تقاسيم على وطن منفرد
جماليّات السرد في النصّ المفتوح للكاتب يحيى علوان
موسى الزعيم
عالم الأدب هو عالم حيّ قائم بذاته، وكبقيّة العوالم يَشهدُ تطوّراً وتوالداً من خلال تناسل أجناس أدبيّة متلاحقة وقد رصدتها نظرية تطوّر الأدب ، لذلك عنيت هذه النظريات رغم اختلاف مدارسها بهذا التناسل الأدبي والذي يأتي من رحم النصّ عادةً، فتفرض كلّ مرحلة مصطلحاتها وتسمياتها الجديدة، وكما وجوه البشر تبقى الملامح تلعبُ لعبة التخفي والظهور على متنِ هذه النصوص، وقد تتأثر بتيارات ومدارس جديدة لكن شأنها أن تغذّي نهر السرد العام، لتضخّ دماً جديداً في تلك النصوص.
كلّ ذلك يأتي متوافقاً مع تطوّر الحياة، بل أحياناً يأتي رداً على فجيعة تَشييء الواقع وتكلس العواطف البشرية.
من هنا تأتي مهمة الناقد ودارس تاريخ الأدب في كشف هذا الانزياح اعتماداً على قاعدةٍ مفادها؛ أنّ الكمّ الأكبر من نصوص الجنس الواحد، تفضي إلى نصوصٍ ذات نضجٍ فنّي، من خلالها يمكنُ تقعيد هذا الجنس الأدبي الجديد أو ذاك.
هنا أتوقّف عند كتاب الكاتب والمترجم العراقي “يحيى علوان” والذي صدرت الطبعة الثانية منه ” تقاسيم على وطـنٍ مُنفَـرد” إذ يضمّ الكتاب عدداً من النصوص المفتوحة، والتي تحرّرت من القولبة وانزاحت باتجاه الدّفقة الشعورية فجاءت هذا النصوص حمّالة لأوجاع وأفكار الكاتب وقد استفاد من مخزونه الثقافي والمعرفي فيما يتعلّق بالتراجيديا والآداب العالميّة باعتباره دارساً ومترجماً عن الأدبين الإنكليزي والألماني .
في الكتاب أكثر من عشرين نصّاً، خرجتْ من إطار التجنيس الأدبي ، لتنزاح نحو الشكلانيّة، حسب الدفقة الشعورية، في حين كانت السّمة الغالبة لتلك النصوص ذاتيّة الراوي، ففي غالبها جاءت بضمير المتكلم ” وإن حاول السارد التستر وراء هيئات مختلفة لهذا الضمير أنا، هو، أنت، نحن .. ” فتعدد الضمير يفضي إلى تعدد الأصوات داخل النصّ وتلوين صيغة الخطاب، لتبدو وكأنها الهالة البعيدة التي يتخفّي وراءها ملامح السارد”
من عناوين هذه النصوص نقرأ ” خيارات غير متوفرة، بُشراك حيّا، صلاة، عفريت من جنّ سليمان، مَن نحن ؟ أهيّ خطيئتي ، وطن يضيره العتاب لا الموت، سلاما أيها الأرق، ظلّ لجوج ، رأيت البلور، هاجر، تلك المنازل ، للعتمة ذبالتي…. وغيرها من النصوص..
ما يميز هذه النصوص أنها تنزاح باتجاه المكان باعتباره قطبين ” مكانٌ طاردٌ مُشتهى ومكان مُستقبل فيه أسباب الحرية والحياة” يبدو الوطن الكبير، العراق و “بغداد ” وغيرها من الأمكنة التي تدحرجت فيها طفولة الراوي وبقيت ذاكرته تحمل الكثير من تلك التفاصيل والتي شاخت وهي في أوج شبابها، حيث أنّ كثير من هذه النصوص عالجت قضية المكان من خلال الغربة و الحنين إلى الوطن مثل نص ” حنين ” و”شمعة أمي ودمعة أبي ” الحنين وعلاقته بالغربة الذاتية للكاتب بالإضافة إلى الكثير من الوجدانيات التي حفل بها الكتاب ” من حزن وخوف وحنين وعتاب و بالإضافة إلى الخيبات والانكسارات، والتي لا تنفك تتكاثر في عالمنا العربي.
في حين كانت برلين تطلّ باردة من بين النصوص، تُعيد إلى الراوي هدأته باعتبارها المكان الآمن الذي يقيم فيه، لكنها تعيد بثّ النار في جمرة الحنين.
على الصعيد الشكلاني خرجت هذه النصوص على قاعدة الخاتمة المغلقة أو القفلة، و بقي الفضاء فيها مفتوحاً باتجاه التأويل والتأمل والديمومة.
جماليات السرد في تقاسيم وطن منفرد
إنّ المتأمل لهذا الاقتباس القصير من نصّ “خيارات غير متوفرة”
كـــان لنا وطنٌ ، كالمجهول/ أوسع منْ خارطته/ وحينَ تَفَتّحتْ أزهارُ الخيال / صارَ يضيقُ بنا ! / أَنكَرَ أُبُوَّتَه لنا /.. لكننا لمْ نرتدعْ !! لا شفاءَ لنا منه .. مرَضٌ وراثيٌّ حُبُّنا له/ تضيقُ الأرضُ أو لا تضيقْ/ سأقطعُ هذا الطريقَ الطويلَ الطويل حتى آخره .. وآخري !/
يدرك هذه الرؤى المتماوجة بين ” الشخصي والعام ” الحاضر والمستقبل المجهول ، المكان الضيق رغم اتساع خارطته وتبقى ذاتية السارد هي نقطة الوسط الذي ينطلق منها وينتهي إليها، تتمازج مع المكونات الأخرى ” آخرهُ ..وآخري” مما يعطي للنص أبعاداً جمالية من خلال تشاركية الإحساس وامتزاجه بالمحيط واستمراريته عبر المدى، بحيث يغدو النص صالحاً لكلّ زمان ومكان وشاهداً حقيقياً على تجربة ذاتية و على مرحلة شهدت الكثير من التصدعات، كانت ذات المبدع برهافتها أول من تأثر بها.
في نصّ ” بشراك حيّا” يقرن الكاتب مفهوم الحريّة بالأبداع والفرح والتخلص من الخوف بفضول الحبّ والمعرفة من خلال ولادة كلّ نصّ بلغة ولون .
حُـرٌ أنتَ الآن …/ لا بَطَـلْ / لـكَ الخـوفُ/ لكَ الفـرحُ/ … لَكَ الرعشـةُ وفُضـولُ القِطَطِ/ واحـدٌ أنتَ الآن …. لا جَمْـعَ مُسـتَتِرْ / لـكَ أَنْ تبحَثَ عـن صمتٍ مشتركٍ / عـن لغـةٍ مشتركـة/ لَـكَ أَنْ تُولَـدَ مـع كـلِّ فكرةٍ حلوة / ونصٍ بهـيٍ / ولحـنٍ شجيّ وعمـلٍ مُبهـرٍ / فأفعل بالكلام وبالبيـان ما تشاء/ رتِّبْ رفـوفَ ماضيـكَ/ بضميرٍ نقي/ يخـافُ الوخـزَ و يتعالى علـى اللـوم…/
في تقاسيم و على وطن منفرد، ينزاح الكاتب نحو جماليّة اللغة وشعريتها على حساب الفكرة أو الموضوع العام وبالتالي هو يعمد إلى تغليف موضوع النصّ وفكرته بستارٍ شفّاف و لغة مشغولة بعناية، حمّالة للتأويل والرمز، كثيرة الإيحاء.
و من جهة أخرى، يحافظ على الوحدة الكليّة الموضوعية للنص، رغم أنّه لا يُخضعها لتصورات مُسبقة وقواعد ثابتة إذ أنه يعتمد الانسياب اللغوي الذي يمتاز بالشفافيّة من خلال الجمل والتراكيب القصيرة في حين أن بين ثنايا هذا النص الشاعري تنضج قصّة قصيرة بجميع مُحدداتها وعناصرها، من شخصيّات وزمان ومكان، يُخفيها تراكم السرد، فتظهر هذه العناصر ثم تختفىي حسب غَلبة اللغة والدفقة الشعورية وفي الغالب فإن النص لدى يحيى علوان هو من يفرض لغته وطريقة سرده وماهيته الشكلانية ففي نص “بشراك حيّا” يبدو ذلك واضحاً فالشخصيات هي موظف المطار والضابط والمرأة الجميلة وغيرها ..بينما الشخصية الرئيسة هي “زين الحامد” وتدور الأحداث في مطار دمشق، حيث يتم احتجاز البطل لمجرد “تشابه أسماء” فتدور به ذاكرته، تشتغل عبر الماضي، من خلال بؤر الحاضر الماثل من حوله و” عبر ثلاثية الخوف والترقب والمجهول” أما في نص ” عفريت من جنّ سليمان ” فيتحدث النص عن الحرب العراقية الإيرانية وبالتحديد عام 1985 في هذا النص يرصد التخاتل مع الموت والاقتراب منه في كلّ لحظة تشعر أن السارد سيتوقف، لكنه يُكمل بلغة مشهدية جديدة وكأنها عدسة كاميرا ترصد كل صغيرة وكبيرة على جبهة الحرب والنفس في ذات اللحظة.
في مكان آخر يقول:
بعد أن سقطَ جدارُ برلين/ بغداد أضحتْ متواطئةً مع الموتِ والقَتَلَةِ/ وباتَتْ تتربَّصُ حتى بأحلام الناس ….
في حين أن بغداد جُنَّتْ/ ومن فَرطِ جُنونِها، راحت الناس تجترُّ وتتجشأُ عقوداً خَلَتْ/ تحنُّ لشوارعَ وفضاءاتٍ غيرَ مُقفَلَةٍ على أهلها/ ولا تُقَطَّعُ أوصالَها آلافٌ من كتلِ الخرسانة الهائلة، الصمّاء/
نصّ مفتوح الفضاء على الألم، يقارب بين عالمين، واحدٌ يتجه نحو الأمام، وأخر ضلّ طريقه وتعثر سكانه بالخراب.
يحاول أن يواءم بغداد مع برلين، في علاقة بين الماضي والحاضر محورها ذات الكاتب.
في كثير من الأحيان يستند الكاتب إلى معطيات التراث من خلال الترميز إلى الواقع المأزوم ” إنسانيا وسياسياً ومن خلال انعكاس ذلك على ذات الفرد المسحوق في وطنه ،الرازح تحت سلطة الفقر والصمت، يأتي ذلك حينا على جناح الخرافة المتداولة أو الحكاية الشعبية التي تحفل بها الذاكرة الجمعية، فيغدو النص ذا بعد جمالي حداثي، من هذه الرموز مثلا ” السعلاة، قرص الشمس، الخضر.. النهر، زنابيل شعير” وغيرها من الإحالات كما في نصّ “له البهاء كلّه”
يومَ ابتلعت السّعلاةُ رغيفَ الشمسِ ، أصابته “ذبحة”/ هرعنا إلى النهر ، سيَّرنا قوافلَ شموع / رقصةُ أَشباحٍ على جبين الماء / أَودعنا زنابيلَ شعيرٍ لحصانِ الخِضرِ في باطنِ النهر / أحرقنا له الطيبَ والبخور / غَنّينا له أجملَ التراتيل ،عَلّه يسترجعُ عافيةً وَلّتْ، ونَظَارَةً رَحَلَتْ../
لكن كما قيل (أَسمعتَ لو ناديت حيّا.. ولكن لا حياة لمن تنادي ) يصير الأمر إلى استجداء كرامة في أرض الوطن، وتتوالى سِير الرّثات إذا استمر أبناؤه في التعويل على “الغبيات” لأنّها ليست الحلّ للخلاص، فلن تفضي في نهاية الطريق إلا إلى الانتكاس والخسران.
..كرامة، يا مُحسنين/ عَطايا قليلة، تدفع بلاياً كثيرة /مَن يرثي عني وطني ؟! فقد نَزَفتُ كـلَّ حروفـي../
من هذه النصوص أيضاً ما جنح إلى تدون ما يشبه السيرة الذاتية لبعض الشخصيات التي كان لها حضورها في ذاكرة السارد وقد حفرت هذه الشخصيات المسرود عنها عميقا في وجدانه، شاركته ذاكرة المكان والصبا والـأحلام وهذا ما ظهر في نص ” سعدون والي الحرم”
“ سعدونُ ، الذي منذُ أزيَدَ من ثلاثينَ حولاً يرقُدُ في زاويةٍ من صندوقِ الذكرى ، يَتَكَوَّرُ على نفسه ، يُمسِكُ بطرفِ كاسكيته كي لا تَسرُقها الريح .. ما الذي أيقظكَ ، يا سعدون ، حتى تُلاحقني في برلين الثلج ..؟
مُتعَبٌ أنـا ، يا سعدون ، أَغمَضتُ ذاكرَتي ، علَّني أَهنأُ بِنَزرٍ يسيرٍ من الهدوءِ فـي زَمَنِ الخـرابِ ، ووَحشةِ غُربَـةٍ”
ذكرى سعدون تثير في ذات الكاتب صهيل الذاكرة الفرديّة والتي هي حسّاسة هشّة سرعان ما تفتح أبواب الحنين، تعود له إلى الطفولة، تنبش وجعها.. كلما اشتدت نار الغربة.
من هنا تأتي جمالية هذه النصوص الإبداعية، بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ ودلالات، يحقق الأدب غايته الجمالية وأهميته وخلوده من خلال تلك المعاني والقضايا التي يحملها و يتبناها والتي تتجدد وتبوح بأسرارها كلما أعيدت قراءة هذه النصوص مرة بعد أخرى وبعين قارئ جديد.
من جهة أخرى يشتغل الكاتب يحيى علوان، على ما يسميها كتابة الأفوريزمات، لا سيما ثلاثية ( الهمس ) التي صدر الجزء الأول منها ( همسْ.. الجثة لا تسبحُ ضد التيار)
الأفوريزمات تعرّف على أنّها مقولات فلسفية قصيرة تفضي إلى الكثير من المعاني التي تتشظى وتتلقفها ذات المتلقي بكثير من التحليل والتأويل ولعل، حسب مقولة نيتشه الشهيرة: “أحلم أن أقول بجملة واحدة، ما يقوله غيري في كتاب”.
وقد اشتهر وعرف بها، الكاتب اميل سيوران (1911- 1995) كاتب الشذرات أو الأفوريزمات الفلسفية.
وهنا يمكن الوقوف أيضاً عند بعض ملامح هذا الجنس “الأفوريزمات” وبما عرف في التراث العربي “بالتوقعيات”
فكلاهما يحمل في طياته خلاصة التجربة الإنسانية عبر الايجاز والاختزال وشحن المتن بكثير من المعاني، وإن كانت التوقيعات تنزاح دائما باتجاه الحكمة والوعظ في حين أن الأفوريزمات تجنح نحو الفلسفة والخيال والتجربة..
يُذكر أن الكاتب والمترجم يحيى علوان تخرج من قسم الأدب الإنكليزي بجامعة بغداد عام 68/69 . واشتغل في الصحافة والترجمة داخل العراق وخارجه. كتب ونشر عدداً من الكتب الأدبية والفكرية، وانجز ترجمات لبرتولد بريشت وغوين فان تروي وأغستو مونتيروسو، عن الألمانية والإنكليزية، إلى جانب المئات من المقالات والنصوص في العديد من الدوريات العربية..صدر له في الترجمة المشطُ العاج “رواية فيتنامية و”أيها القناع الصغير أعرفك جيداً ” ترجمة عن الإنكليزية ، الفاشية التابعة ” وحوارات المنفيين ” برتولد بريشت ، ترجمة عن الألمانية، في التأليف صدر له هَمْس الجثّةُ لا تسبح ضدّ التيار” كتابة، أفوريزمات “تقاسيم على وطن منفرد ” نصوص نثرية، وكتاب ” مُطاردٌ بين “الله” والحدود ، كتاب نثري أيضاً.
*يقيم حالياً في برلين
.