في حضرةِ رهين المَحابس: أبي العلاء المعري

موسى  الزعيم

كان عليّ أن أعلّق دهشتي ولو إلى حين وأنا أستدعي الصورة المحفورة في ذاكرتي عن مدينة أحببتها، الآن وبعد أكثر من عشر سنوات من الغياب، أقف في هذا الشارع الطويل، وسط معرة النعمان التي تبعد حوالي 80 كيلو عن حلب، وتفصلها مسافة 300 كيلو متر عن العاصمة دمشق، و60 كيلو مترا عن حماة وسط سوريا و تتبع إداريا لمحافظة ادلب وهي ثاني أكبر مدنها.

في المعرّة، كما يسمّيها السكان المحلّيون اختصاراً، أعبر الشارع الطويل ” شارع أبي العلاء المعري” صعوداً نحو الغرب، عن يميني دار الحكومة والمتحف وبقايا قاعدة تمثال المعريّ عن جهة الشمال..

لا صوت يعلو فوق صوت الدمار والخراب، وكأن المعرة صارت إحدى المدن المنسية في الشمال السوري، مثلها مثل الكثير من المدن والقرى التي انتفضت على النظام فدمّرها انتقاماً.

انعطف نحو المتحف ” خان أسعد باشا” أقفُ أمامَ بابهِ الكبير، وكأني اليوم؛ في الماضي ألقي التحية على ” كامل شحادة” الرجل الذي أفنى حياته في خدمة آثار الشمال السوري وأسس متحف المعرة  حتى صار من اهم متاحف  الفسيفساء الطبيعية في العالم وغدا مقصداً  للزوار للباحثين، وغدا الرجل رفيقاً للبعثات الأثرية يتقن الفرنسية وفي جعبته  الكثير من الأبحاث والدراسات النادرة عن المدن المنسية.

لا أحدَ يردّ تحيتي وللركام وجههُ القبيح، أسطح البيوت المهشمة التي سرق حديدها  الجدران التي تستند إلى بعضها بوهن خالية من الأبواب والنوافذ عيون فارغة تراقب العابرين رغم قلتهم.

أكمل طريقي صعوداً في السوق  المُسمى ” البازار” بعض الباعة يفترشون وسط الشارع، جميع المحلات التجارية على الجانين انهارت بالكامل أكمل طريقي  نحو مفرق سوق القصابين، فسوق الصاغة  متجها نحو “ساحة الجّاج ” فالسوق القديم على طرف الجامع الكبير كل شيء محروق ومدّمر، غدت المعرة القديمة كومة من حجارة وتراب متراكم.

أعود إلى شارع  أبي العلاء المعري، قبل نها يته أصل ضريح شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء، أقفُ أمامَ  البناء ذي القنطرة العالية، أشهق  في دهشة، ثم أشقّ طريقي بين بسطات الخضار على  الباب، صياح  بائع  ” العقابية الخضراء” العالي يوقظ الحياة من ثباتها، وكأنه يؤذن في الناس؛ تعالوا، عودوا إلى بيوتكم، لقد رحل الطاغية.

رغم قلّة رواد السوق ممن جاؤوا من المخيمات البعيدة يتفقدون بقايا بيتوهم أو ينشدون حياة جديدة.

أعبر الباب الكبير باب المركز الثقافي القديم، أسمعُ المعريّ ينادي بي من عمق التراب انتبه، تمهّل..

خَفِّفِ الْوَطْءَ مَا أَظُنُّ أَدِيمَ الْـ   أَرْضِ إِلَّا مِنْ هَذِهِ الْأَجْسَادِ

 نعم، يعرفُ شيخ المعرّة أنّ ما قدّمته بلدته من شهداء من أجل الحريّة الكثير، من خيرة شبابها، امتزجتْ أجسادهم بترابها، إذ تذكرُ كتب التاريخ أنّ المعرة أُحرقت عدّة مرات عبر التاريخ حتى استحالت تربتها في الأحياء القديمة إلى سوداء من تراكم الرماد.

وأهتف له ها قد جئتك يا شيخ المعرة بعد غياب فمثلك من عبرت أفكاره الحدود حتى وصلت أرجاء العالم، ومثلك لا ينساها  الزمن.   

وَقَبِيحٌ بِنَا وَإِنْ قَدُمَ الْعَهْـدُ       هَوَانُ الْآبَاءِ وَالْأَجْدَادِ

كان قدركَ دائماً أن تكون ضحيّة الأضداد التي تصارعت ومازالت تتصارع فوق رأسك ثم مروا وقد ركبوا متن الغواية وأغلقوا باب العقل والمنطق، والحرب لا تعرف  عقلاً أو المنطق.

علمتنا أنّ العقل وحده طريقنا إلى النور والحرب تعشقُ العتمة وكذلك الطاغية.

ألتفتُ حولي نسمات الهواء تلاعبُ أكياس النايلون والقمامة، شجرتا السرو كبرتا صارتا أطول، شاهدتان على قسوة المرحلة تؤنسان القبر في أيام الخوف والوحشة، محظوظتان وقد نجتا من قذيفةٍ حاقدةٍ أو منشار جندي أخرق.

على طرف الجدار الغربي عرّشت دالية العنب دون أن تمتدّ إليها يد لتلّقم أغصانها.

تحتها، ضريحان أو ربما ثلاثة، قيل: أنّ أحدهما لأمّ المعريّ والثاني لأحد تلامذته.

أقفُ في رهبة وجلال عند رأس شاعري الجليل، أقرأُ الفاتحة، ثم انحني، أحاولُ إعادة الشاهدةِ المحطّمة إلى مكانها، أحاول وتركيبَ قطع السّور حول القبر وقد حطمته قذيفة و ربما يد جاهل حاقد عبثت به، أحاولُ  تجميع حروفَ بيتي الشعر المنحوت على حجارة السور وقد تناثرت وتبعثرت أشلاء.

أقف أمام الجدار، خلف الضريح وكأنه يعلّق دهشته في الفراغ، بعد أن سُرقت الشبابيك المعدنية الأثرية ولم يسلم كذلك الباب.

ولو أنّ للوحة الرخام البيضاء المعلقة فوق قنطرة الباب والتي كتب عليها ” هذا ما جناه أبي عليّ وما جنيت على أحد ” لساناً لحكت عن هول ما مرّ، وكيف نجت من يد ” معفّش لص”.

أخطو نحو الداخل باتجاه قاعة المُطالعة، كنت قبل سنوات على منبرها مع مجموعة  الشعراء و الكتاب، قبل الحرب كانت هنا مكتبة ضخمة و خزائن كتب أنيقة ذات ألوان  داكنة.

من جديد يخنقني الفراغ والصدى، لا شيء في القاعةِ سوى الغبار وآثار الشظايا على الجدران في كل مكان.

أحاول استعادة رائحة الكتب، أعيد تركيب الصورة في رأسي، لكن كل ما في المكان بوحي بأن يد الموت مرت من هنا.

أخرج أقف في البهو الكبير أمام الضريح أجيل نظري في المكان على بعد أمتار قليلة سقط برميل متفجّر دمّر الأبنية المُحيطة، الطوابق تراكمت فوق بعضها آيلة للسقوط.

ألتفتُ إليكَ وأنا أهمّ بالخروج مناديا ً

” يا شيخي الجليل مذُ كنتُ يافعاً كان يراودني السؤال:  لماذا يُخفي  الناس عنّا سجنك الثالث، فيطلقون عليك لقب “رهين المحبسين” رغم أنّها ثلاثة، كما قلت أنت ؟

أراني في الثَلاثَةِ مِن سُجوني      فَلا تَسأَل عَنِ الخَبَرِ النَبيثِ

لِفَقدِيَ ناظِري وَلُزومِ بَيتي       وَكَونِ النَفسِ في الجَسَدِ الخَبيث

ورغم كلّ المحابس والسجون والحرب مازالت أفكارك تنير العالم وتثير الجدل حتى طاف بك رواد العقل من كلّ حدب وصوب..

يروي لي صديقي عبد الخالق سرجاوي مدير المركز الثقافي في المعرّة، أن المكتبة التي كانت هنا هديّة من الحكومة المصريّة، أيام الوحدة بين سوريا ومصر، حين تحول الضريح من “مسجدٍ” إلى مركز ثقافيّ، حينها أهدت حكومة الوحدة ممثلة بوزارة المعارف ثلاثة آلاف كتاب، من أمّهات كتب التراث، منها بعض المخطوطات النادرة، ومجموعة كتب في الطبّ لابن سينا طُبعت بالخطّ النافر في روما عام 1916   وقد ُختم على غلافها ” هديّة وزارة المعارف المصريّة في حكومة الوحدة” 

بالإضافة إلى أربعة خزانات كُتب على كلّ واحدةٍ منها بيت من الشعر للمعريّ  

يرتجي الناس أن يقومَ إمام ناطقٌ في الكتيبةِ الخرساء

كذبَ الظنّ لا إمام سوى العقل مشيراً في صبحه والمساء

يقول السرجاوي في حسرة للأسف لا نعلم أين صارت تلك الكتب.

بني ضريح  المعري في ثلاثينيات القرن الماضي وبداية الأربعينيات على مساحة تقدّر بـ 500 متر مربع  وهو مكان إقامة أبي العلاء المعري وبيته، حيثُ أوصى أن يُدفن فيه ويكتب على قبره  البيت المعروف

هذا ما جناهُ أبي عليّ وما جنيتُ على أحد

في البداية، اعترض سكان المعرة على خطّة الحكومة الفرنسية بناء الضريح على شكل كنيسة، فتحول البناء إلى مسجد، لكن بسبب أفكار الرجل “الإشكالية”  قلّ رواد المسجد، فتحوّل أيام الوحدة مركز ثقافي ومزاراً تحجّ إليه جموع المثقفين من كلّ أرجاء المعمورة.

وكذلك في عام  1934 طبعت الحكومة طوابع بريدية عليها صورة أبي العلاء تخليدا له.

يروي السرجاوي أنّ أوّل مهرجانٍ ثقافيّ أقيم باسم “مهرجان أبي العلاء المعري” بمناسبة مرور ألف عام على ولادته في 25 أيلول عام 1944  في دمشق  وقد افتتحه رئيس الجمهورية آنذاك الرئيس شكري القوتلي ومن بين الشخصيات الفكريّة التي حضرت ذلك المهرجان الدكتور طه حسين وعبد القادر المازني وأحمد أمين وغيرهم  من مصر والشاعر ومحمد مهدي الجواهري من العراق ووفود من العراق ولبنان و الأردن وفلسطين وإيران وفرنسا وانكلترا، استمرت الفعاليات أسبوعاً كاملاً في دمشق وحلب ومعرة النعمان  أكدت البحوث والدراسات يومها على عالمية فكر الرجل وشموليته.  

للأسف، يعلّق السرجاوي: فقدنا الكثير من الوثائق حول فعاليات ذلك المهرجان.

ومع انطلاق مهرجان أبي العلاء تأسست لجنه في المدينة سميت باللجنة “العلائية”  تضمّ نُخبه من مثقفي المدينة من المهتمين بتراث ونتاج شاعرهم، مهمة هذه اللجنة التطوعية حمايه إرث ابن بلدتهم، فهم يحفظون أشعاره، يحرصون على الروايات الموثوقة، والطبعات المنقّحة، يتواصلون مع الفعاليات الشعبية من أجل إظهار جمال مدينته التي تضم بالإضافة إلى شاعرهم الكثير من المعالم الاثرية مثل السوق الشعبي وخان أسعد باشا والقلعة الأثرية والجامع الكبير.

مازلت أذكرُ جزءاً من حوارات هذه اللجنة والتي كانت تطرح على هامش كلّ أمسية أو محاضرة.

مثل هل كان المعريّ مُبصراً في طفولته؟ وفي أيّ سنة أُصيب بالجُدري؟ هل تأثّر دانتي الإيطالي بفلسفة المعريّ، وهل قرأ رسالة الغفران  قبل أن يكتب الكوميديا الإلهية؟!

أمّا علاقة المعرّي باللون ،عن دقّة معرفته بالألوان والتي يستند فيها إلى ذاكرته الطفولية وحدّة بصره وبصيرته يتغنّي الحضور بقوله في وصفه لون نجم سهيل:

وسُهَيْلٌ كوَجْنَةِ الحِبّ في اللّوْنِ وقَلْبِ المُحِبّ في الخَفَقَانِ

لا يخلوا الحوار من شواهدَ شعريّة أو ومضاتٍ فكريّة للمعري أو إشارة إلى كتاب أو دراسة صدرت في بلد ما عن شاعرهم. أو بتفنيد ما يروى عن الرجل من قصص وحكايا وصلتْ حدّ الخرافة.

من أعضاء هذه  اللجنة المرحوم عبد الوهاب البرّ و خالد الذكرى والطبيب الفنّان رضا حيدر والشاعر عبد الرحمن إبراهيم وغيرهم.

في عام 1982 أقيم مهرجان أبي العلاء المعري الثاني في معرة النعمان و بعد ذلك توالت المهرجانات، ليصير عددها أربعة، فيما بعد في عام 1997 وفي شهر تشرين الثاني، أقامت وزارة التعليم العالي ندوة حول فكر وأدب المعري، حضرها أدباء من المشرق و المغرب العربي والهند و استمرت فعاليات الندوة ثلاثة أيام..

بعد ذلك عادت المهرجانات للظهور في عام 2001 المهرجان الخامس في المهرجان حيث شارك فيه شعراء من العراق و السودان ومن مصر.

ثم 2002  أقيم المهرجان  السادس حيث شاركت فيه فعاليات محليه من كتاب وأدباء ومفكرين سوريين وعرب، وحضره القنصل الأرمني في سوريا مع شاعر أرمني قدّم بحثاً حول المعريّ.

أمّا التمثال النصفي للمعري  فقد صممه الفنّان محمد فتحي قباوة 1944 وذلك  بتوجيه من عميد المجمع العلمي في دمشق آنذاك والذي تمّ قطع رأسه عام 2013، وأكمل طيران النظام تدمير القاعدة الحجرية له  كما دمر المكان بشكل حين استهدفت البراميل المتفجرة المنطقة المحيطة بالمتحف.  

يؤكد سرجاوي أنّ هناك  نسخة أخرى من تمثال المعرّي موجودة في حديقة الجاحظ في مدينة دمشق وكذلك صمم الفنان مصطفى قطيني ابن المعرة تمثالاً للمعري  برؤية مُغايرة، لكن بسبب قصف طيران النظام لمنزل الفنان قطيني بقي التمثال تحت الأنقاض ولم يتمكن أحدا من إخراجه.

كان ومازال المعري رمزاً لمدينة المعرة غالباً ما تُطبع  صورته على المنشورات التعريفية بالمدينة إذ أنّ علاقة محبّة تربط “المعرّاوي” بالمعري فكثيراً ما ترى بيت شعره

فلا هَطَلَتْ عَلَيّ ولا بأرْضي    سَحائبُ ليسَ تنْتَظِمُ البِلادا

يزيّن صدر مجلس أو صالة كبيرة أو منتزه، لما يحمله من معنى الخير والمحبة والإخاء.

أغادرُ المعرة وكلّي أمل أن أعود قريباً على وعد أصدقائي من محبي أبي العلاء لإحياء المهرجان من جديد وتفعيل دور اللجنة العلائية بعد إعادة تأهيل المبنى.

عاش  المعريّ بين عامي “973-1057 م ” واسمه أحمد بن عبد الله بن سليمان  القضاعي  التنوخي وهو شاعر ومفكّر وأديب ونحويّ من أهم آثاره الفكرية رسالة الغفران وديوان اللزوميات وسقط الزند وقد ضاع  الكثير من آثاره الفكرية.

معرة النعمان ـ  سوريا