أصل الحضارة الغربية

ـ الغرب لم يكن من اللاعبين الرئيسين في الاقتصاد العالمي في أي مرحلة قبل عام 1800.

ـ المسلمون لم يجتاحوا الجزء الغربي من أوروبا لأنه كان متخلفا وقليل الفائدة بالنسبة لهم .

ـ لم تبلغ أوروبا ما بلغته الصين في القرن الثاني عشر إلا بحلول القرن العشرين.

ـ لم يكن من السهل تشكيل هوية أوروبية موحدة إلا بوجود “عدو خارجي”، وكان الإسلام هو “العدو”.

ـ اعتقد الأوروبيون أن العبودية الأفريقية كانت أمرا طبيعيا له مرجعية دينية، واستخدموا في ذلك التوراة.

السيد حامد

هناك رواية تقليدية روج لها مؤرخو الغرب في العالم بأسره عن غرب نقي عقلاني ، ليبرالي ، ديمقراطي صنع نهضته محليا منذ أيام الإغريق وحتى اليوم ، وبجوار الغرب يوجد شرق استبدادي لاعقلاني، متواكل ، بدائي ، بربري.

كانت هذا المقدمة لكتاب “الجذور الشرقية للحضارة الغربية” للكاتب البريطاني “جون إم هوبسون” وهو أستاذ تشكل كتبه موادا  للدراسة في السياسات والعلاقات الدولية في جامعة شيفيلد، وقامت بترجمة الكتاب إلي العربية منال قابيل.

تدور الفكرة الرئيسية للكتاب علي نقد فكرة المركزية الأوروبية والتي روج لها كتاب الغرب، والتي تفترض أن الغرب يمثل البؤرة المركزية لتاريخ العالم المتقدم بماضيه وحاضره ، حيث تطور الغرب من اليونان القديمة التي أنجبت روما، وتولد عن روما أوروبا المسيحية ، وأنجبت تلك عصر النهضة وبعده جاء عصر التنوير، وأنجب التنوير الديمقراطية السياسية والثورة الصناعية، ونتج عن مزج الديمقراطية بالصناعة الولايات المتحدة التي جسدت حلم الحياة والحرية والبحث عن السعادة.

وهكذا ترفض فكرة مركزية أوروبا أي دور للشرق في حضارة العالم الذي صوره الغرب، ويحاول هذا الكتاب أن يبرهن علي خطأ فرض مركزية أوروبا من خلال إعادة قراءة التاريخ. ولا يهدف الكاتب من خلال هذا الجهد إلي ترجيح كافة الشرق علي الغرب أو العكس ، وإنما يهدف إلي أثبات أن العالم كله يعتمد علي بعضه البعض.

يختلف الطرح الرئيسي لهذا الكتاب مع أحد الاقتراحات الرئيسية لفكرة المركزية الأوروبية ، والتي تقول بأن الشرق كان متفرجا سلبيا علي قصة تطور العالم، كما كان ضحية أو بمثابة المتكأ للقوة الغربية .. ويشكل تهميش الشرق صمتا له مغزاه؛ لأنه يحجب ثلاث نقاط رئيسية: الأولي: أن الشرق قاد بإيجابية تنمية اقتصاده المادي بعد عام 500 م ، الثانية: أن الشرق شكل الاقتصاد العالمي وحافظ عليه بعد عام 500 م. أما الثالثة والأهم: أن الشرق ساهم بشكل مهم وإيجابي في نهضة الغرب عن طريق قيادته وتوصيله لكثير من الموارد الفكرية إلي الغرب.      

ويقدم الكاتب الأدلة علي أن الغرب لم يكن من اللاعبين الرئيسين في الاقتصاد العالمي في أي مرحلة قبل عام 1800.. فقط في القرن الـتاسع عشر لحقت أوروبا بالعالم المتقدم عنها وذلك بعد خمسة عشر قرنا من التخلف!. 

العولمة الشرقية  

تفترض فكرة المركزية أن بزوغ أوروبا كحضارة متقدمة بدأ حوالي 1500م ، مع انطلاق عصر الاستكشاف الأوروبي، وقد أدي هذا بدوره إلي إزالة الحوائط التي فصلت الحضارات الرئيسية وبالتالي أفسحت المجال أمام عصر العولمة الغربية الذي بزغ في القرن الـتاسع ونضج بعد عام 1945.

ويرى الكاتب أن هذه الصورة المعتادة تعد بمثابة أسطورة، فقد كان هناك اقتصادا عالميا قد بدأ فعليا في القرن السادس الميلادي، ولم يدخل الأوروبيون تلك الدائرة العالمية إلا بشروط أملاها عرب الشرق الأوسط والفرس والأفارقة، وعلي هذا يكون العالم قد شهد قبل عام 1500 م اقتصادا شرقيا جديرا بالاعتبار.

ويري الكاتب أن عام 500م يعد بداية العولمة الشرقية، وساعد علي ذلك الاعتماد علي الجمال كوسيلة للمواصلات حيث استطاعت عبور الطرق البرية بسهولة، وجاء التطور الأكبر بعد نشأة حكم تانج في الصين والإمبراطورية الأموية والعباسية والفاطميين في شمال أفريقيا، وكان لهذا الأمر أكبر الأثر في ظهور شبكة تجارة عالمية.

وتدين العولمة الشرقية بالكثير لمسلمي الشرق، ويؤكد الكاتب البريطاني أن من أهم جوانب الإسلام هو ميله للتجارة والنشاط الرأسمالي، وهو ما ينقض ادعاءات مؤيدي مركزية أوروبا، الذين يقولون أن الإسلام كان دينا قمعيا يكبح إمكانيات الرأسمالية.

 كما أعلي الإسلام من شأن الاستثمار.. وكانت مكة أحد مراكز شبكة التجارة العالمية، وانتشرت سريعا قوة الإسلام حتى أصبح حوض البحر المتوسط بحيرة إسلامية ، وشكل العالم الإسلامي جسرا مرت من فوقه الكثير من موارد الشرق إلي الغرب بين عامي 650 – 1800م .. وانتشر الإسلام ليس فقط تجاه أوروبا، وإنما أيضا ناحية الشرق عبر الهند وجنوب شرق آسيا والصين، بالإضافة إلي جنوب أفريقيا وذلك من خلال تأثيرات دينية أو تجارية … كل هذا جعل المسلمين رواد التجارة الأوائل في تلك البلاد البعيدة، وقاموا بدور الوسيط بين الصين وجنوب شرق آسيا.

الرواد الصينيون  

بحلول عام 1100م انتقلت القوة التوسعية العالمية إلى الصين، واستقرت هناك حتى القرن الـتاسع عشر ، وهذه النقطة تتعارض مع فكرة المركزية الأوروبية حيث يؤكد الكاتب أن العديد من الصفات التي ترتبط في ذهننا بالثورة الصناعية الأوروبية كانت قد ظهرت في الصين نحو عام 1100م التي تعد بحق الرائد الصناعي الأول علي مدار 1500 عام وذلك قبل دخول بريطانيا عصر التصنيع بنحو 600 عام.

ويستعرض الكاتب تطور صناعة الصلب في الصين مما كان له دور فيما اخترعه الصينيون من أدوات كالمدفع والمحاريث والسيوف والسكاكين، كما شهدت الصين تطورا في صناعة النسيج، والتي عادة ما تنسب إلي بريطانيا القرن الثامن عشر،  كما ابتدعت الصين الأوراق المالية حوالي القرن التاسع، كما انتعشت صناعة الورق، كما كان لها أعظم الدور في اختراع الطباعة. وتفوقت الزراعة الصينية لدرجة جعلت أحد مؤيدي مركزية أوروبا يعترف: ” لم تبلغ أوروبا ما بلغته الصين في القرن الثاني عشر إلا بحلول القرن العشرين”.

التقدم العسكري

يحتفي مؤيدو مركزية أوروبا بعبقرية الأوروبيين العسكرية المزعوم ريادتها لأول ثورة عسكرية كبري (1550 – 1660) لكن التقدم التقني الأساسي في البارود والبندقية والمدفع قد تم اختراعها في الصين خلال الثورة العسكرية الصينية الأولي بين عامي 850 و 1290م. فقد اخترع الصينيين البارود عام 850م ، واخترعوا أيضا قاذفات صواريخ تستطيع أن تقذف 320 صاروخا بشكل فوري، واستخدموا صاروخا بجناحين وزعانف شبيه بصاروخ 1-7 الشهير خلال الحرب العالمية الثانية.

الآخر المسلم

لم تكن أوروبا كيانا متجانسا وإنما كانت ممزقة من جراء صراعات داخلية عميقة، وبالتالي لم يكن من السهل تشكيل “الأنا” – الهوية الخاصة- إلا بتشكيل “آخر” خارجي تتكون ضده “أنا” متجانسة.. وباعتبار أن الأساقفة أصبحوا اللاعبين الأساسيين في تشكيل الهوية الأوروبية فقد اختاروا الإسلام كموشح مناسب.

لكن كيف تم اختراع الإسلام كتهديد؟

في البداية تعرض الإسلام للعديد من الشائعات من جانب الأوروبيين، لدرجة أن “دانتي”، شاعر الكوميديا الإلهية ، وضع محمد (صلي الله عليه وسلم) في الحلقة الثامنة في جهنم، تقريبا عند القاع، ويختار لمحمد نوعا من العذاب تعاف النفس عن ذكره.

الطريقة الثانية التي صور بها الإسلام كتهديد متأصل، كانت عن طريق بناء نوع من “نظرية الدومينو” الإسلامية بادعاء أن الجهاد الإسلامي يعني الرغبة في الاستيلاء علي كافة الأراضي بالقوة المسلحة. ويرى الكاتب هنا أن المسلمين لو أرادوا لأمكنهم اجتياح قطاع كبير من أوروبا لكنهم اكتفوا بأسبانيا وصقلية، وركزوا جل جهدهم علي القسطنطينية، والسبب كان بسيطا: الجزء الغربي من أوروبا كان متخلفا وقليل الفائدة بالنسبة لهم .

عموما كان الإسلام من بين جميع أعداء أوروبا هو الأقل خطورة ، واختار القائمون على الخرافات من الأوروبيين اختاروا أن يبالغوا في التهديد العالمي للإسلام من أجل توطيد هوية أوروبية جديدة بصفتها المدافع عن الدين الحقيقي الأوحد “المسيحية”.. ومن هذه النظرة بدأت الحروب الصليبية بين عامي 1095 – 1291م.

أسطورة الاستكشاف

يروج مؤيدو مركزية أوروبا أنه بعد عام 1500 تغلبت أوروبا علي آسيا مع بداية عصر الاستكشاف الأوروبي عام 1492 ، والواقع أن الرحلات البرتغالية لم تكن تجسيدا لعصر استكشاف أوروبي، وإنما كانت الجولة الثانية من الحروب الصليبية، وكان السبب في إشعال هذه الجولة، استيلاء المسلمين علي القسطنطينية عام 1453 ثم مدينة أثينا عام 1456 م .. وقد دفعت هذه الأحداث الكنيسة إلي إصدار عدد من المراسيم البابوية باعتبار أن بقاء المسيحية أصبح في خطر، وبالتالي لابد من مواجهة جديدة مع الإسلام.  

ويدعي الأوروبيون أن البرتغاليين كانوا أول من اكتشف رأس الرجاء الصالح بالدوران حول أفريقيا للوصول إلي الهند بعيدا عن الطرق التي يسيطر عليها المسلمون، إلا أنه في الحقيقة كان البرتغاليون آخر من اكتشف الرأس، فقد قام العديد من الشرقيين بالوصول إليه أو قاموا بالالتفاف حوله قبل ذلك بعدة قرون، مثل سكان جزر الهند الشرقية، كما وصل إلى رأس الرجاء البحار المسلم أحمد بن ماجد قبل ” فاسكو دا جاما” بسنوات.

وقد بدأ الاقتراض البرتغالي من العلوم الإسلامية في القرن الثاني عشر من خلال العلماء اليهود الذين قاموا بنقل المعرفة الإسلامية علي مراحل من خلال ترجمتها، كما استفاد البرتغاليون من التعديلات التي ادخلها المسلمون على الشراع مما ساعدهم على الإبحار خلال المحيطات.    

الكشوف الجغرافية   

إن أحد الأعوام في التسلسل الزمني لتاريخ العالم، كما تراه مركزية أوروبا هو عام 1492، عام اكتشاف أمريكا، ويرى الأوروبيون أن هذا الاكتشاف علامة على عبقرية أوروبا الحديثة، و الحقيقة تقول أن الأدوات التي استخدامها “كولمبوس” ومن قبله ” فاسكوا دا جاما” كانت مستمدة من الصين أو الشرق الأوسط الإسلامي.

ولم تكن رحلة “كولمبوس” نتيجة تطور علمي أو عقلي وإنما كانت سلسلة داخل الحروب الصليبية، فقد كان الهدف من رحلته هو الوصول إلي الهند عبر استخدام طريق لا يخضع لسيطرة الإسلام والبحث عن الذهب لتمويل استعادة الأراضي المقدسة من أيدي الكفار المسلمين.. لكن “كولمبوس” لم يصل إلي الهند أو الصين وإنما وصل إلي جزر البحر الكاريبي، ورفض بعناد حتى مماته قبول فشله في اكتشاف الصين أو الهند ( وهو السبب الذي يٌسمي من أجله سكان أمريكا الأصليون بالهنود).

وفي الأمريكتين بدأ استغلال السكان الأصليين والزنوج، واعتقد الأوروبيون أن العبودية الأفريقية كانت أمرا طبيعيا له مرجعية دينية، واستخدموا في ذلك التوارة التي اختلقت أسطورة أن نبي الله نوح (عليه السلام) اشتعل بالفلاحة وغرس كرما، وشرب من الخمر فسكر وتعري داخل خيمته، فشاهد حام أبو الكنعانيين عري أبيه، فخرج وأخبر أخويه اللذين كانا بالخارج ، فأخذ سام ويافث رداء ووضعاه علي أكتافهما ومشيا إلي داخل الخيمة وسترا عري أبيهما من غير أن يستديرا بوجهيهما نحوه فيبصرا عريه ، وعندما أفاق نوح من سكره وعلم بما فعله ابنه الصغير فقال : “ليكن كنعان ملعونا، وليكن عبد العبيد لأخوته”، ثم قال “تبارك الله إله سام ، وليكن كنعان عبدا له ، ليوسع الله ليافث فيسكن في خيمة سام ، وليكن عبدا له”. وهكذا تم تأويل هذه القصة لتصبح مهمة يافث (أوروبا) استيعاب سام (آسيا) واستعباد حام أو كنعان (الأفارقة السود). 

وفي العالم الجديد، بدأ النهب المنظم للثروات من الذهب والفضة، فقد كانت أوروبا تعاني عجزا تجاريا كبيرا مع أسيا، ولم تكن قادرة علي إنتاج سلع ما يمكن أن يهم المستهلك الأسيوي لذلك كان علي الأوروبيين أن يدفعوا بواسطة السبائك المعدنية، إلا أن الاحتياطي الأوروبي لم يكن كافيا وبالتالي جاءت السبائك الأمريكية والأفريقية المسلوبة لتساعد أوروبا علي الاستمرار في التجارة العالمية مع آسيا. إلا أن السلاح الأكثر أهمية الذي مكن البريطانيين من تحويل عجزهم التجاري كان تصدير الأفيون إلى الصين ، وبحلول عام 1828 شكل الأفيون الهندي 55 % من مجموع الصادرات البريطانية إلي الصين، وعندما حاولت الصين تقليص تجارة الأفيون عام 1839 استخدم البريطانيون ذلك كحجة لشن حروب الأفيون ، وبهذه الطريقة الغادرة استطاع البريطانيون قلب العجز التجاري التاريخي مع الصين.

مصادفات النهضة

يمكن تفسير نهضة الغرب بشكل كبير عن طريق المصادفة ، حيث أمدهم الشرق بالعديد من “محافظ الموارد” المختلفة، كما أنه على الرغم من قوة المجتمعات الشرقية في ذلك الوقت فإنهم لم يسعوا إلى استعمار أوروبا (كما سيفعل الأوروبيون لاحقا).

قدر رابع  نتج عن عثور الأسبان علي الأمريكيتين بالمصادفة، حيث تواجد الذهب والفضة بوفرة، كان ذلك حظا عظيما ، لأنه كان من المفترض أن يصل “كولمبوس” إلى الصين، إلا أنه أخطأ، وإن لم يخطأ لكان انتهي به الأمر إلي أداء مراسم السجود للإمبراطور الصيني، وبدون الاستيلاء علي السبائك كان الأوربيون سيصبحون عاجزين علي مجرد الحفاظ علي وجودهم المتواضع في آسيا فيما بين عامي 1500 – 1800.

كان الأوروبيون محظوظين أيضا أن مناعة الهنود الحمر قصرت عن مناهضة الأمراض “الأوراسية” التي حطت عليهم.

أما تواجد بريطانيا في آسيا فقد جاء بعد تفكك حكومة المغول إلي فصائل سياسية متناحرة، الواقع أن الانجليز لم يهزموا الهند عن طريق قواتهم العسكرية “الطاغية”، فما أدي إلي هزيمة الجيش الهندي في موقعة “بلاسي” عام 1757 كان نتيجة تصدع هندي داخلي.  وبعد 1757 نجح البريطانيون في أن يكون لهم قبضة إمبريالية عن طريق التلاعب بالفصائل السياسية المختلفة. وبعد ذلك نجحت الأسلحة الأوروبية في تقوية قبضة بريطانيا علي الهند.

وهكذا يكون بين عامي 500 و1000 تواجد حد ريادة القوة العالمية في الشرق الأوسط، وبحلول 1100 بدأ البندول يتمايل شرقا إلي الصين، وبعد عام 1500 تقريبا بدأ البندول يتحرك تدريجيا جدا إلي الوراء غربا عندما انشغل الأوروبيون في الامبريالية وكثفوا من صلاتهم مع الشرق.   

.