مستقبل أوروبا القريب .. شعبوي بامتياز

الدليل ـ برلين ـ
انفتاح الاتحاد الأوروبي على العالم والحريات والليبرالية الواسعة فيه كانا في الواقع بداية تراجع الاستقرار الوطني في دِوله، فكان انضمام عدد من دول أوروبا الشرقية إلى الاتحاد وهجرة عدد وافر من مواطنيها إليه، ثم توالي موجات الهجرة من افريقيا وأسيا والشرق الأوسط، وراء الاضطرابات الاجتماعية والاقتصادية التي مهّدت الطريق لتغيّر المشهد السياسي، فظهر المتطرفون على الساحة السياسية، وكانت المراكز المتقدمة في الانتخابات من نصيب الأحزاب والقوى التي يقف على رأسها يمينيون شعبويون، من أمثال ماتيو سالفيني في إيطاليا، وفيكتور أوربان في المجر، ومارين لوبن في فرنسا، وياروسلاف ماتشينسكي في بولندا ، ألكسندر جاولاند في ألمانيا وغيرهم …
الحركات القومية أو العنصرية هي التي تشكل قوام التيارات الشعبوية، التي تغدو مع الوقت جزءا من الحالة السياسية والاجتماعية والثقافية العامة.
ترامب الأمريكي
لم تعد الشعبوية اليوم «تهمة» يتقاذفها رجال السياسة في الحوارات والمناظرات استنقاصا من قدرة خصومهم على الحجاج العلمي والمنطقي، فبعد خروج بريطانيا التاريخي من الاتحاد الأوروبي وانتخاب دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية، أصبح للشعبوية مفهوم مستحدث يعادل «الإستراتيجيه» الفعالة في حشد التأييد والمناصرة.
إن في الأمر دعوة ملحة لمراجعة المعجم السياسي بالكامل، إذ يبدو أن إيديولوجيا التخويف واللعب على عاطفة الجماهير سائرة لا محالة نحو مزيد الازدهار، كما يبدو أن نجاحاتها لن تتوقف عند البريكسيت البريطاني ولا عند الرئيس الأشقر العفوي. ففي المثال البريطاني وجدت دعوات الخروج من الاتحاد الأوروبي قاعدة كبيرة من المؤيدين، وحتى من المتعصبين المتطرفين الذين آثروا الانغلاق على أنفسهم ورفضوا ما اعتبروه «وصاية» أوروبا عليهم اقتصاديا وسياسيا. وقد تزعمهم حينها النائب بالبرلمان ووزير الخارجية بوريس جونسون الذي وصف استفتاء الخروج بأنه «انتفاضة شعبية كبيرة ضد نظام بيروقراطي قديم خانق أصبح تشبثه بالديمقراطية غير واضح».
جونسون نفسه، ابن العائلة المهاجرة، أقنع أنصار البريكسيت بأن سياسة الحدود المغلقة ستكون مجدية وبأنها ستمنح لبريطانيا فرصة قيادة أوروبا من خارج الاتحاد!
إنه بلا شك خطاب شعبوي بامتياز حرك الكبرياء البريطاني الدفين وحلم الزعامة الأبدي، ولعب على وتر الولاء المتعصب لبريطانيا فكان أن أجج نار التطرف التي أسفرت عن اغتيال النائبة المناهضة للخروج جو كوكس.
أما في الولايات المتحدة فكان خطاب الجمهوري دونالد ترامب موضع انتقاد دائم من الديمقراطيين ومن مختلف الأوساط السياسية والإعلامية المحلية والعالمية، حتى أن رجل المال والأعمال أضحى محلا للسخرية والتندر، لكن أحدا لم يدرك أن خطابه كان أقرب إلى وجدان الأمريكي البسيط وأكثر إلماما بمشاغله اليومية وبمخاوفه المبررة وغير المبررة، علاوة على أن ترامب قدم نفسه باعتباره نموذجًا للرجل الأمريكي المتفوق ثروة وسلطة.
ألمانيا المتخبطة
إن الشعبوي يتبنى مخاوف ـ فقط مخاوف ـ المواطن البسيط ويسطر على ضوئها البرامج والوعود الانتخابية فلا يكلف نفسه عناء البحث والتخطيط، إنه نوع من خطابات الطمأنة والانخراط في الفكر الجماهيري السطحي، ولذلك يراه الكثيرون أقرب إلى همومهم من خطاب النخبة المؤسس بصورة أكبر على المعطى العلمي والواقعي.
وفي المقابل أفصح وعي المواطن الغربي أخيرا عن فقر في الرؤى والأفكار وعن عجز في الاستدلال والتحليل، وأصبح فريسة سهلة لكل خطاب شعبوي يدغدغ عواطف الانغلاق والانفصال والتقوقع، ويبعث على الإحساس بالأمان إزاء عولمة الفوضى والإرهاب.
إن الشعبويين ينتقون جيدا فئة الناخبين التي تذعن لدعايتهم وتسلم بها وهي الفئة الهشة ثقافيا واقتصاديا واجتماعيا، والتي يتملكها دائما الإحساس بالاستضعاف والخوف فتجنح للبحث عن أمنها.
ففي ألمانيا آلت سياسة المستشارة أنجيلا ميركل بخصوص استقبال اللاجئين إلى تدهور شعبية الأحزاب الحاكمة (المسيحي الديمقراطي والاشتراكي الديمقراطي) حيث استغل اليمين المتطرف مشاعر المعادين للهجرة لهزيمة الأحزاب الحاكمة في الانتخابات المحلية.
وقد وجدت الدولة نفسها أمام معضلة مجتمعية وسياسية خصوصا بعد استمرار المستشارة في سياسة استقدام المهاجرين والتي شكلت من وجهة نظر حزب البديل، والمتطرفين اليمينيين عبئا على المجتمع من الناحية الاقتصادية والأيديولوجية حيث يشكل ازدياد عدد المسلمين في ألمانيا خطرا على نسيج المجتمع. بالإضافة إلى التبعات المالية التي ارتبطت بتوطين المهاجرين واندماجهم. واستمر النهج حتى بعد اعتزال ميركل للسياسة ووصول الاشتركي شولتس، و مازال النهج مستمراً.
وبرزت المطالبة بإيقاف الهجرة، وطرد المهاجرين، وعدم قبول اندماجهم في المجتمع، وازدادت المطالبة بحظر النشاطات الدعوية، ودور تعليم القرآن، وحظر النقاب، وغير ذلك من الإجراءات الغير محببة للمسلمين، وصارت الأحزاب الحاكمة أكثر تشدداً بعد مطالبات باتخاذ إجراءات صارمة في حق اللاجئين والمسلمين.
وعلى شاكلة ألمانيا تلقى شعارات الجبهة الوطنية اليمينية المتطرفة بزعامة مارين لوبان تجاوبا لدى الكثير من الفرنسيين، حتى أن الخوف بدأ يتعاظم من تكرار مشهد الصعود الدرامي لترامب على عتبات الإليزيه.
كل هذا يجري وسط دعوات من دول شرقية وغربية متكررة داخل الاتحاد بالخروج عن بيت الطاعة الأوروربي.
فإن نجحت الشعبوية في بريطانيا والولايات المتحدة في الإيفاء بالتزاماتها، وهو ما لا يمكن استبعاده فقد نشهد في السنوات القليلة القادمة “ربيع شعبوي” يعصف بوحدة أوروبا الاقتصادية والسياسية ويعزل أمريكا عن العالم الجديد ويقلب نهائيا معادلة الزعامة.
.