قراءة في قصص “لوحات لم يرسمها فَان كوخ”

للقاص والأديب نجيب كيّالي
موسى الزعيم
لا تزالُ القصة القصيرة من أكثر الفنون السرديّة قرباً إلى نفس القارئ، لما تحمله من قدرة على إيصال رسائلها الفنيّة والإبداعية عبر أقصر زمن وتكثيف جمالي أنيق، ربما لأنّها الأقدر على تأبيد اللحظة الحياتيّة فنيّاً وابداعياً.
ولعلها تمتلك هذا السحر الخاصّ بها سرديا من خلال صوتها الذي يحرّك نوازعنا الداخلية، بما تملكه من قدرة على دمجِ عددٍ من الفنون الإبداعية في متنها القصير، لتخلق لها كيانها الخاص، فتغوص عميقاً في الواقع، تلتقط منه ما هو عام ومشترك بين البشر وتنبش ما في النفس من خفايا وانكسارات، خاصة إذا كان الواقع مشتبكاً بين الحرب والغربة وانكسار الانسان، الانسان الذي فرضَت عليه الحرب أن يعيدَ نسجَ واقعهِ من جديد، في بلدٍ غريبٍ، عليه أن يبدأ في برمجة حياته الجديدة، ليشكّل مشاهداته الأولى سعياً لتكوين ذاكرةٍ جديدة، تعينهُ على الاستمرار على البقاء، في حين أن ما تبقى في الذاكرة القديمة، عبثتْ به الحرب مثل ما تعبث بكلّ أشيائنا الجميلة، هذا الماضي صار بعيداً، وصار الوصول إليه شبهَ مستحيل، في لحظة التجلي يتساءل المرء هل يفرح لأنّه مازال حيّا؟ أم يحزن لأنّه فارق أرضاً كَبُر فيها كما يكبر شجر زيتونها ؟ أم يوجه الواقع البارد بالسخرية، ورغم كلّ ما يُشعرهُ بدفء الجسد، تبقى الأرواح عاريّة لا قرار لها.
من هنا تأتي المجموعة القصصية لوحات لم يرسمها فان كوخ للكاتب السوري نجيب كيالي
والتي تضمّ أكثر من أربعين نصاً قصصياً، تراوحت بين القصّة والقصّة القصيرة جداً، تستلهم النصوص دائماً موضوعاتها من حياة الناس، ففي الغالب يبقى الراوي قريباً من أبطال قِصصه، يصغي إلى دقّات قلوبها بدفء، يحاول لملمة جراحهم ” والطبطبة” على أكتافهم، يحاول دائماً أن يكون قريباً منهم، هواجسهم وأفكارهم محطّ اهتمامه، وأمام عينيه طريقٌ واحدٌ نحو الحبّ والإنسانية.
ولعل من ميزات قصص نجيب كيالي أنه يحارب الشرّ فيها بالسخرية، أما القسوة فتأتي من الداخل وليس أقسى من الوحدة والوحشة والغربة في قصص المجموعة.
بين ريشة فان كوخ وقلم القاص
يرى عددٌ من نقاد الفنّ التشكيلي أنّنا عندما نتحدّث عن فان كوخ، نتحدث عن إبداع فنّي له خصوصيته، لما تحمل لوحاته من عمق نفسي وجمال فريد، وثورة فنيّة على الألوان ومن خلال مزجه بين الحلم والألم والعذاب الإنساني في لوحاته، ما يعكس أزماته الوجودية والنفسية وتساؤلاته عن الفنّ وعلاقته بالحياة.
أمّا شخصيته فهي أقرب إلى الأسطورية، ولها مرجعيات، تحتمل الكثير من التأويل وتثير التعاطف والجدل إنسانيا وفنياً، ولوحاته تلامس مشاكل وأزمات الإنسان البسيط في قِهره وكآبته، وخاصة فيما يتعلق بالصحة والألم، فغالباً ما يختار أن يرسم الفقراء والوجوه البشريّة المعتادة، أما قضايا الطبقة الارستقراطية فلا تشغل فرشاته ولا مساحة تفكيره، فهو يسعى نحو فنّ ملّون وتشخيصي واضحٍ العناصر، عشوائي صارخ، ألوانه صاخبة ومتنافرة، ضربات فرشاته سميكة غير متجانسة، لكن لوحاته مثيرة للحواس.
إنّ قراءة متأنية لقصص المجموعة، ومن خلال تفكيك مقولاتها ومقارنتها بما رسمه فان كوخ ؟ سيضعنا أمام التساؤل التالي: ما مدى قسوة الواقع الذي ترصده تلك القصص؟ أو لماذا لم يرسم فان كوخ تلك القصص “اللوحات” التي بين طيّات الكتاب؟
من هنا أيضاً تبدو أهميّة العنوان في إثارة الرغبة وفتح عتبة البحث والتنقيب عن أجوبة لتلك الأسئلة، التي ستفتح الباب أمام أسئلة أخرى..
ففي قصة لوحات لم يرسمها فان كوخ، نجد أنّ ما فيها أقسى من المُتخيل، مشاهد سيحاول الفنان إشاحة وجهه عنها، لما فيها من قهر إنساني، ثلاثة مشاهدَ عابرةٍ من ذاكرة الحرب تُعجِز أيّ رسام عن رسمها..
“و لعل الرسم أقدم تاريخياً من الفنون السردية وباعتباره أقدم الفنون السبعة، فترك الرسام “العاجز” مهمة تأبيدِ المشهد للقاص..
لابل حتى أن هذه اللوحات ببشاعتها، صارت كوابيس وبقيت تلاحق الرسام في صحوهِ ونومه..
” ثلاثةُ مشاهد من حربٍ داخلية، شهدها بلدٌ عربي اطّلع عليها رسامٌ، رفع يديهِ قائلاً: أنا عاجزٌ عن رسمها تماماً.. وأضاف حتى فإن كوخ الذي كان بارعاً في تصوير العذاب والألم سيرمي ريشتهُ أمامها لو رآها..”
إلى أيّة درجة كانت تلك المشاهد قاسية ؟! حتى صارت كواكب ساخرة مجنونة تدور حول رأس الرسّام، تسخر منهُ داعيةً إيّاه لفتح أَلبوم الحرب، ليرى المزيد وليتعمّق عجزهُ أكثر.
في حين أنّ قصّة “ديوانة أيّوب” ترصد الحالة النفسيّة لرجلٍ وحيد، يعيش مع خوفه وألمه وحزنه في غربته ” وأيوب في التراث السردي، يحيل دائماً إلى متلازمة الصبر على المرض والمِحنة والابتلاء.
” سفيان الذي غادر مدينته في شمال البلاد، بسبب الحرب التي لا يعرف كيف يصفُها أو يسمّيها، يستلقي على ديوانته في البلد الأوربيّ الذي لجأ اليه.. تنهشه الوحدة والمرض فيتخيل مصير كبار السنّ في أوروبا، يتراءى له أنّه يحاور أيوب، أو يصير طارق بن زياد أو يرى نفسه شاعراً و أخرى سندباد، لعله يبدد الوحدة المحيطة به ويقتل الوقت، ليغدو الأمر أشبه بالهلوسة تودي به إلى السقوط من فوق السرير وانكسار عَظمه، فيصحو ليرى نفسه في المشفى.
تُركّز غالبية القصص على وصف المكان، و أنسنة موجوداته وهي ميزة اختصت بها قصص كيالي إذ في الغالب ما يجعلُ للقدمين ذاكرةً وللطيور ألسنةً، والوردة تطبعُ قُبلة على خدّ الشاعر والقلب قطّ خائفٌ من الوحشة، والعصفور يتذمر من تكاثر الشعراء والعيد يتجوّل في نواحي البيت، وقطع الأثاث في المنزل يصيرُ لها حواسَ تتشارك مع السكان قصص الحياة والألم وغير ذلك الكثيرة..
حتى القاموس، يهرب من حياة حازم، بعد أن وجد أنّ حياة البشر مُقززة، تاركاً دموعه على الرّف وبعد أن وجد أن البشر قد آذوا كلّ شيء، حتى الكلمات صاروا يتلاعبون بها، فخرجت عن سياقها المعتاد ” فمؤتمر السلام عندهم؛ يعني مؤتمر الحرب” “والحريّة حقّ نكفله للجميع، أي سنخيطُ شفاهكم ونهرسُ رأسَ من يَنبتُ ببنتِ شفة.. ! “
في النهاية يهربُ القاموس ويقرر أن يعلّم كلماته للطير والحيوان والنبات..
كثيرة هي القصص التي تثير الفضول للتعرف على الأمكنة التي تتحرك فيها شخصيات السرد، فيأتي الاستهلال الوصفي، ليضع القارئ في جوّ من الدّهشة من خلال اشتغال الراوي على وصف موجودات المكان وخاصة انعكاس ذلك على الذات في الغربة والحنين والتعامل مع الموجودات الجديدة، وهذا ما نلاحظه دائماً في القصص التي تتحدث عن البيئة الأوربيّة، حيث يعيش الراوي، كما في قصّة المقهى الأوربيّ:
حيث ترصد عين الراوي أدّق التفاصيل من حوله، فمن فرط وحدته، صار يتحدّث مع النبتة الغريبة القابعة في زاوية المقهى، يبثها أحزانه وشجونه، وهو أسير وحشته وكآبته في مكانين متباعدين، وطن تركه تستعرُ فيه نارُ الحرب وغربة يُحاول التصالح معها ..
” نهض ولمس النبتة بيديه وحين غادر المقهى، توقف أمام الزجاج وألقى عليها وهي في ركنها نظرة الوداع واعداً إياها بزيارةٍ جديدة “
تخوض قصص المجموعة في عالم تراجيدي حزين وخاصة في قصص ما بعد الحرب، فأغلبُ الشخصيات ذات تجربة وجودية وغالباً ما تشعر بالانكسار فتنزاح إلى دواخلها تغوص في أعماق ذاتها، تبحث عن خلاصها، يخترق القص لديه حدود الزمن بين الحاضر والمستقبل تنسلّ الأزمنة لتشتبك مع بعضها في سرد جمالي شيّق وببراعة فائقة وحرفية عالية، يتماهى فيها الفردي بالجماعي عبر التجربة الحياتية التي تشعرك أن هؤلاء الأشخاص في القصص، هم من لحمٍ ودم نعرفهم، هم قريبون منّا حتى نغوص في ذواتنا لنجد أن كلّ واحدٍ من هؤلاء يعيش فينا، كما هو حسان في قصة باب الدنيا أو صوفي في قصة سيرة عينين أو هوزان في قصة خارج اللياقة.
كثيرة هي القصص التي تنزاح دائماً إلى ما هو إنساني عام من خلال تبنيها لقيم الخير والحبّ والعدالة والسلام والجمال، وهذا ما يميّز قصص هذه المجموعة، كما في قصة هروب القاموس أو قصة حرف الدال، عصر السندويش، القبعات الطائرة، الجمال ديمقراطي، إشعاع، قصة أريد كفيلاً، أو قصّة أسعد رجل في العالم التي تعلي من شأن الحب الزوجي والذي يرى منبت الحبّ في أشياء لا تخطر على البال كالغبار الذي يقف على رمش العين.
تحتفي قصص كيالي بالقيم الاجتماعية النبيلة، وتؤكد عليها دائماً وهي ميزة يتسم بها أدب الطفل والذي يحترفه الكاتب ويتقن تفاصيله ومفاتيحه الجمالية وقد نال في هذا المجال عدداً كبيراً من الجوائز الأدبية ويبدو من هنا أنّه يحتفي بتلك القيم في قصص الكبار أيضاً، وهي سِمة قلما نجدها عند كتّاب آخرين.
في الغالب، يعتمد نجيب كيالي في قصصه نظام الوحدات السردية فتأتي القصة الواحدة عبر تواتر درامي يرتبط بزمن القص أو المكان والحدث أو الشخصيات القصصية، كما في قصة شخصيات روائية، لوحات لم يرسمها فان كوخ ، قصص تحت رؤوس الموتى .. لكن السارد في النهاية يسلّط ضوءاً كاشفاً على هموم القصة لتغدو وحدة كليّة عضوية تمتزج فيها الأحداث ببراعة فائقة دون تعقيد تسير عبر خطي الدهشة والمتعة الفنية.
من جهة أخرى في ظلّ هذا العالم التراجيدي الساخر الذي اختلطت فيه القيم تأتي السخرية السوداء كوسيلة إبداعية لمحاربة هذا الواقع، وقد حفلت المجموعة بعدد من القصص التي تسخر بمرارة سوداء من سلوكيات وتصرفات بعض الأفراد.
مثل قصة شمام الروائح، مرقص القوافي، لن أطيل عليك، ومشاجرة بين الأموات، بُعُبع.
ففي قصة مرقّص القوافي يسخر الراوي من الشعراء الذين يتكاثرون فجأة ” يقرأ عصفور نعوة شاعر مات بالسكتة الشعرية.. يحزن العصفور ويتساءل لما يتكاثر هؤلاء الشعراء ” رفقا بنا يارب غاب الشعراء وكثر المتشاعرون..
يأتي جمال السرد هنا كونه على لسان العصفور الذي يقرن الشعر بالتغريد، الصوت البكر للشعر، من جهة أخرى جاءت التراكيب اللغوية والالفاظ لتعزز حالة السخرية وتصورها أجمل تصوير مثل ” مُخلل القوافي، مَهزوز القوافي، مشخلع القوافي، شنّان القوافي، صفّقوا له بأصابع من عجين، القافية باء مضمومة بو .. بو عندما فتحها وجد الكراسي فارغة في القاعة ..
أمّا في قصة بعبع فتتجلى التراجيديا السورية السوداء بكلّ تجلياتها من خلال حوار رجل عجوز مع البُعبع أو قابض الأرواح
بعد أن قبض قابض الأرواح أرواح الكثير من السوريين، يقف أمام هذا العجوز الشاحب يريد أن يقبض روحه.. لكنه يتراجع .. يُطلق ضحكة مدويّة ثم تسقط من عينيه دمعة وكأنّه يفكر ألف مرّة فيما فعلت يداه للسوريين قبل أن يختفي.
عوالم نجيب كيالي القصصية حافلة دائماً بما هو مدهش وجميل، تدخل إلى القلب والوجدان من خلال إنسانية الموضوعات التي يطرحها عبر لغة شفافة، لغة أقرب إلى الرسم، فكل لفظة في معمار القصة لديه، لها مكانها الخاص ودورها الذي تؤديه وكأنها شخصيات مسرحية تحمل في طياتها الكثير من الأحاسيس، وتسعى دائماً إلى مخاطبة قلب وعقل القارئ في قالب جمالي فريد، وعبر إدهاش جمالي تمتاز به نهايات القصص عامة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*نجيب كيالي: كاتب سوري يقيم في فرنسا صدر له أكثر من ثلاثين كتاباً في القصة القصيرة وأدب الطفل ” شعر وقصة ” كما حاز على عدد من الجوائز الأدبية.
.