عَلاقة الأنا والآخر بالمكان في رواية: إيلي

للكاتبة اللبنانيّة مِيرنا دبس
موسى الزعيم
صدرتْ مؤخراً رواية إيلي للكاتبة اللبنانية ميرنا دبس، تعالج الرواية قضايا إنسانية لها خصوصيتها من خلال مقاربتها لموضوع الهجرة والحرب، من عدّة زوايا، تختلفُ عمّا طرحته الرواية العربية في الفترة الأخيرة، وأعني هنا الرواية السورية التي استلهمت موضوعاتها من الهجرة واللجوء إلى ألمانيا نتيجة الحرب، أو نتيجة تداخل عدد من العوامل منها ما هو سياسي أو انسانيّ أو دينيّ.
تطرحُ الرواية مفهوم المكان وعلاقة الانسان به من خلال التحولات الاجتماعية والسياسية والانكسارات والهزائم التي أثرت على حياة الناس، يرتبط ذلك أيضاً بمفهوم الوطن وعلاقة الانسان فيه، من خلال إرادة التعايش بين المكونات الاجتماعية، وقد وقفت الرواية العربية على مثل تلك القضايا من زوايا مختلفة، كما في روايات “حنّا مينا وغالب هلسا، وإدوارد الخرّاط، وسهيل إدريس وغيرهم..”
كذلك تطرح الرواية تساؤلات علاقة رجل الدين بالمجتمع ودوره فيه، وعلاقة اللاجئ بالبلد المُضيف.. وغير ذلك الكثير من القضايا..
على صعيد الشكل الفنيّ..
يمتلك الروائي الحرية التامة في اختيار وتحديد الشكل النهائي لعمله الإبداعي من خلال اختراع هيكلٍ أو خطّة فنيّة خاصّة به، تُسهم في إيهام القارئ بواقعيّة العمل الروائي هذا الإيهام المُحبب لدى القارئ، يساهم أيضا في طرح التساؤلات اللاحقة وفتح باب التخييل ويوظّف كلّ إمكانات عتبات السرّد اللاحقة في سبيل الولوج إلى سياقات النصّ ومتاهاته، وبالتالي تفكيكه فنياً وجمالياً.
جاءت رواية إيلي عبر مقاطع قصيرة، كلّ مقطعٍ يحمل عنواناً أو عتبةً تشي بمضمونه وكثيراً ما جاءت العناوين بأسماء الأمكنة، حسب تتابعٍ زماني، لكن السارد، كان يخترق زمن الحكي و يمارس لعبة القفز بين الماضي والحاضر، رغم أنّ الكثير من الأحداث رُبطت بقضايا سياسيّة شاغلة في تلك المرحلة.
فيوهم السادرُ “فنيّا” القارئ أنّ السرد يجنح نحو السيرة الذاتية، ومنذ أوّل عتبة جاءت تحت عنوان “أوّل الذاكرة” وهي بمثابة فتح لبوابة الماضي، والذي يتداعى السرد من خلاله لكننا، سنرى فيما بعد أنّ هذه الذاكرة مكتظّة بالمشاهد والروائح والطعوم و الحكايات الإنسانية النبيلة التي ترتبط بالأمكنة تباعاً من خلال معاناة أسرة يونانيّة تقيم وتعمل في تركيا ونتيجة الصراع الدائر في خمسينيات القرن الماضي تُهجّر هذه الأسرة بشكل قسريّ إلى عدّة أماكن كان آخرها حلب، فمرّة تبيع مَخبزها وأخرى معمل الصابون الذي تترك فيه أجمل ذكرياتها. بعض أفراد الأسرة وصل إلى حلب والآخر تاه في الغابات ومنهم من صل اليونان.
في الرواية تبقى ذاكرة الأشخاص متوقّدة، تُجاهد في نقل عاداتها، تقاليدها، سيرة نزوحها للأجيال التالية.
دوريا البنت التي تعلمت وكبرت في حلب، بقيت تعاني من أزمةٍ لغويّة، فوالدها وجدتها يتحدثان اليونانية، اللغة المفعمة بروح الأساطير والأم تتحدث العربية، من خلالها عرفت دوريا عبد الحليم وأم كلثوم، بالإضافة إلى التركية والإيطالية..
تحاول أن تتلمس حياتها من خلال كلمات عربية أتقنتها، لتعيش قصة حبّ عابرة مع الصحفي رياض الذي غادر البلد فجأة لأسباب أمنيّة باسم مُستعار ” محمود صابونجي”
تسعى الروائية إلى بناء سردٍ استعادي تخيلي من خلال مهارة لغوية، تمزجُ الواقع بالمتخيّل، فيقلل ذلك من فرص التأويل، واقعٌ حدث والكلّ ضحايا، لكنهم يحاولون النهوض.
ينقل السارد عتبة السرد باتجاه مكانٍ آخر وهو المينا مدينة طرابلس اللبنانية ويُؤرّخ للأحداث بعام 1985 وما رافق ذلك من خلال الصراعات في المنطقة، صراع جماعة التوحيد مع ” الشيوعيين” وما تبع ذلك من تصدّع وانقسام في المجتمع اللبناني، وخاصّة فئة الشباب تبع ذلك صعود حركة “الشبيبة الأرثوذكسية ”
وهنا تبرز شخصية إيلي والتي ستجري معها الأحداث باتجاهات بعيدة..
إيلي الشاب الفقير المكافح المسكون بتساؤلاته الوجودية ” هل نرسم العالم الذي نحتاج إليه بأيدينا ؟
يتملّكه الشغف يوماً بعد يوم، عن عالم يحلم باللجوء إليه يختبئ فيه من شراسة الحياة، يفتش عن أجوبةٍ أوعن خلاصٍ له من يوميات عادية يعيشها ..
ومن خلال دراسته للبيولوجيا وعبر الخلايا التي يراها تحت المجهر، يرسم طريقه ويرى الله في ذاته.. وهو من أبٍ شيوعي يحاول جاهداً البحث عن منحةٍ دراسية لابنه في موسكو، فيعيش الأب خيبته على الصعيد الحزبي و العام.
خذلان وانكسارات تتراكم في ذات إيلي خاصّة حين تفشل علاقة الحبّ الأولى مع ندى بسبب صراع طبقي لا يرغب أن يكون طرفا فيه، ثم يُقتل صديقه بسام بصراع حزبي، حتى يشعر إيلي أنّ ” كلّ الذين يعرفهم كأنهم، كائنات فضائية، تأتي بمهمّات مُحددة ثم تعود إلى كواكبها، وهو الوحيد الباقي، هو أمام مسرحٌ كبير، كلّ يؤدّي دوره، ويغادر تاركاً له الفراغ.
التحول الكبير في حياة إيلي كان في انتقاله إلى اليونان لدراسة علم اللاهوت، هناك أيضاً يساعد الهاربين من جحيم الحرب السورية، فيُشكّل ذلك منعطفاً جديداً في حياته.
لكننا سنعرف لاحقاً أنّ اصطحاب إيلي لكتاب جبران “الأجنحة المتكسرة” معه من لبنان لم يكن اعتباطيّاً، وإنما مُبرراً فنيّا في الرواية، وكذلك تخلّيه عن كتبه في برلين، سيكون له مرجعيّة أيضاً، ربّما في الحالة الأولى أراد إيلي أن يقتفي أثر جبران في ثورته على رجال الكنيسة؟!
وفي الثانية أراد أن يُخفف عبءِ الأفكار والأحكام المُسبقة، ويبدأ حالة وحياة جديدة ارتبط ذلك بإنهاء علاقته بسابينا ..!!
في القسم الثالث من الرواية تعود الأحداث إلى سنة 1966 حيث دوريا في حلب، تحاول التفاعل مع المكان الجديد، من خلال ذلك تُسلّط الرواية الضوء على فئةٍ فاعلةٍ من اللاجئين اليونانيين والأرمن وغيرهم في حلب، الذين هم ضحايا، لكنهم شكّلوا حالة اجتماعية إنسانية فريدة من خلال سمتين أساسيتين هما: الصدق في التعامل والإتقان في العمل، ليغدو الخطاب الروائي خطابا إنسانيّا تعايشيّاً.
في حلب تعوّض دوريا عن قلّة كلامها؛ باهتمامها بألوان ألبستها ونوعية القماش والدانتيل والكثير من الابتسام الذي غدا جزءاً من شكلها وتكوينها، هي حسّاسة لدرجة أن بعض التفاصيل الصغيرة تُقلقها وتغيّر مِزاجها “فعدمُ تناسق أطراف غطاءِ طاولة مثلاً، يجعلها تشعر بالغثيان”
صارت تعمل مدرّسة للرسم، ومتطوّعة في جمعيّة العاديّات، لكن الحرب في سوريا تدفعها للرحيل من جديد.
باتجاه برلين 2013
تبدو برلين في الرواية المكان الإنساني الأرحب الذي تصل إليه شخصيات الرواية تباعاً، فيها تتعرف هذه الشخصيات على بعضها، تبني علاقات إنسانية مع بعضها من جديد،
هم قادمون” من سوريا ولبنان واليونان.. وبلدان أخرى” وبرلين تفتح ذراعيها للجميع تتقبّل اختلافهم، فتلتقي دوريا بمايكل “رياض” الذي أحبّته وفقدته في حلب، كما تلتقي بابنها الطبيب “هوسيب” الذي يعمل في أحد مشافي برلين.
من خلال إيلي، تسلّط الرواية الضوء على دور رجال الدين والكنيسة في أوربا بشكلٍ عامٍ، إذ تطرح قضيّة تغليب روح الجماعة على الأنا والانحياز لما هو إنساني، هذا ما أدركه إيلي في موقف سابق حين “تحوّل من شاب مَخذولٍ فقيرٍ إلى فاعل خير ” معتزّ بنفسه”، فيساعد إيلي الوافدين من سوريا إلى برلين، كما ويساعد أبناء رعيته من خلال عمله كاهناً في الكنيسة.
يحرص إيلي على العمل التطوعي المجاني، ودعم مشروعات الخير و التعليم في لبنان والشرق من خلال توجهه لشريحة الشباب، حيث وجد فيهم الدافع القويّ للنهوض بذلك، رغم كلّ العقبات والتي كانت في الغالب سياسية.
سابينا وأزمة الكنيسة
من خلال شخصية سابينا، المرأة الألمانية، تطرح الرواية تساؤلات الأنا والآخر في هذا العالم، سابينا التي أحبت إيلي وتزوجت منه وعاشا معاً، ساعدته في تعلّم اللغة الألمانية حين درسا علم النفس وآمنت بقدراته، لكنّها قبلت على مَضضٍ الزواج منه كنسيّاً، اقتنعت به لكنها لم تقتنع بمبررات الحلال والحرام لديه…البعض يعتقد أن الغرب أبو الكنيسة وأمها! لكن الحقيقة عكس ذلك، الكنيسة أُسست في الشرق وبقيت روحها هناك، وهذا يُشبه حال اللاجئ، روحه هناك وجسده هنا.
تسلّط الروائية الضوء على صراعات شخصية سابينا القلقة، فقد غيّرت اختصاصها بعد سنتين من دراسة علم النفس، انتقلت إلى تعلّم اليوغا وممارستها لتصبح مدربة، تبحث عن العلاج الروحيّ والجسديّ معاً، لكن الهرمونات وحدّها من يتحكّم بها.. تفضّل “أن تعانق شجرة على أن تقبّل أيقونة” بالمقابل هي شخصية ديناميكية، ماهرة في تنظيم حياتها وأفكارها، صادقة مع ذاتها ومع غيرها، محبة للآخر، ولا تريد أن تُنجب بسبب الكثافة السكانيّة من خلال ذلك، يمكن أن تُساهم في حلّ مشكلة التزايد السكاني.
تناقش سابينا مع إيلي مشكلة الضرائب التي يدفعها الناس للكنيسة، مما جعل أعداداً كبيرة منهم تترك الكنيسة وتنفصل عنها.
تمثل سابينا شريحة كبيرة من أفراد المجتمع الألماني الذين يبحثون عن ذواتهم، تقول لإيلي: “أنتَ تأخذ اعتقادك وإيمانك من الله، أمّا أنا فلا أزالُ أفتش عنه، أنت تأخذ قوّتك من الله، أنا أفتش عن نقطة افتراضيةٍ ثابتهٍ، أنظرُ إليها حين أمارس اليوغا..
تسافر سابينا إلى الهند تنعزل عن العالم لتمارس النقاهة، عند عودتها يكون إيلي قد تبرّع بأشيائه الشخصية، وانتقل إلى العيش في الكنيسة.
مادّاً يديه في اتجاهين: الأوّل رعيته، والثاني أهل بلده، لبنان وخاصة بعد أحداث تفجير مرفأ بيروت.
علاقة إيلي بسابينا تقف على مفهوم العلاقة بالمكان، من خلال محاولة إيجاد شكل لهذه العلاقة، فهي ليست فقط علاقة حبّ، هي أكثر من حبّ، هو اندماج هو توأمة. علاقة إيلي بسابينا مفتاح العلاقة بالمجتمع الألماني، لكن من منظار أوسع، فلا يلغي أحدٌ الآخر.
في لغة السرد:
جاءت لغة السرد سلسةً دفّاقةً، بعيدةً عن المُعجمية، قريبة من لُغة حياة الشخصيات ومنطوقها الاجتماعي، مُطعّمة في بعض الأحيان بحواراتٍ وجمل عاميّة خفيفة، أكسبتها رشاقة وسلاسة.
كما تمتلك عين السارد دقّة في توصيف الأشياء ونقلها، هذه العين الفاحصة مولعة برصد تفاصيل الحياة والأمكنة، يبدو ذلك من توثيق الكثير من أسماء الأمكنة والأطعمة والعادات والرموز، هذا يؤكد على الغنى المعرفي لدى الروائية وقدرتها على توظيف كلّ ذلك في متون السردّ، مما يجعله قريباً إلى الواقع، ينبض بالحياة.
كذلك تصوّر ردودَ الفعل على الأشياء المحيطة وعلاقتها بالناس، ظهر ذلك في عدد من مقاطع الرواية، خاصّة في القسم الأول منها، حيث كان السرد مشحوناً بلغة عاطفيّة تشدّ القارئ، تدفعه للتعاطف والدخول في مدارك الشخصيات، حتى يبدو السرد أقرب إلى المذكرات الشخصية.
من جهة أخرى، حفلت الرواية بالكثير من السرديات والقصص والحكايات من عوالم ثقافية مختلفة ” يونانية إغريقية وغيرها، فكلّ مقطع من الرواية يمثّل حكايةً كاملةً وحياةً كاملةً.
كما جاءت النصوص الدينية والأدعية والابتهالات، كروائز تدعم موضوع الرواية وتضفي مصداقية وواقعية عليها.
من جهة أخرى فإن تلّون المضمون الحكائي بصيغ خطابٍ وحواراتٍ متعددة بتعدد الرواة، يشد القارئ ولا يفقده خيوط الحكاية الأساسية.
كما كان استعمال الفعل الماضي تأكيد على أن السارد هو صاحب الأحدوثة وما يمرّ في صفحات الرواية حدث معه بالفعل من خلال القيم والأفكار والأمنيات التي منها ما هو منطقي ومنها ما كان قدريّا دراميّا، لكن كلّ ذلك حقق الغاية الجمالية التي يسعى إليها الأدب من أجل كرامة الانسان.
جاءت شخصيات الرواية وخاصة الشخصيات الذكورية متّسقة مع موضوعاتها وأدوارها، ويبدو أنّ الروائية انشغلت برسم هذه الشخصيات داخلياً فكريّا ومن خلال بنائها الدرامي، فلا نجد أية جملةٍ أو عبارة تصف إيلي جسديّا.. ما يُعزز القناعة لدينا أنّ إيلي فِكرة ؟!
ولعل الرواية بأسلوب جمالي فنّي أرادت أن تقول: أَبقوا قلوبكم وأجسادكم هنا وعيونكم على أوطانكم ..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*تقع الرواية في 360 صفحة وقد صدرت عن دار سامح للنشر في السويد
*ميرنا دبس: روائية لبنانية مقيمة في ألمانيا.
.