صراع بين إيطاليا وفرنسا : معركة النفوذ في ليبيا وحقول النفط

 

إبراهيم بدوي

 

تدور حربٌ حامية الوطيس ما بين الجارين الأوروبيين على النفوذ في ليبيا، وقد كانت تصريحات وزيرة الدفاع الإيطالية إليزابيتا ترينتا قاطعةً بهذا الشأن، إذ وجّهت تحذيراتها لنظيرتها الفرنسية فلورنس بارلي من التدخل في الشأن الليبي، وقالت بصريح العبارة كما نقلت صحيفة الجورنال الإيطالية: «لنكن واضحين، القيادة في ليبيا لنا».

 

بالنسبة لإيطاليا فإن ليبيا تُعتبر أبرز ما تبقى من نفوذ ما قبل الحرب العالمية الثانية، وبوابتها إلى أفريقيا، ومحطًا أخيرًا للمهاجرين غير الشرعيين قبل ركوبهم البحر المتوسط، وكنزًا بعيد الأمد، ليس سهلًا أن تخسره أو تُفاوض عليه.

 

الإمبراطورية.. حُلم ماكرون

حجزت فرنسا بعد الخروج البريطاني مكانها في القمرة الأوروبية للقيادة، مشاركةً برلين ومتحمّلةً معها العبء الأوروبي. يرى ماكرون نفسه «ملِكًا» على فرنسا، ورغم أن تقارير إعلامية لا تمل من وصفه بهذا الأمر، إلّا أنّه لا يمتعض ولا يتحمل حتى عناء نفي التهمة عنه، ويزيد في الشعر بيتًا فنجده في كتاب «ماكرون لأجل ماكرون»، الذي يحاور فيه الصحفي إيريك فوتوإرينو الرئيس الفرنسيّ حول وجهات نظره في الفلسفة والسياسة والهجرة وأوروبا والعديد من القضايا الأخرى، ويأتي الحديث حول الثورة الفرنسية، فيقول إن فرنسا لا تزال تترنح من آثار الثورة الفرنسية، وأن الديمقراطية الفرنسية دائمًا ما تبدو غير كاملة؛ إذ يوجد بها بعض الفراغ، هذا الفراغ هو وجود ملك.

يتعامل ماكرون في الداخل والخارج على هذا النسق، ولا يتورّع عن الاستهزاء برؤساء مستعمرات بلاده السابقة، ولا تتوه عن الذاكرة سخريته الشهيرة من رئيس بوركينا فاسو في عقر داره، نوفمبر (تشرين الثاني) من العام الماضي، 2017.

دخل ماكرون في صدام مفتوح مع رئيس أركان جيش بلاده السابق، بيير دو فيلييه، إذ أبلغ الأخير لجنة برلمانيةً اعتراضه على قرار الرئيس بخفض موازنة الدفاع، وهو ما رآه دو فيلييه لا يلبي طموحات الجيش الفرنسي ليحافظ على مكانته الدولية. جاء ردّ ماكرون عنيفًا وصارمًا، موضّحًا أنه في حال اختلفت إرادة الرئيس مع إرادة قائدٍ في الجيش، فعلى هذا القائد أن يرحل احترامًا لنظام الجمهورية الفرنسية وتسلسل القيادة المعمول به وفقًا للدستور، وبالفعل استقال رئيس الأركان يوليو من العام الماضي.

 

تطلّع ماكرون لإعادة الدبلوماسية الفرنسية إلى عصرها الذهبي، كما كانت في عهدي شارل ديجول وفرانسوا ميتران، لكنه -رغم طموحاته الكبيرة- فهو يدرك حجم بلاده العسكري والاقتصادي في اللحظة الراهنة، وأنه لن يكون بالإمكان مجابهة العملاقين، الولايات المتحدة الأمريكية ونظيرتها روسيا، لذا نجده يحسن اختيار الصيد، وتغطّي المنظمات الدولية ظهره في كل صولة أو جولة.

 

من الطبيعي إذن أن يكون الشرق الأوسط وجهته الأولى، وليبدأ بأضعف حلقاتها: الليبية والسورية.

 

من يعزف على وتر الفُرقة يربح

لم يكن خفيًا الدعم الفرنسي للجيش الليبي بقيادة خليفة حفتر للسيطرة على مدينة بنغازي، وطرد المقاتلين الإسلاميين والمحسوبين على ثورة فبراير (شباط) 2011. استمرّت المعارك ثلاث سنوات (2014 – 2017) لكنها بدعم مصري – إماراتي- فرنسي حُسمت لصالح الجنرال الليبي، أو كما تسميه الصحافة الأوروبية «الرجل القويّ».

ولأن الدعم الفرنسي استتر في عهد الرئيس السابق هولاند خلف العباءة المصرية الإماراتية الداعمة علانيةً للجنرال الليبي، كانت لحظة الحقيقة – فيما يتعلق بالدور الفرنسي- عندما أعلن الجيش الفرنسي في التاسع عشر من يونيو (حزيران) 2016 مقتل ثلاثة ضباط صف من جنوده غربي مدينة بنغازي، حينها اضطرت فرنسا للاعتراف بإيفادها فرقًا من القوات الخاصة الفرنسية إلى ليبيا لدعم الجيش الليبي في مواجهة «المتطرفين» الإسلاميين، كما أسمتهم.

 

منذ ذلك الحين والدعم الفرنسي لحفتر واضحٌ ومعلن، في وقت تنال فيه حكومة الوفاق الوطني في طرابلس بزعامة فائز السرّاج الدعم والاعتراف الدوليين، ثم في يوليو من العام الماضي، قرّرت فرنسا الدفع باتجاه التسوية السلمية بين طرفي النزاع الأكبر في ليبيا، بعدما بات الرجل القوي في مأمن من جيوب المعارضة الإسلامية شرقي البلاد، وفي موقف يوفّر له من القوة ما يساعد على الجلوس إلى طاولة المفاوضات.

 

دعت باريس إلى اجتماع في مدينة لاسيل سان كلو، جمع بين قائد حكومة طرابلس، صاحب الاعتراف الدولي، فائز السراج وبين الجنرال حفتر، قائد الجيش الليبي وصاحب النفوذ والقوة على الأرض، وكان الاجتماع هو بداية الاهتمام الدولي وما يمكن أن تُعتبر شرعية دولية لقائد الجيش الليبي خليفة حفتر، بعدما كانت تقدّمه دولة الإمارات وحدها على طاولة المفاوضات، الآن قدمته فرنسا، الدولة العضو في الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، وصاحبة الفيتو في مجلس الأمن.

 

صحيح أن مخرجات هذا الاتفاق، المتمثلة في وقف الأعمال القتالية وإقرار الحلّ السلمي للنزاع حلًا أوحد، لم تَرَ النور، إلا أنها مهّدت للقاءات متتابعة كان آخرها في مايو (آيار) الماضي، والذي مهّد للانتخابات الليبية المزمع عقدها ديسمبر (كانون الأول) القادم.

 

إزاء هذه الخطوات التي خطاها ماكرون منفردًا، كانت الجارة إيطاليا تشعر بتقويض نفوذها في ليبيا، المستعمرة التاريخية، التي لطالما تابعت هي شؤونها الداخلية، واستفادت من مقدّراتها الثمينة، وكان رد الفعل الأول إزاء التحرك الفرنسي واضحًا، إذ ارتأت روما أن التحرك الفرنسي يهدف لمنح الشرعية إلى الجنرال خليفة حفتر.

 

وبينما كانت فرنسا تبسط يد العون لقوات حفتر في الشرق (بنغازي)، كانت إيطاليا في سبتمبر (أيلول) من العام 2016 تؤسّس في طرابلس غرفة عمليات أمنية مشتركة بالتوافق مع حكومة السراج، تضمّ خبراء من الاستخبارات ووزارتي الأمن والدفاع الإيطالية، ثم في العام التالي، وتحديدًا في أغسطس (آب) 2017 وافق مجلس النواب الإيطالي على إرسال السفن الإيطالية الحربية إلى ليبيا في إطار الجهود الرامية للحد من الهجرة غير الشرعية، التي تكون ليبيا بوابتها الرئيسية إلى السواحل الإيطالية، وبينما اخترقت إحدى السفن الإيطالية الحدود البحرية لليبيا حتى هدد الجنرال حفتر بالتعرّض لها؛ أعلنت إيطاليا تفاهمها حول العمليات العسكرية التدريبية مع الحكومة المعترف بها دوليًا في طرابلس.

 

من المؤكد أن «الرجل القويّ» ضم فرنسا الوافد الجديد إلى الساحة الليبية لأنه لا يريد روما صاحبة النفوذ التاريخي، إذا هي حربٌ بالوكالة بين فرنسا وإيطاليا، أدواتها ليبية وتدار على كامل التراب الليبي.

فهل ينتفض من أجل سيادة ليبيا على أراضيها،  وهو يعلم من يقف معه في معركته ومن ليس معه؟

وهل يعلم كيف ومتى يتخلص من النفوذ الخارجي في سبيل وحدة البلاد ولحمتها؟

الأيام القادمة حبلى بالأحداث الجثام في كل المنطقة العربية والشرق الأوسط !!