قراءة سريعة في حروب ما بعد الحرب العالميّة الثّانية وتواقيتها المريبة

م. فتحي الحبوبي /

بعيدا عن التأريخ العلمي للحروب، يلحظ المتابع للأحداث السياسيّة الكبرى وما يترتّب عنها من توتّرات تصل حدّ إستعمال القوّة العسكريّة، كبديل حتمي و حاسم لفضّ الإشكاليات التي لم يتسنّ الحسم فيها في الزمان والمكان المناسبين، يلحظ أنّ العالم يخوض منذ سبعة عقود، حروبه الدمويّة القذرة، حربا إثر حرب، وفق تواقيت مريبة تثير الإستغراب، وبنسق سريع يبعث على التساؤل والحيرة والخوف من المجهول.

فبين كل حرب وحرب نسجّل حربا جديدة – وربّما إثنتين كما سيأتي- تكون في الأغلب الأعمّ أكثر قذارة وكلفة في الارواح البشريّة من سابقتها نظرا للتقدّم الذي تسجّله الصناعة الحربيّة في فترة ما بين الحربين.

والمفارقة الصارخة التي نسجّلها في هذا الصدد أنّه رغم بعث منظّمة الأمم المتّحدة كترجمان لتطلّع العالم الحرّ وغير الحرّ على حدّ السواء إلى السّلام العالمي الدّائم تجنّبا لأهوال الحروب وأوجاعها ومآسيها، فإنّ رياح الحروب التي طبخت في مختبرات الدوائر الإستخبارتيّة ومراكز دراسات السياسات الإستراتيجيّة لقوى الاستكبار العالميّة المصنّعة للأسلحة جرت “بما لا تشتهي سفن” المنتظم الأممي. إذ لم تمض إلاّ سنة واحدة وشهور قليلة على انتهاء الحرب العالميّة الثانية، حتّى ظهرت في نهاية (1946) إرهاصات أولى الحروب التي عقبتها، وهي حرب فيتنام التي اشتعلت أوارها لاحقا لتستمرّ إلى منتصف سبعينات القرن الخالي (9 مارس 1975 )، حين انسحبت قوات الولايات المتحدة الأمريكيّة منهزمة ومكسورة الخاطر- كما فعلت فرنسا من قبلها- على الرغم ممّا اتسمت به ممارسات الجيش الأمريكي من بشاعة و فظاعة ووحشيّة حيال المواطنين الفيتناميين العزّل.

ثمّ لم يكد يمضي أكثر من شهر واحد على خمود الحرب الفيتناميّة، حتّى اندلعت أطول حروب القرن العشرين، وهي الحرب الأهليّة اللبنانيّة، في (13أبريل1975 ) لتتواصل على مدى أكثر من 15 سنة وتنتهي في (13 أكتوبر1990 ).

وقد كانت نتاجا لصراع دموي، أفرزه تضارب المصالح، ليس فقط بين كل الطوائف والإثنيات المكوّنة للنسيج الديموغرافي اللبناني المتنوّع، بل وكذلك بين أطراف خارجيّة، هي الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، إضافة إلى إسرائيل وسوريا و إيران والفلسطينيين لتعزيز مواقعهم في هذا البلد. بما يعني أنّ هذه الحرب، لم تكن حرب اللبنانيين فيما بينهم وحسب، بل أنّها كانت أيضا حرب الآخرين على أرض لبنان.

اللّافت للإنتباه، في هذا الصدد، والذي يستوجب عدم المرور عليه مرور الكرام ، بل الوقوف عنده والتشديد على أهميته، لاستخلاص دلالاته، هو أنّ بين قيام حرب فيتنام والحرب اللبنانيّة (1975-1990)، كان العالم قد شهد، بالإضافة إلى التدخّل السوفيتي السافر في أفغانستان في نهاية (1979)- المتزامن تقريبا مع انتصار الثورة الإسلاميّة الإيرانيّة وفي ذلك أكثر من دلالة- والذي تواصل لأكثر من عشر سنوات، شهد قيام حرب أخرى غيّرت جذريّا موازين القوى في الشرق الأوسط، و لا تزال تبعاتها الجغراسياسيّة وآثارها الكارثيّة على شعوب المنطقة، بل و على كافة الشعوب العربيّة دون استثناء ماثلة أمامنا بوضوح وجلاء إلى اليوم.

إنّها حرب أو نكسة (1967) التي اشتهرت بحرب الأيام الستّة. وهي حرب نشبت بين إسرائيل وكل من مصر وسوريا والأردن، و أدّت كما هو معلوم، إلى احتلال إسرائيل لسيناء وقطاع غزّة والضفّة الغربيّة والجولان السوريّة. بما يعني بالضرورة مزيد تعقيد القضيّة الفلسطينيّة باستفحال توطين الصهاينة وتقوية نفوذ الكيان الصهيوني السرطاني “المسخ” في المنطقة العربيّة التي طالتها شظايا الحرب.

أمّا حرب الخليج الثانية أو عمليّة عاصفة الصحراء، وهي حرب قصيرة في الزمن لهزيمة الجيش العراقي بالكويت، فمن مهازل القرارات، المتسرّعة وذات العلاقة، للجامعة العربيّة أن باركت مشاركة بعض الدول العربيّة في الحرب على العراق ضمن قوات التحالف المتكوّنة من 34 دولة بقيادة الولايات المتحدة الأمريكيّة فيما بين (17 يناير و 28 فبراير1991) ، أي بعد 3 اشهر فقط من إنتهاء الحرب اللبنانيّة.

و لكن ما إن خمدت حرب الخليج الثانية حتّى عقبتها مباشرة بعد أقل من شهر حرب يوغسلافيا، التي اندلعت بحرب البوسنة والهرسك في مارس 1991، لتنتهي بحرب كوسوفو التي خمدت نارها في (21 يونيو 1999). وكان من نتائج هذه الحرب، تفكيك الاتحاد اليوغسلافي وتقسيمه إلى جمهوريات مستقلّة ليس لها وزن سياسي ولا دور يذكر كلاعب وفاعل مهمّ في الساحة الدولية بمثل ما كانت عليه جمهوريّة يوغسلافيا الاشتراكيّة قبل الحرب، ولاسيما عندما كان يرأسها الماريشال تيتو الذي كان له الفضل الأكبر في توحيدها.

واللّافت للانتباه، مرّة أخرى، هو أنّ بين قيام الحرب اللبنانيّة 1975 و كلّ من حرب الخليج الثانية والحرب اليوغسلافيّة1991، كان العالم قد سجّل قيام حرب جديدة، هي الحرب العراقيّة الإيرانيّة أو حرب الخليج الأولى. وقد اندلعت شراراتها في سبتمبر1980، وعرفت قي العراق بقادسيّة صدّام فيما عرفت في إيران باسم الدفاع المقدّس. وهي الحرب التي نشبت فيما بين سنتي (1980-1988) وكانت، دون جدال، أكثر الصراعات العسكريّة دمويّة. كما أنّها شكّلت، بالتأكيد، أطول نزاع عسكري بين دولتين في القرن العشرين- إذا ما استثنينا الحرب الأهليّة اللبنانيّة التي كانت أطرافها مرتبطة بأكثر من دولتين – ذلك أنّ الحرب العراقيّة الإيرانيّة قد امتدت على مدى ثماني سنوات وخلّفت نحو مليون قتيل. وكان من تداعياتها المباشرة قيام كلّ من حرب الخليج الثانية التي تواطأ فيها بعض العرب، وحرب الخليج الثالثة التي أسقطت صدّام حسين.

ولم يهدأ العالم من نار الحروب ويستعدّ أنفاسه لبعض الوقت، إلّا ما بين أواخر يونيو1999 والأسبوع الأوّل من أكتوبر2001 ، حيث دقّت طبول الحرب على أفغانستان، كردّة فعل على هجمات 11 سبتمبر التي تبنّتها القاعدة المصنّفة كتنظيم إرهابي.

وهي حرب قادتها جيوش الثنائي الأمريكي البريطاني على أفغانستان الذي كانت قد أنهكته طالبان والقاعدة قبل ذلك وأعادته إلى نمط عيش القرون الوسطى. و كان من بين الأهداف المعلنة لهذه الحرب، القضاء على تنظيم القاعدة وزعيمه وعلى نظام طالبان.

ما يجدر التذكير به ، هو أنّه بالتوازي مع خوض غمار الحرب الأفغانية، كانت أمريكا وبريطانيا تستعدّان على قدم وساق لشن الحرب على العراق بحجة امتلاكه لأسلحة الدمار الشامل. وهو ما أدّى لاحقا إلى اندلاع حرب الخليج الثالثة، أو بالأحرى احتلال العراق عسكريّا من قبل الولايات المتحدة الأمريكيّة وبعض الدول المتحالفة معها وخاصة منها بريطانيا وأستراليا. وقد أمتدّ أوار نار الحرب و الاحتلال فيما بين (20 مارس 2003) و ( 15 ديسمبر 2011). لكنّ آثارها المدمّرة ومآسيها التي لا تحصى ولا تعدّ على أفراد الشعب العراقي الأشاوس، لا تزال ماثلة أمامنا اليوم و ستمتدّ – للأسف- الى عقود أخرى وربّما الى قرون. فقد كانت هذه الحرب كارثيّة بقوّة الزلزال الذي قوّض أركان و توازن العراق العظيم ، في تجاهل تام لدوره التاريخي في بناء الحضارات الإنسانية منذ فجر التاريخ. كما أنّها قوّضت المعادلات السياسية لكل منطقة الشرق الأوسط، بل ودول العالم قاطبة. وما انتشار الإرهاب السلفي الذي بات يضرب بقوّة هنا وهناك في كل بلاد العالم، وبروز داعش كتنظيم إرهابي إلى الوجود، إلّا نتاج من نتاجات الاحتلال الأمريكي الهمجي للعراق.

في أواخر سنة 2010 ومطلع2011، وكان الاحتلال الأمريكي لا يزال جاثما على العراق، انطلقت من تونس شرارة ما سمّي- تفاؤلا واستبشارا- بثورات الربيع العربي، لتخترق الحدود وتنتشر سريعاً في ربوع الوطن العربي وتقرع أبواب أنظمة عربية حديديّة، كانت موصدة لعقود خلت. فتبلغ رياحها العاتية كلّ من مصرفي 25 يناير واليمن في 11فبراير (وهو ذات اليوم الذي سقط فيه نظام حسني مبارك) وليبيا في 17 فبراير ثم ّسوريا في15 مارس. ولئن ظلّت ثورتي تونس ومصر سلميتين، ونجحتا رغم المعوقات الداخليّة والخارجيّة، في إسقاط النظامين البوليسيين، التونسي والمصري، فإنّ الثورات في غيرهما، رغم تفكيكها لللبنية الدّاخليّة لأنظمتها، فإنّها سُرعان ما انتكست و تحوّلت إلى ثورات مسلّحة في ليبيا واليمن وسوريا لا تزال أطوارها جارية إلى اليوم. لا بل إنّ ليبيا وبصفة أخصّ سوريا تعيش حربا ضروسا منذ أربع سنوات أتت على الأخضر واليابس وتخلّف كل يوم دمارا هائلا وضحايا بالمئات ومهجّرين بالآلاف يتحوّلون قسرا إلى لاجئين داخل سوريا أو خارجها. وهي حرب لا يخوضها السوريون وحسب ضدّ نظامهم، بل يخوضها، بالوكالة، إمّا انتصارا لهم أو انتصارا للنظام، كلّ من السعوديّة وقطر وتركيا وحزب الله وإيران في ظل الصراع الشيعي السنّي بهدف الهيمنة الإقليمية. وللغرض ذاته فقد أنضمّت أخيرا إلى الصراع العسكري المباشر كلّ من روسيا وفرنسا وبريطانيا. بما يعني أنّ هذه الحرب باتت هي الأخرى حرب الآخرين على الأرض السوريّة . ما جعلها أكثر الثورات والحروب دموية ودمارا في القرن الواحد والعشرين.

غير أنّ ما يقتضي منّا الإشارة إليه في نهاية التحليل، هو أن أنساق هذه الحروب وتواقيت اندلاعها وتوزيعها الجغرافي غير بريء. وهو موجّه بالتحديد ضدّ الأمّة العربيّة رغم ما تعانيه من اهتزازات و اضطرابات وتحوّلات عميقة.

حيث أنّ جميع هذه الحروب، باستثناء حربي فيتنام وأفغانستان، كانت إمّا أنّها قد وقعت في مناطق عربيّة أو كانت بعض الدول العربيّة طرفا من أطرافها المتنازعة كالحرب العربية الإسرائيليّة أو الحرب العراقيّة الإيرانيّة.

ليس هذا فقط، بل يضاف إلى ذلك، العدوان الاسرائيلي الوحشي المتكرر على قطاع غزة واستهداف المدنيين سنوات ( 2008 -2012- و 2014)، والحرب الاسرائيلية على لبنان سنة ( 2006) . وهي الحروب التي تعمّدّت عدم الخوض في تفاصيلها لارتباطها الوثيق بالقضيّة الفلسطينيّة، التي هي القضيّة المركزيّة للعرب، والتي تراجع الاهتمام بها وأصبحت جانبيّة جرّاء التداعيات السياسيّة الأليمة للثورات العربيّة.

وبداهة، فإنّ هذه المعطيات تعزّز موقف الذين يعزون قيام هذه الحروب إلى نظريّة المؤامرة فحسب، دون محاولة نقد السياسات العربيّة التسلّطيّة المتخلّفة وغير الديمقراطيّة، حتّى ولو أدّى ذلك، في أقصى الحالات، إلى شكل من أشكال جلد الذات في رفق، لأجل إعادة الوعي الغائب للعرب، حكّاما ونخبا مثقّفة. لأنّ كلّ مآسي الشعوب و الدول العربيّة إنّما مردّها كذلك وبدرجة كبيرة إلى هؤلاء الحكّام والنخب المنبطحة لهم بذلّة مهينة لها ولدرجاتها العلميّة.

وبعد كل ذلك تأتي الحرب الروسية الأوكرانية لتعيد المواجع العالمية جراء الحروب !!

وخلاصة القول في نهاية التحليل، أنّ التاريخ صيرورة لا نهاية لها وله، وهو لا يعيد نفسه كما يشاع. لأنّ مساره يتشكّل وفق خطّ مستقيم وليس وفق خطّ دائري يسمح بالعودة إلى نقطة البداية. إنّه يتوقّف عند محطّات مهمّة دون المكوث فيها طويلا، ثمّ يرنو على عجل إلى المحطّة القادمة التي تختلف جوهريّا عن سابقاتها.

بهذا المعنى لم ينته التاريخ عند هيغل ولم ينته بنهاية تاريخ الاضطهاد الإنساني ولا بنهاية الحرب الباردة وغياب تأثير الفكر الإيديولوجي وانتشار الليبرالية وقيم الديمقراطية الغربية، ولا بحلول الحضارات محلّ الدول في لعب الأدوار السياسيّة الأساسيّة. كما أنّه سوف لن يتوقّف بالتأكيد عند زعامة الشعوب للثورات بدلا من الزعامات الفكريّة والميدانيّة التي كانت سائدة في الماضي. لأنّ حقيقة نهاية التاريخ ينطبق عليها أيضا ما ذهب إليه هيغل في كتابه “تجسّد الروح” من أنّ التاريخ شيء حيّ و طبيعة كل شيء حيّ، هي دوام التغير والتبدّل.

.