بيت خالتي
للروائي العراقي أحمد خيري العمري
موسى الزعيم
لم يعد دور الرواية اليوم محصوراً في بعدها الجمالي و الإبداعي فقط بل تخطّى إلى أبعاد أكثر عمقاً وشموليّة وغوصاً في حيوات الناس وتمثلاً للبيئات الاجتماعية .
حيث غدت السردية الأكثر تعبيراً عن روح العصر المتسارع و لما تختزنه من خبرات نفسية وسيكولوجية واجتماعية وتوثيقية، وغير ذلك الكثير من الميادين التي اقتحمتها.
فاليوم يمكن للباحثين الاجتماعيين والسيكولوجيين ومن خلال الأعمال الروائية التي تعبر عن حيّز مكاني وزماني معيّن، يمكنهم قراءة أيّ مجتمع من الداخل، بعيداً عن الطروحات السياسية أو التاريخيّة والتنظيريّة.
بالتالي صارت هذه ميزة تحسب للرواية العربية الحالية، وخاصة الرواية المكتوبة خارج سياقاتها الجغرافية، أي بعيداً عن كمّاشة السلطة الضّاغطة ومقصّ الرقيب، هذا النوع من الأدب يمكن قراءته من خلال فضاء الحريّة وهوامش البوح التي يتمتع بها السارد من خلال قدرته بيسر على تفريغ الحمولة الفكرية التي أثقلته، وبالتالي وجد أن دوره الحقيقي يتجلّى في إظهار الصورة الحقيقية عن مجتمعه، و كلما اتسعت عدسة التصوير بانت التفاصيل أكثر وضوحاً وظهرت سوءات الأنظمة وخفايا المجتمع، فمن خلال ذلك استطاعت الرواية العربية المكتوبة في أوروبا الدخول إلى مناطق مُعتمة وزوايا مخفيّة مُلتبِسة وأخرجت ما فيها إلى النور، رغم أنّ هذا المخفيّ يُؤلم يُوجع وأحيانا يُحبط..
ومن هنا يمكن قراءة رواية “بيت خالتي” ومثيلاتها، ضمن هذا السياق لملامستها تلك الجروح الملتهبة في تاريخنا العربي المعاصر، وبالتالي فإنّ تفاصيل ما سيمر في هذه الرواية ربما حصل أو قد يحصل فعلاً في بلدان كثيرة، طالما أنّ عصا الجلاد تقف بالمرصاد للكلمة..
في العنوان
بداية يمكننا أن نقف عند عنوان رواية ” بيت خالتي” من خلال هذه الثنائيّة اللغويّة التي تفترض في بنيتها التركيبية و المعنويّة حالة من القربى والمودّة، فالبيت رمزٌ للسكينة والراحة والخالة أختُ الأم وقرينتها في المحبّة، لكن على عكس ذلك، ارتبط هذا التركيب بالسرديّة السورية الموجعة وخاصّة عبر السنوات الخمسين الماضية،”فبيتُ خالتي” يستخدم في صيغة التورية والكناية، إذ يُحيل معناه إلى ” السجن أو المعتقل”وهو انزياحا لغويّا جرحته حكائيّة العامّة، تبعاً لقسوة المرحلة التي تمرّ بها، ففي الغالب تهرب من حالة التصريح إلى التلميح .. تحت ثقل الخوف والمواربة من المواجهة المباشرة، لما يحمله قول الاسم الحقيقي من معانٍ قاسية، منها التهديد والوعيد، إذ لا يرغب المتحدّث بالتلفظيه مباشرة. ومثل ذلك قولهم “وراء الشمس” التي تعني الإخفاء أو التغييب الذي لا عودة منه.. وفي فترة لاحقةٍ ظهرت الكثير من تلك الإحالات اللفظية مثل “التشْويل” والتي تعني الاعتقال المُهين، نسبة إلى “الشوال” أو كيس الخَيش الذي يوضع في رأس المُعتقل بشكل فجائي أو أن يُحمل كما يُحمل كيس القمح ويرمى به في السيارة ، وغيرها الكثير..
يمكن تصنيف الرواية ضمن روايات أدب السجون،من خلال معالجتها لقضية المعتقلين السوريين داخل سجون النظام، عبر سرديّات اللاجئين الناجين من المِقصلة ومن خلال شهادات ووثائق حيّة، اشتغل عليها الراوي، ومن خلال الحالة السورية الراهنة، يتقاطع ذلك مع ما عانته ألمانيا في ظروف سياسية وأمنية سابقة، كُتب عنها الكثير كما كان مادة خصبة للدراما والسينما، من خلال الحديث عن حالات الاعتقال والتغييب في فترة ما بين الحربين.
من جهة أخرى فإن الرواية تتخذ من برلين مسرحاً لأغلب أحداثها الحالية.. وتشتغل على مقاربة الأحداث بين بقعتين جغرافيتين متباعدتين، لكن يجمعهما قضيّة إنسانية شاغلة فتح بابها اليوم ملفّ اللجوء المعاصر.
نويكولن مسرح الحدث:
في البداية تضع أحداث الرواية الطبيب النفسي يزن مباشرة في عاصفة من الأسئلة والألغاز، فحادثة اختفاء ابن خالته أنس، المقيم في برلين في حي نيوكولن يفتح الباب واسعاً أمام الكثير من المرجعات والوقفات المتأملة التي تدور في داخل الفرد أو في ومواقف من هم في دائرة الفعل السردي.
أنس الذي كان يعدّ فيلما وثائقياً ،يجمع فيه شهادات المعتقلين السابقين لدى النظام ويعرض ما تعرضوا له من تعذيب ممنهج مدروس في أقبية أعتى سجون العالم ظلماً وظلاماً.
يسافر يزن من مدينة إيسن الألمانية، إلى برلين ليطلب من أنس الردّ على هواتف أمّه القلقة عليه في دمشق بعد أن انقطع الاتصال به، لكن المفاجأة كانت بانتحار أنس.
يبدأ الطبيب يزن بفكّ لغز انتحار ابن خالته ، فتتوالي الأحدث والمتاهات الصادمة والعُقد عبر فصول الرواية.
تخوض الرواية في سرديات مُتعددة موازية لانتحار أنس وأسبابها خفاياها ودوافعها، كذلك تتقاطع سرديات الرواية مع سردية القبيسيات وموقفهن من الثورة السورية وعلاقتهن الملتبسة مع النظام.
كذلك تُغرق الرواية في تشريح الواقع السوري وقضايا التمايز الطبقي والجغرافي في المجتمع بين بيئة المدينة والريف وبين أحياء المدينة نفسها ” من داخل السور أو خارجه “كذلك تطرح طبيعة العمل في ألمانيا وحاجة المجتمع الألماني للأطباء وبالإضافة إلى مدّ جسر سردي “زمكاني” بين ما حدث في ألمانيا من اضطهاد عنصري سابقاً وما يحدث في سوريا، الآن من خلال الاتكاء على شخصية برونر الضابط النازي الألماني الذي هرب إلى سوريا وصار مستشاراً خاصاً ” لشؤون التعذيب” وقد نقل خلاصة تجربته في تقنيات ووسائل التعذيب والقهر مثل “الكرسي الألماني..”وغيره.
يُذكر أن شخصية برونر كانت محور عمل روائي كامل ” عين على الشرق” للروائي السوري إبراهيم الجبين.
ينقل يزن عمله إلى أحد مشافي برلين ليكون قريباً من “نور” صديقة أنس وخازنة أسراره ، في برلين يعمل يزن تحت إشراف الدكتو رالألماني اندرياس هانس..
وهنا يدخل الراوي في تفاصيل الشخصية الألمانية، أذا ما مرّ في وصفه لها، يغدو مديحاً إلى حدّ ما، من جهة عقلانية التفكير الدقيق الواضح والمنظم لهذه الشخصية، مما يُشعر القارئ بأن عجلة السرد انحرفت بالمُجمل باتجاه الانبهار بالعالم الآخر..
فيصفه الراوي بأنّه العقل الألماني المنفتح والباحث في مجال علم النفس له العديد من الأبحاث والدراسات التي نشرت في عدد من المجلات الأمريكية ويعد من أهم الباحثين المعاصرين في العالم ، دقيق في مواعيده حريص على الوقت يعمل وفق العقلية الألمانية التي نهضت بالبلاد وتجاوزت جروح الماضي.
هذا الطبيب أيضا كان منفتحاً على السردية السورية، يحيل يزن إلى مرجعيات سينمائية ودرامية رصدت واقع المعتقلات الألمانية هذه الدراما العالمية وساهمت في تغير قناعات العالم، بعد أن سلّطت الضوء على كثير من مجازر النازية.
خمسة عشر شهادة لا حدود لقسوتها ..
بمساعدة نور يحصل يزن على نسخة مسربة من الفيلم والذي يعرض خمس عشرة شهادة حيّة، تراوحت بين أسماء حقيقية ووهمية ومشفرة وأصوات وغير ذلك هذه الشهادات، كانت عبارة عن وثائق، جهد الراوي في إثبات حقيقتها على أنّها لبشر من لحمٍ ودمٍ قهرهم أخوتهم في الوطن، هؤلاء المعذَّبين لهم حيوات تشبه حياة من عذّبهم و لهم نفس القناعات الدينية والإيمان، هم أيضا من لحم ودم يعيشون بيننا يتنفسون ذات الهواء.
لكن كيف ينتكس الإنسان نحو ” حيوانيته” ليغدو مفترساً بعد أن اشتغلت عليه الماكينة المخابراتية لتظهر أبشع ما فيه حين، يمتزج ما هو طائفي وسلطوي يتعاون في قهر البشر بل يتحول ذلك إلى عُقد وأمراض نفسيّة وأزمات أخلاقية ووجودية.
يغدو السرد مشحوناً موجعاً لما يختزنه تلك الشهادات من خبرات بشرٍ عانوا من الاعتقال والاغتصاب وأعتى أنواع التعذيب والوحشيّة ومنهم من سجّلت شهاداتهم وهم لا يزالون في السجون رهن الاعتقال مثل “كنان “
هذه الشهادات مرّت بعملية توثيق وتحرير اشتعل عليها “أنس” على أن يخرجها للعلن، لكن انسحاب الجهة الممولة، ونقوص أحد الشهود يسبب له أزمة، ربما هي التي أدت إلى انتحاره..
تبدو الشخصيات في الرواية معذبة وذلك نتيجة الخبرة القاسية هذه الشخصيات سواء أكانت ناجية أم نقلت خبرتها النفسية المؤلمة لأشخاص آخرين فأصابتهم بالوهن النفسي ومن ثم يأتي انتحار أنس أيضا ضمن هذا السياق خاصة أن مسألة الثقة قد انكسرت في الذات السورية نتيجة تراكم الخبرة السيئة التي مرّت بها.
لذلك نلاحظ دائما هذه المسافة باردة بين شخصيات الرواية . دائما هناك مسافة ملتبسة بالشك..
من جهة أخرى يكاد الفرح يختفي من على صفحات الرواية إلاّ ما مرّ نادراً أو ما تجلّى في نهاية الرواية من خلال ” نور” المُعتقلة السابقة والتي بدأت تتلمس طريق الأمل في حياتها..
من جهة أخرى تكشف الرواية عن جانب هام تعاني منه شخصيات الرواية نتيجة قسوة الحرب فزعزع إيمانها وثقتها بالثوابت الدينية فـ”كنان” إزادت قناعاته الدينية رسوخاً رغم أنّه داخل السجن في حين تزعزع إيمان الكثيرين خارجه وبالتالي هذا ما يؤكد أن ذلك نابع من قوّة ذات الفرد بغضّ النظر عن ظروفه التي تضغط عليه.
من ناحية أخرى يبرز التساؤل الفني إلى أي مدى خدمت هذه الرسائل والشهادات السردّ الروائي باعتبار الرواية عمل فنّي غايته جمالية إبداعية.
إذاً ما الاشتغال الفني على هذه الرسائل إذا تمّ ارشفتها وثائقياً كما هي من أفواه أصحابها.
لكن مجرد توثيقها وإفساح المجال لقرأتها هو بحدّ ذاته انجاز وتحدّ يحسبُ للأدب بغض النظر عن الميدان أو السياق الذي ذكرت فيه، يكفى أن ترى هذه الشهادات النور.
في نهاية الرواية،يخلص الراوي إلى إن الكثير من التفاصيل عن الجرائم فاقت جرائم النازية والتي اعتمدت على ترك أثر في النفس بعد إطلاق سراح الضحيّة فتصرف الجندي النازي حينها كان نابعاً من دوافع ذاتية شخصية..
أما ما اعتمدته ماكينة التعذيب الحالية داخل المعتقلات فإنها تسعى لأن يكون ذلك مدروساً ممنهجاً ذا أبعاد نفسية ومستقبلية..
يخلص الطبيب يزن إلى نتيجة مفادها أنه في الغالب لديهم من يرشدهم إلى تلك الطرق والوسائل وربما وراءهم اختصاصيون نفسيون يعملون معهم.؟؟
في لغة السرد
جاءت لغة السرد بسيطة ملائمة لمستوى منطوق الشخصيات، تنتمي هذه اللغة مكانياً إلى بيئة الشخصيات، وقد جاءت دائما مشحونة بالتوتر والعاطفة، تثير الكثير من العواطف لدى المتلقي وتدخله في دائرة صراع الشخصيات ومن خلال الوصف استطاعت هذه اللغة أن تكون حمّالة لكثير من المصطلحات والتعابير التي هي من ضمن بيئة قاسية اقتحمتها الرواية، كبيئة السجن والمعتقل، في كثير من الأحيان كانت اللغة تضيق عن حمل ما يختزنه هذه الشخصيات من قهر وما تعيشه من صراعات سوداء.
إلاّ أنها “حسب رأيي” أدخلت نفسها في مأزق تفسير ” المُفسّر” لكثير من الكلمات الدارجة و التعابير التي تستخدمها العامة وخاصة ما يخصّ “البيئة الشامية” على أنّ الكثير من هذه الكلمات والاصطلاحات مفهومة تماماً وفي بعض الأحيان بديهية، لأنّها تعكس ثقافة مجتمع محدد تحمل روح تراثه..
وبالتالي جاء تفسيرها وشرحها في الهوامش حسب فائضاً لغوياً في حين أن بعضا منها لم يعد مستعملاً في الأصل، فمن النادر أن يقول لك اليوم ” شاميّ” أنّه تناول ” الحرّاق بأصبعه” على وجبة رمضان!!
وربما لم يعد أحد مهتمّ بداخل السور أو خارجه؟! إلاّ على سبيل التندر والتّهكم.
ربما لأنّ الكاتب “عراقياً” اعتمد في بعض مصادره و ربّما تأثّر بمسلسلات البيئة الشامية والتي هي بالأساس مبالغات بعيدة عن الواقع..
وبالتالي هذا يفتح الباب أمام تساؤل مشروع هل الكاتب “الآخر” معنيّ بتفسير كل الكلمات التي تنتمي إلى بيئته في العمل الروائي في هوامش الصفحات ؟!
باعتقادي أنّ الرواية بالغت في “شاميتها” حتى سقطت في مطبّ الدراما السورية.
لكن ما يحسب لرواية بيت خالتي هذه الجرأة في طرح مثل تلك القضايا الموجعة.
وتبقى عملاً روائيا له قيمته التوثيقية الكبيرة في هذه المرحلة قبل أن يغالبنا النسيان.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صدرت الرواية عن دار عصير الكتب عام 2020 و تقع في 400 صفحة
.