في موضوع “ركوب الموجة”

الدليل ـ برلين

كان الكاتب والمفكر الفرنسي “لابلاس” يتمتع بالقدرة على ركوب الامواج المتلاطمة في العصر الذي كان يعيش فيه.

ففي ظل الجمهورية كان جمهورياً عنيفاً يعلن عن بغضه الذي لا يخمد للملكية، ولكن ما إن استولى نابليون على السلطة في التاسع من نوفمبر 1799 حتى ألقى لابلاس من على كاهله ثوب الجمهورية وصار من أشد أنصار الحاكم حماسةً وساعده في التحضير للحملة الفرنسية على مصر!.

ولم يلبث نابليون أن كافأه بأن أسند إليه الداخلية التي لم يمكث بها كوزير سوى أسابيع. وأراد نابليون أن يُطيِّب خاطره بعد إخراجه من الوزارة فجعل منه عضواً في مجلس الشيوخ ثم رئيساً للمجلس عام 1830.

وتتضح قصة ركوب لابلاس الموجة من خلال مقدَّمات الطبعات المختلفة لكتبه. كيف ؟

لقد أهدى الطبعة الأولى من كتابه (نظام العالم) عام 1796 إلى مجلس الخمسمائة (البرلمان الفرنسي).

ولكن بعد ثمانية أعوام حلَّ نابليون مجلس الخمسمائة، فبادر لابلاس بإهداء الجزء الثالث من كتابه (حركة الأجرام السماوية) بكلمات ملؤها التقديس إلى نابليون، لا لشيء إلا لأنه حل مجلس الخمسمائة !!.

في عام 1812 كان نابليون في أوج عظمته، فأهدى لابلاس الطبعة الجديدة من كتابه (نظرية تحليلية في الاحتمالات) بمقدمة إلى (نابليون العظيم).

ولكن بعد ذلك بعامين زال السلطان عن نابليون ونُفيَ إلى جزيرة سانت هيلانة وكان لابلاس من بين من أصدروا قرار نفيه !

ماذا فعل لابلاس يا تُرى؟  غيَّر إهداءه وكتب بدلاً منه: إن حساب الاحتمالات كان يمكننا من أن نتنبأ، بدرجةٍ كبيرةٍ من الاحتمال، بسقوط الأباطرة الذين كانوا يحلمون بالسيطرة على العالم !!.

ولعل أخف معاصريه وطأة عليه كان يصفه بـ (المرونة). وكان الجميع يرون فيه نظيراً للقس “براي” الذي كان بدوره سريع التلون، فقد كان من كاثوليكيا من أتباع البابا مرتين كما كان بروتستنتياً وخارج على البابا مرتين !!.

يقول موقع المعرفة عن ركوب الموجة: ” وهذه السياسة من أكثر السياسات رواجاً عند صيادي الفرص الذين يستغلون ظروفاً معينة أو أحداثاً خاصةً، فينخرطون بها ويتبنونها فيختلط الأمر على المراقب حتى يكاد لا يميز بين الأصيل والدخيل؛ مما يسبب ضياعاً في الرأي العام، وتبديداً للجهود المخلصة، وتفشيلاً لها، وتيئيساً لمن أخذ الأمر على محمل الجد ولم يتلوث بالحيل التي نصبت له شراكها.

وكثيراً ما نرى أن موجة السخط على الحاكم والملك والرئيس تخمد فجأة دون أن تبصر الإصبع الذي أطفأها، ولاشك أن ركوب الموجة وتبني مطالب الناس، ولو إعلامياً بالكلام المنمق، يساعد على الحد من جذوة الحماس، وقد يؤدي إلى عكس ما طالب به جمهور الناس.

حدث منذ أن انطلقت تظاهرة تطالب المسؤولين بالحد من التدهور الاقتصادي ووقف التلاعب بأرزاق العباد، وقد كانت شعارات المتظاهرين تهاجم الرئيس وجميع المسؤولين بدون استثناء، وبعد أن التقى المتظاهرون من شطري البلاد تحولت الشعارات والهتافات إلى (شعب واحد، وطن واحد).

فما أسهل تدخل القوى الرسمية حتى في البلدان التي تحولت فيها الدولة إلى أشلاء ممزقة، فهذه الدول الكرتونية لا تعوزها الحيلة، فحينما تريد ركوب موجة معينة لا تصطدم بها مباشرة، أو وجهاً لوجه، وإنما تسير مع الموجة في خط موازٍ لها متبنيةً شعاراتها ومطالبها، وتحاول تضييق المسافة بين الخطين، حتى تقترب من الخط الأصلي محاولة شراء أشخاص تلك الموجة بالترهيب والترغيب. وحين يلتحم الخطان بعد تعديل زاوية الانحراف تصبح الموجة المعادية للنظام بأشخاصها وشعاراتها هي ابنة النظام البكر، ويكتشف أصحابها أنهم تحولوا عن أهدافهم الأصلية مائة وثمانين درجة دون أن يشعروا بعملية التحويل القسرية التي خضعوا لها.

والأمثلة كثيرة في تاريخنا الحديث .. وثقافتنا .. وبلادنا الأم ..

الموجة العروبية

مع بداية الحقبة الناصرية وتأثيرها في العالم العربي والإسلامي كان الجميع يتغنى بالعروبة والوطن الأكبر، وأصبحت معظم الدول اشتراكية تحقق مصالح الطبقات الدنيا. وما أن وصل السادات إلى الحكم وأقر التطبيع مع إسرائيل، وأتخذ ما أصطلح على تسميته “الانفتاح الاقتصادي” أي الرأسمالية نظاماً للدولة المصرية، إلا وانطلقت موجة الركوع والتطبيع وعولمة الاقتصاد.

موجة وطني أولا

عندما قامت “جبهة الصمود والتصدي” بقطع علاقاتها مع مصر وطردها من الجامعة العربية، اطلق نظام الرئيس السادات مقولة “مصر أولا”، وبعدما فشلت جبهة “الصمود والتصدي” في الصمود والتصدي، إلا وسمعنا الأردن أولا، ثم المغرب أولا، وأصبحت كل الدول “أولا” .. فترنحت العروبة بعدها

موجة حرب العراق

عندما هاجم العراق دولة الكويت أعلنت الولايات المتحدة الحرب ضد العراق ـ وهنا لا نريد أن نناقش مرحلة الحرب، ما يعنينا هو موضوع “ركوب الموجة” .. فلقد رصدت دول الخليج أموالا باهظة للدفاع عن الكويت وهنا ركبت الأنظمة ركوباً، فالجيش السوري والمصري والسوداني والمغربي والأردني وغيرهم شاركوا جميعاً في حرب ضد الجيش العراقي !! حدث هذا رغم وجود اتفاقية دفاع مشترك بين معظم هذه الدول، وماتت العروبة بعدها.

موجة أسلمة النظم

بعد أن مات شعار العروبة ـ أصبح منطقيا أن يكون هناك شعار آخر لجذب “الرعايا”، فهبط علينا شعار “الإسلام هو الحل”، وهنا نقول الإسلام كسياسة وليس كمعتقد .. لم يقل أحدا منهم كيف نحل المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والبيئية وكيف نواجه العولمة. وأصبحنا نسمع ألقابا لم نعهدها من قبل .. من الرئيس المؤمن حتى خادم الحرمين. وأصبح من أهم أعمال الرئيس أو الملك ” صلاة الجمعة المتلفزة”.

موجة الحرب على الإرهاب

ما أن دخلت الولايات المتحدة عصر الحرب على الإرهاب، إلا وسمعنا دولا، نعرف موقفها، تعلن الحرب عليه. ودخلنا العصر الجديد فسنت القوانين العرفية وتم شراء السلاح الأمريكي لمحاربة الإرهاب، وبناء علية أصبح كل معارض للدولة إرهابيا. وشيدت السجون لتناسب العصر، عصر حقوق الإنسان .. لكن أي إنسان؟

الجالية العربية في برلين في الموجة أيضاً

منذ فترة ليست بالطويلة كان الحصول على كتاب باللغة العربية أمرا صعبا، الآن أصبحت الكتب متوفرة في كل ألمانيا، نظرا لقدوم الجالية السورية بأعداد كبيرة. منذ شهور بادرت احدى المؤسسات بعمل معرضا ضخما لبيع الكتب. فأقامت مؤسسة أخرى معرضا أيضا، لم لا .. السؤال هنا .. هل بيع الكتب من أنواع الثقافة ؟

هذه الموجة تذكرني بموجة تأسيس جاليات ثقافية في التسعينيات، ثم موجة جمعيات ومراكز المساعدة في الاندماج ثم أخيرا مركز وجمعيات مساعدة اللاجئين. بالمناسبة تحية وتعظيم سلام للمواطنين السوريين “الجدد”، الذين أحيوا الثقافة العربية وجعلوها منظورة في المجتمع، رغم قليل من السلبيات.

.