ما قبل الانفجار الكبير !
.
إبراهيم بدوي
لقد أصبحنا في هذا العام شهودا على تفاقم أزمة النظام العالمي، وفقدان النخب السلطوية للسيطرة على مجريات الأحداث. وفيما يلي بعض الأحداث البارزة التي حددت ملامح هذا العام.
تمرد ترامب
بعد عامين من الشد والجذب والضغط المستمر على الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، وبعد فقدانه جزءا كبيرا من فريقه، واضطراره لتنفيذ أجندة سياسية غريبة عنه، نفذ صبر الرئيس وتمرّد، بعد أن وجد نفسه بين سندان التنازلات، التي لا تهدّئ من هجوم الخصوم، ومطرقة البورصة المتهاوية، والمشكلات الاقتصادية المتصاعدة، التي ستتسبب بالتأكيد في تنامي المشاعر المعادية له، وفقدانه قاعدته الشعبية. وبينما لا يجري الزمن في صالحه، ويلوح في الأفق شبح العزل مقتربا يوما بعد يوم، وانطلاقا من وضعه الذي لم يعد لديه فيه ما يخسره، كان من المنطقي في إطار صراعه من أجل البقاء السياسي، أن يصعّد من “حربه” ضد الديمقراطيين، تحت مسمى تنفيذ وعوده الانتخابية، وبذلك يضع جزءا من مسؤولية فشله على خصومه.
وبجرأة انتحاري، تحوّل دونالد ترامب من الدفاع إلى الهجوم، وتنازل عن أولويات النخب السلطوية في الولايات المتحدة الأمريكية التي لا تتزعزع، وأعلن عن سحب القوات الأمريكية من سوريا وأفغانستان. وقرر “إغلاق الحكومة” إغلاقا طويل الأمد، من أجل تنفيذ وعوده بشأن بناء جدار حدودي مع المكسيك، وهو ما أصبح سببا إضافيا لفوضى البورصة.
لكن تلك الخطوات اليائسة لم تعزّز من موقع دونالد ترامب، بل على العكس، رفعت من احتمالات عزله. في الوقت نفسه، يرفع تفاقم الأزمة الاقتصادية من إمكانية حدوث منازعات داخل النخب السلطوية، وفي المجتمع، بل إن تطور أي أحداث متعلقة بمصير ترامب تحديدا، يمكن أن تعصف بالاستقرار الداخلي للولايات المتحدة الأمريكية، وبالتالي ستؤثر على تصعيد أزمات أخرى في مناطق أخرى من العالم.
وعلى خلفية تصاعد الأزمات الداخلية المحيطة بترامب، لم تعد السياسة الخارجية تحمل ذات الأهمية بالنسبة له، كما شاهدنا في سحب القوات من سوريا، لكن ردود أفعاله بالنسبة للأزمات الخارجية هي الأخرى يمكن أن تكون غير متوقعة، وجذرية على نحو أكبر.
أزمة الاتحاد الأوروبي
تزداد مناطق الأزمات الساخنة في الاتحاد الأوروبي، بينما لم يتمكن الاتحاد الأوروبي من حل أي منها حلا جذريا، فقد تفجّرت أزمة الموازنة الحكومية في إيطاليا، واستيقظ حلم الانفصال الكاتالوني في نهاية العام، وهي الأزمة التي تنتظر هي الأخرى الوقت المناسب لإعادة إحيائها. من جانب آخر، يستمر التمرد الهادئ لبولندا وهنغاريا، اللتين تتجاهلان تعليمات الاتحاد الأوروبي في عدد من القضايا. كذلك لم تعد كل من بريطانيا وفرنسا مستقرتين، بل وطالت الاضطرابات ألمانيا، التي تمكنت من تجنب تصاعد الأزمة السياسية الداخلية فقط من خلال قطع المستشارة الألمانية، أنغيلا ميركل، وعدا بترك منصبها عام 2021، الأمر الذي جمّد الأزمة السياسية الألمانية لهذا العام، دون ضمانات بأن يسري ذلك لوقت طويل.
على أية حال، فإن ارتفاع عدد المشكلات الاقتصادية غير المحلولة، سيدفع بالأوروبيين بالقفز من القارب الغارق، أو محاولة الخروج من الماء على رؤوس الدول المجاورة، فتفاقم الأزمة الاقتصادية سيؤدي إلى صعود جميع التناقضات داخل الاتحاد الأوروبي إلى السطح.
البريكسيت
بعد استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، قررت النخب السلطوية البريطانية تبنّي مبدأ “إذا لم تتمكن من الوقوف في وجه التيار، كن في طليعته”، على أمل أن يحمل الخروج من الاتحاد الأوروبي شكلا صوريا، بينما يظل التكامل بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي على منواله القديم، لكن تلك المحاولات فشلت، وأصبحنا نرى أمام أعيننا فقدان لندن السيطرة على عملية الخروج، في الوقت الذي تهاوت فيه خطط تيريزا ماي واحدة تلو الأخرى، وأضحت الخطوات السياسية عشوائية، ولم تعد المشكلة في عجز أي طرف من الأطراف رؤية مخرج من الأزمة فحسب، وإنما في أن أحدا منهم لم يعد يعرف ما الذي سيفعله غدا، ولم يعد السيناريو الأسوأ بعيد الاحتمال، بل إن الكارثة البريطانية لم تعد أمرا غير اعتيادي على خلفية العالم المنهار من حولها.
فرنسا
لم يدر بخلد أحد في فرنسا أو العالم أن تصبح فرنسا إحدى النقاط الساخنة على الخريطة، وتعيّن على الرئيس ماكرون لمواجهة الأزمة أن يتخذ إجراءات شعبوية طارئة، مضطرا بذلك أن يرفع من عجز الموازنة، ما سيعطي إنطباعا أن الرئيس على استعداد لفتح الخزانة ومنح النقود، إذا ما تعرّض لضغوط شعبية، وهو ما سيصبح قنبلة موقوتة تهدّد استقرار البلاد، علاوة على ما سوف تسببه تلك الإجراءات من تعقيدات في العلاقة مع الاتحاد الأوروبي، بالتوازي مع علاقة إيطاليا بالاتحاد الأوروبي، وما يبدو في التعامل مع الطرفين من ازدواجية في المعايير من قبل الاتحاد الأوروبي.
الدول العربية
توصلت المنطقة العربية مبكرا إلى حالة استقرار سياسي مؤقت، نظرا لدخولها على خط أزمات النظام العالمي مبكرا، فالدول التي تعاني من صراعات، مثل ليبيا واليمن، وصلت إلى طريق مسدود، وهو ما يعدّ استقرار بشكل من الأشكال، وهو ما يعني كذلك أن العام الجديد لن يحمل بالنسبة لتلك الدول تغييرات على نطاق واسع.
ولكن في الوقت نفسه، فإن تفاقم الأزمة العالمية، وهروب رؤوس الأموال من الدول العربية سيضع دولا مثل لبنان ومصر والأردن والبحرين، ذات ديون خارجية كبيرة وعجز في ميزان التجارة الخارجية والمدفوعات، في وضع ضعيف للغاية. كما يمكن أن يؤدي استمرار الهبوط المتوقع للبورصات، والسياسات المالية الصارمة للبنوك المركزية الأمريكية والأوروبية إلى عجز بعض الدول عن سداد ديونها، وتعويم العملات المحلية، وهو ما قد يحمل تداعيات خطيرة على الاستقرار الداخلي لتلك الدول.
سوريا
كان من الممكن ألا نأخذ إعلان دونالد ترامب سحب القوات من سوريا على محمل الجد، لولا تقديم وزير الدفاع الأمريكي استقالته بالتوازي مع هذا القرار. وإذا سحبت القوات بالفعل، فإن التغيير الفجائي لميزان القوى العسكرية يهدّد بزعزعة الاستقرار في المنطقة بأسرها، حيث قد يلقي الصراع حول “الإرث الأمريكي” بظلاله على تماسك المثلث التركي-الروسي-الإيراني المسؤول عن عملية السلام في سوريا.
وبأخذ العامل الإسرائيلي في الاعتبار، فإنه من الصعب تخيّل أن تتخلى الولايات المتحدة الأمريكية عن دورها في الصراع السوري لأمد طويل، لذلك فإن أي إمكانية لتغيير السلطة في واشنطن، سوف تحمل معها بحثا عن وسائل العودة إلى سوريا، علما بأن الولايات المتحدة الأمريكية يمكن ألا تمتلك عملاء داخليين، تستطيع من خلالهم التأثير على الوضع بلا تصعيد خطير، بمجرد وقف تعزيز المشاركين الآخرين، فلا يزال لدى الولايات المتحدة الأمريكية قدرة على التأثير بوسائل عسكرية بحتة، قد يؤدي استخدامها إلى تصعيد مؤثر.
أمّا إسرائيل فسوف يتعيّن عليها من الآن فصاعدا أن تعتمد على نفسها بدرجة كبيرة، وهو ما قد يرفع من أنشطتها، في ظل تعزيز نظام الدفاع الصاروخي السوري، وهو ما يرفع أيضا من احتمالات التصعيد. وبالتالي فإن الوضع في سوريا يحمل إمكانية حقيقية للتأزم، بعد انهيار وضع “اللاسلم واللاحرب” الذي ساد الموقف في ديسمبر.
قضية خاشقجي
لم تؤثر فضيحة خاشقجي على موقف المملكة العربية السعودية كأحد المصدرين الأساسيين للطاقة في السوق العالمي، وبالتالي فلم يتضرر موقف قيادة البلاد على نحو كبير.
لكن احتمال زعزعة استقرار المملكة العربية السعودية، بصرف النظر عن احتكاكات المملكة مع الغرب بصدد خاشقجي، كان قد ارتفع بشكل كبير على أية حال، فقد ظهر في هذا العام عاملان أساسيان، وضعا وجود المملكة العربية السعودية، وفق نموذج العلاقات الأمريكية-السعودية، موضع شك.
أولا، تسببت المشكلات الاقتصادية وحل المشكلات الاجتماعية، والمشاركة في حرب اليمن، والحاجة إلى الزيادة المستمرة للدعم الذي تقدمه السعودية لحلفائها في ظهور عجز مستدام في موازنة المملكة العربية السعودية، لتنضم إلى الدول التي تنفق أكثر من دخلها، وتعيش تحت وطأة الديون.
ثانيا، تحولت الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة العربية السعودية من لاعبين أساسيين يلعبان في نفس الفريق، في سوق الطاقة العالمي، إلى لاعبين متنافسين، وهو ما أدى إلى صدام بين الرياض وواشنطن، لتكون النتيجة أن دور الحليف المخلص الذي تؤديه المملكة، ومحاولة منافسة الولايات المتحدة الأمريكية يدفعان إلى هبوط أسعار النفط، ويحدّان من قدرة الرياض على حل المشكلة الأولى.
إن هوة التناقض مرشحة للاتساع، فلم تعد واشنطن محتاجة للرياض في نفس الدور القديم، في الوقت الذي تهتم فيه الصين بالمملكة العربية السعودية كمصدر للنفط، لكن خروج الرياض من معسكر لآخر قد يصبح في حد ذاته سببا لأزمة هائلة.
إيران
بعد إعادة الولايات المتحدة الأمريكية فرض العقوبات على إيران، تدهورت الأوضاع سريعا لتصل إلى حافة “الخطوة التي تسبق الصراع العسكري”، لكن الانتقال إلى مستوى أعلى من المواجهات يبدو أمرا بعيد الاحتمال، دون توقف صادرات النفط من الخليج، لذلك فإن وضع إيران قد وصل إلى استقراره الاستراتيجي بالنسبة للغرب، ولا يحتمل أن يشهد الوضع أي تغيّر في العام المقبل، طالما لم تظهر أي “قوة قاهرة”.
في الوقت نفسه، فقد أصبحت إسرائيل في موقف الند للند مع إيران، ومن الممكن أن تحاول من خلال مواجهات مباشرة إشراك الولايات المتحدة الأمريكية في مواجهة إيران على أراضي أي دولة ثالثة، وهو ما يمكن أن يرفع من احتمال تصعيد غير محسوب للأزمة.
روسيا والغرب وأوكرانيا
حافظت روسيا على استقرارها، على الرغم من العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها، وعلى الرغم من المؤشرات المتناقضة التي يظهرها الاقتصاد الروسي. بل لقد دفعت العقوبات التصاعدية روسيا إلى ابتكار آليات ذاتية ودولية بديلة لتنشيط الاقتصاد، وهو ما سيخفض تأثر روسيا على المدى الطويل بالصدمات الاقتصادية الخارجية. لقد استقرت جبهة المواجهة بين روسيا والغرب، لكن الغرب لم يستنفذ كافة وسائل عقوباته المحتملة ضد روسيا.
في الوقت نفسه أدى اقتراب موعد الانتخابات الأوكرانية، والتدهور الكبير في الوضع الاقتصادي هناك إلى زيادة نزعة التطرف لدى نظام بوروشينكو، الذي بدأ حملات قمعية ضد الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية، وشجّع الاستفزازات التي تهدف إلى إشعال فتيل صراع عسكري بين روسيا وأوكرانيا، وتوريط الناتو في هذا الصراع. سوف تجري وقائع الانتخابات الأوكرانية نهاية مارس 2019، بينما يتلخص هدف بوروشينكو حتى ذلك الحين، أن يتمكن من تفجير الوضع قبل خسارته في هذه الانتخابات، وهو ما يمكن أن يدفع بالوضع إلى صراع عسكري بين روسيا وأوكرانيا، يصعب التنبؤ بمآلاته.
الولايات المتحدة وحلفائها
لقد تركت المشاحنات بشأن التمويل، والحروب التجارية، وتفاقم المشكلات العالمية، والخلاف بشأن طرق حلها، أثرها الواضح على علاقات الولايات المتحدة الأمريكية بحلفائها، ولم يعد النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة مناسبا لا لأعداء أمريكا فحسب، بل وأيضا بالنسبة للحلفاء، وحتى للولايات المتحدة الأمريكية ذاتها!!! فأمريكا هي التي بدأت الحرب التجارية على حلفائها، وفرضت عقوبات ضد حلفائها مضحية في ذلك بوحدة الناتو، وأصبح النظام السياسي العالمي غير قادر على الاستمرار.
الحرب التجارية وانهيار البورصات
أما الحدث الأخير والأهم في العام المنصرم، هو بداية موجة جديدة من الأزمة الاقتصادية العالمية، رأينا إرهاصاتها عام 2008. وبينما أكتب هذا المقال تغيرت عناوين الأنباء من “العام الأسوأ للبورصة خلال 10 أعوام” إلى “أسوأ عام في تاريخ البورصة”، ولا نعلم العنوان الذي ستستقر عليه عناوين الأنباء بحلول العام الجديد، ولا متى سينتهي انهيار البورصة.
إن الهرم الائتماني الضخم للدولار الأمريكي قد بدأ في الانهيار، وهو ما وضع الحكومات الغربية أمام خيارين صعبين لا ثالث لهما، فإما التضخم الهائل كما حدث في زيمبابوي، أو خفض محفزات الاقتصاد وما يعقب ذلك من تداعيات تتمثل في التمرد والمشكلات الاقتصادية. وبينما تقف الحكومات في حيرة من أمرها بين الخيارين، يمضي العالم مسرعا نحو الفوضى، وعمليات الهدم التي تخرج شيئا فشيئا عن سيطرة الحكومات.
فالبريكسيت، والحروب التجارية، والديون الإيطالية، والركود الاقتصادي في أوروبا، وتراجع النمو الاقتصادي في الصين والعالم كافة، وانهيار البورصات – كل تلك الأزمات تحدث على خلفية تضخم ديون الحكومات منذ 2008 بمقدار الضعفين على أقل تقدير.
من الممكن أن تؤدي كل أزمة من تلك الأزمات إلى تفاعلات عنقودية، تتسبب في كارثة على نطاق غير مسبوق، كما أن بعض هذه الأزمات يحمل في طياته موعد ذروة الأزمة، وهو العام 2019.
إن الولايات المتحدة الأمريكية تخلي موقعها القيادي للصين، بالتوازي مع سقوط العولمة التي كان مركزها الولايات المتحدة، وتنهار العلاقات الاقتصادية، ولم تعد آليات الإدارة، بما في ذلك الأمم المتحدة والمنظمات الدولية تعمل، وأصبح من الواضح أن العالم في انتظار أزمة واسعة النطاق. لا نستطيع الجزم بأن تلك الأزمة المتوقعة ستحدث في 2019 بالتحديد، لكن احتمالات حدوثها كبيرة.