم بعض التوجيهات الفنية، التي تنطلق من أن العمل المسرحي، عمل جماعي تتضافر فيه الجهود من خلال الخبرة  والتجربة والأساليب التعبيرية لديهم، مما ينعكس على نجاح العمل بكلّيته.

من خلال  أكثر من خمسة وأربعين عملاً مسرحياً راقصاً بالإضافة إلى الإخراج وتصميم الرقصات والتأليف وغير ذلك، سيجد القارئ الكثير من الدراسات والوقفات والتأملات الموّثقة لتلك العروض الفنية.

تعمد الكاتبة من خلال الإضاءة على دورها الفني في الكثير من الأعمال المسرحية، حيث تقرأ هذه  الأعمال في سياقها الفني والإبداعي و تلقي الضوء على كلّ فرقة عملت معها من خلال عرض ونقد طريقة عمل هذه الفرقة، وكيفية تطويرها لهويتها الفنيّة وجمالياتها المسرحية.

كما عالجت في كتابها الكثير من القضايا، منها المسرح الجامعي، صناعة خطاب التمرد ومواجهة التيار الأصولي في الجامعة ومن ثم الخروج من الحرم الجامعي إلى خشبة المسرح الحرّ، كذلك تناقش تطور الجماليات المسرحية والأداء التمثيلي ومن ثم تأسيس تيار المسرح المستقل، داخل حاضنة مركز “الهناجر” للفنون..

بعد ذلك تحوّل المسرح المُستقل إلى التظاهر والمطالبة بالحقوق، تمهيداً لثورة يناير ومن ثم المشروع المصري لمسرح المقهورين بين المسرح التفاعلي والمسرح كفعل سياسي من أجل التغيير

 إلهام البدايات

ترى الكاتبة أن البدايات تأتي غالباً متسلسلة، فتسرد سيرة علاقتها بالمسرح والشخوص والفنانين الذين تفتّح وعيها عليهم بصحبة أمّها. ذلك المزيج الجميل، يتكوّن من الدهشة والإعجاب والرغبة يختلط هذا المزيج الجميل في كيانها فتغدو ذلك كلّه معاً، ترسم صورة لها  وهي في عمر السادسة، بين حركات الباليه لماجدة عزّ ووقع تمثيل محمد صبحي  فتتساءل لماذا لا تكون مثلهم؟! ويكون ذلك بمثابة قرار لها وليس رغبة فقط،  قرار تصفه بأنه مشحون بالإرادة والإحساس والقدرة والتمكين، فخشبة المسرح وحدها القادرة على أن تمنحها القوّة والقدرة على تحقيق كلّ ذلك، بما تختزنه من قوّة وخيال وقدرة على الخلق والإبداع والتشكيل والتأثير والتأثّر.

ترى نورا أمين أنّها في المسرح، تجد ذاتها الحقيقية؛ لا الزائفة، بين جدران المجتمع ومنظومة أخلاقه الفاضلة، في المسرح وجدت نفسها حيث تكون مُتعددة الهوية.

كلّ ذلك شكّل لها شخصيّة فنيّة جمعت بين التأليف وتصميم الرقص والتمثيل والإخراج مع إلهام الطفولة حيث اجتمعت ” ماجدة وفريدة وصبحي طه وحسين ونوال السعداوي ولطيفة الزيات وأمها ” أصبحت مزيجاً لا يمكن فصله، حيث صارت البدايات رحلات لا تتجزأ في كيانها.

بعد الخمسين تصير الكاتبة أسيرة مكانين اسمها في مصر يختلف عما يعنيه في ألمانيا، لكن البدايات لا تنفصل عن أي عرض مسرحي جديد.

في الفصل الثاني من الكتاب الذي جاء بعنوان الكتابة من داخل التابوت الحجري، تسرد فيه تفاصيل التمرّد على من تسميهم ” هُم ” بعد أن أصبحت لا تحسب حساباً لهم تحكي سيرة تمردّها، كيف اختفت الأشباح من أمامها حين صار الوعي بما يحيطها أكبر، كانت دائما ترفض دور المرأة الضحية أو الناجية أو المنتصرة أو بما يوحي  لها يوما أنها كانت في كبوة ونهضت، تستجلب من وراء ذلك العطف، فتعلن حربها ضدّ مفهوم العار والوصم والتسليع، ضدّ الثقافة الذكورية .

وهنا تطرح قضية الرقابة في مصر، حيث تؤكد أن هناك رقابة رسمية بأشكال متعددة ومتنوعة، وهناك الرقابة التي يخلقها الوسط الثقافي، خاصّة إذا كان المرء غير محسوب على شلّة مُعينة.

أما عن وجهة نظرها في فنّ التمثيل الآن:

فترى أنّ فنّ التمثل هو مرآة  للسلوكيات الاجتماعية في كل مجتمع  من خلال محاكاة طريقة الكلام أو التعبير  والمشاعر والحركة والتواصل  ومن ثم تنتقل إلى تأثير وسائل التواصل الاجتماعي على فنّ التمثيل من خلال الدخول البصري لهذه الوسائل، فصرنا نرى شاشة الهاتف المحمول على المسرح، يقرأ منها الممثل، كذلك ظهور تعبيرات لفظية داخل العمل الدرامي من مشتقات اللغة الإنكليزية وغيرها.

من جهة أخرى فإنّ فنّ التمثيل استفاد من السلوكيات الراقية في الأعمال الدرامية القديمة والتي أصبحت بمثابة وثيقة سلوكية ترصد حال المجتمع في فترة زمنية ما، ليس هذا فحسب بل رسخت مفاهيم كثيرة سلبية مثل الغطرسة كمرادف للسلوك الاجتماعي الراقي، في حين أن سمات النزاهة والأمانة، تبدو سمات عفا عليها الزمن.

المسرح الجامعي وميلاد الحلم  

في هذا الفصل تعرض الباحثة لتجربتها الأولى في دخول مسرح الجامعة بعد أن بدأت الدراسة في قسم اللغة الفرنسية في كلية الآداب، جاءت إلى هذا المكان، ولم تتسلح بالخبرة الاجتماعية الحياتية الكافية

  بل كانت علاقتها مقتصرة على المحيط العائلي، كان مخزونها الفكري والمعرفي وحبها للرقص والمسرح هو رصيدها الذي تعوّل عليه.

 تتحدث عن التجارب و الصدمات الأولى في عالم التمثيل والرقص والدمى المتحركة في حرم الجامعة أوائل البروفات والتي تركت أثرها الذي لا يُمحى في ذاتها، تلك التجارب التي شكلت الأرضية الثابتة التي ستقف عليها يوماً ما.

فيما بعد يكبر مجتمع الأخوة  الذي اتسم باللهفة والمساعدة والحماية، مجتمع المسرح الجامعي وتغدو الفرقة أكبر وتبقى الكاتبة الممثلة البنت الوحيدة التي استمرت في العمل في فرقة المسرح الجامعي طوال سنوات الجامعة.

تتعمق التجربة أكثر فتغدو مصممة ومدربة حركات استعراض للعرض الأهم ” المزاد ” حيث ستدرك لاحقا تشابك عالم السياسة مع النظام.

 تسرد الكاتبة عدد من المسرحيات التي شاركت فيها  بأدوار مختلفة وتعلق وتشرح طبيعة كل عمل مسرحي وكيف أضاف إليها الكثير من الخبرة وأصبح  محفوراً في ذاكرتها.  

تسرد سيرة النمو والتحول التي طرأت عليها وعلى تجربتها الإبداعية من جملة ذلك تعرفها عام 2012 على نصّ الكاتب المسرحي النرويجي “عدوّ الشعب ” للمؤلف المسرحي هنريك ايسن  الملقب بأبي المسرح الحدّي وقد كان للفنانة تجربة مع نص إيسن السابق (بيت الدمية). إيسن الذي عرفت نصوصه بأنها تطرح حالة تمرّد الفرد على الجماعة، وتحديداً المرأة في مواجهة النسق الفكري السائد.

لكن ترى الباحثة أنّ أحداث يناير قد أحدثت تغيراً في ذاتها، فحولت اهتمامها إلى السياسة والايديولوجيا، وهي ترى أنّ هذا من صميم عمل الفنان الذي يعي دوره كمواطن، يتأثر بالمتغيرات ويؤثر في الواقع.

من خلال نصّ عدوّ الشعب، تكتشف الباحثة المسرح السحري الذي يناقش الوضع السياسي الراهن بكل تجلياته الذي يشتبك مع الواقع الراهن، بطريقة درامية، يناقش هذا الواقع السياسي، لكن بطريقة تختلف عن مسرح المقهورين.

يأتي ذلك من خلال إخراج الفعل المسرحي إلى الشارع كأسلوب لدمج الفنّ في الحالة السياسية والثورية  وإعادة تربية المواطن لتفعيل العقل والإرادة الحرة.

في الجسد أيضاً وطن

في هذا الفصل من الكتاب تطرح قضية الجسد الأنثوي ومنظومة التربية في المجتمع الأبوي.

في وطنها ترى أنّها جسد منفيّ خارج دوائر اتخاذ القرار خارج دائرة الكرامة.

تطرح قضية اغتراب جسد المرأة عن ذاتها، وترى أن منظومة العفّة ما هي إلاّ فقاعة متداولة عبر القرون وأنّ الجسد يحمل تراث العار!! فيحيا جسدها شاعراً بالذنب، وتتوجس بحذر..

من خلال التجربة المتراكمة ترى الباحثة أن في عالمها الذي خرجت منه، بقي جسد المرأة منفي داخل وطنه هو ذاته جسد الحرية المقموع في أرضه. ضمن تربية ذهنية مصممة  لإنتاج وعي زائف وناقص عن الذات..

إذ طالما نحن ننظر إلى ذواتنا وأجسادنا نظرات متدنية، فمن وجهة نظرها طالما نحن نفعل ذلك فمن أين يأتي استحقاقنا للكرامة؟!

في نهاية الكتاب تثبت الباحثة نبذة مُختصرة عن كلّ عرض مسرحي كتبته أو شاركت فيه وفق التسلسل الزمني لإنتاج هذا النص أو عرضه، من هذه المسرحيات ” النص، الضفيرة ، رسالة إلى أبي وجوه لي رحلة إلى الروح، شذرات من أسماء .. ” وغيرها الكثير من الأعمال الإبداعية  كسيرة حافلة بالعطاء الإبداعي.

بالإضافة إلى ذلك ضم الكتاب والذي يقع في 350 صفحة من القطع المتوسط، عدداً من النصوص الإبداعية والشعرية للكاتبة تعكس تعدد منجزها الإبداعي والفني، كما ضم الكتاب عددا من الصور التي تحكي مسيرتها الإبداعية والفنية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* نورا أمين كاتبة وفنانة ومترجمة مصرية صدر لها العديد من الأعمال الإبداعية، مقيمة في برلين