الصين تتحول إلى قوة “علمية” عظمى

إبراهيم بدوي

ـ أصبحت البلاد في طليعة مجالات علمية عدة من علم النبات إلى فيزياء الموصلات الفائقة

إن صعود الصين الملاحظ إلى مكانة قوة علمية عظمى دفع إلى إعادة تشكيل المشهد العالمي في مجال البحوث العلمية، وعكس نتائج استثمارات بكين الضخمة والتخطيط الإستراتيجي في المجالات البحثية والتكنولوجية الحديثة.

وفي تقرير حول الموضوع سلطت “إيكونوميست” الضوء على بروز الصين الواضح كقوة علمية عظمى، وتفوقها مثلاً على الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في إنتاج أوراق بحثية عالية التأثير، “ففي عام 2003 تفوقت الولايات المتحدة على الصين بفارق كبير في هذا النوع من الأوراق البحثية، لكن بحلول عام 2022 أخذت الصين زمام المبادرة”.

وتعد الجامعات الصينية مثل جامعة تسينغهوا، من بين الأفضل على مستوى العالم، وتتفوق البلاد في العلوم الفيزيائية والكيمياء وعلوم البيئة، وعلى رغم أن أميركا وأوروبا لا تزالان في صدارة العلوم البيولوجية والطبية، فإن قوة الصين تكمن في البحوث التطبيقية والهندسة.

ولفت التقرير إلى أن هيمنة الصين تمتد إلى الابتكارات العملية مثل التقدم في الألواح الشمسية المصنوعة من بيروفسكايت، واستخراج الهيدروجين من مياه البحر، كما تنتج البلاد براءات اختراع أكثر من أية دولة أخرى على رغم أن كثيراً منها عبارة عن تحسينات تدريجية وليست اختراعات رائدة.

وتمثل هذه التطورات نهاية النظام العلمي العالمي القديم الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة وأوروبا واليابان، ويسلط الضوء على الدور الجديد الذي تلعبه الصين في طليعة البحث العلمي العالمي.

ويشير التقرير إلى أن التحول العلمي في الصين يعتمد على الاستثمارات في التمويل والمعدات والمواهب، فمنذ عام 2000 تضاعف إنفاق الصين على البحث والتطوير 16 ضعفاً، وتظهر الأرقام الأخيرة أنها تتفوق على الولايات المتحدة في إنفاق الجامعات والمؤسسات الحكومية، كما يركز التمويل الإستراتيجي على تقنيات الكم والذكاء الاصطناعي وأشباه الموصلات وغيرها.

وقد نجحت البلاد في اجتذاب العلماء الصينيين المغتربين من خلال برامج مثل “شباب آلاف المواهب” الذي يقدم حوافز كبيرة، ونتيجة لهذا فإن حجم العاملين في المجال البحثي في الصين يتجاوز الآن نظيره في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي مجتمعين، وعلى رغم الشكوك المتزايدة والتمييز ضد العلماء الصينيين في الخارج إلا أنهم مستمرون في الإبداع داخل وطنهم.

وتشمل استثمارات الصين في البنية التحتية العلمية إنشاء أجهزة كمبيوتر عملاقة متقدمة، وأكبر تلسكوب راديوي في العالم مع مختبرات حديثة، وقد أدى ذلك إلى إنجازات كبيرة مثل تسجيل أرقام قياسية في الحوسبة الكمومية وتحقيق اختراقات في أبحاث الذكاء الاصطناعي، كما تعمل القاعدة الصناعية القوية التي تتمتع بها البلاد والطاقة الرخيصة على تسهيل إنتاج الابتكارات على نطاق واسع.

وفي الجانب الأقل إشراقاً، لفت تقرير “إيكونوميست” إلى أن مجال البحث العلمي الصيني وعلى رغم تميزه بمخرجات عالية المستوى ومثيرة للإعجاب، إلا أنه ينتج أيضاً قدراً كبيراً من الأعمال الأقل جودة، وعلى رغم تفوق الجامعات الكبرى إلا أن المؤسسات المتوسطة المستوى تتخلف عن نظيراتها الغربية، وتظل البحوث الأساس في الصين، والتي تشكل ضرورة للإبداعات الرائدة، محدودة، مما يحد من قدرتها على ريادة التكنولوجيات الجديدة.

وقد أدى ضغط السلطات من أجل إنجاز مزيد من المنشورات العلمية إلى حالات من سوء السلوك البحثي، بما في ذلك المنشورات المزيفة والاستشهادات المتبادلة بين الأبحاث الصينية الضعيفة لرفع أعداد الاستشهادات بالأعمال الصينية، ومع ذلك فقد أدت الإصلاحات الأخيرة إلى تحسين النزاهة، كما أن الصين بدأت تعكس تأخرها في مجال العلوم البيولوجية والصحية.

ولفت التقرير إلى ارتباط النظام العلمي في الصين بشكل وثيق بالدولة والجيش، مما يثير المخاوف في شأن التجسس وسرقة الملكية الفكرية والمعايير الأخلاقية، “ومع ذلك يظل التعاون مع الباحثين الغربيين شائعاً ومفيداً”.

وتعمل الضغوط السياسية في الولايات المتحدة وأوروبا على الحد بشكل متزايد من هذه الشراكات على رغم استمرار بعض التعاون، بخاصة في مجالات مثل البحوث البيئية.

من جهة أخرى فإن توجه الصين نحو الاعتماد على الذات في مجالات العلوم والتكنولوجيا والقيود المفروضة على المشاركة الدولية قد يعوق تكاملها العالمي، ويواجه الباحثون قيوداً مثل الحاجة إلى إذن مسبق لحضور مؤتمرات في الخارج، مما يعكس التنازع بين الرغبة في السيطرة والحفاظ على القدرة التنافسية الدولية.

وأشار التقرير إلى أن “التعاون مع الباحثين الغربيين يظل سلاحاً ذو حدين”، ففي حين حققت المشاريع المشتركة اختراقات كبيرة إلا أن المحاذير السياسية والمخاوف حول سرقة الملكية الفكرية أدت إلى حدوث توتر في العلاقات، غير أن هذه العراقيل لا تمنع المجتمع العلمي العالمي من إدراك قيمة التعاون المستمر مع الصين، والتأكيد على المنافع المتبادلة وإمكان تحقيق التقدم المشترك.

أخيراً، وعلى رغم التحديات الاقتصادية والسياسية فإن النمو العلمي في الصين لا يظهر أية أدلة على تباطؤه المحتمل، ويستمر نموذجها الذي يزدهر حتى في ظل نظام استبدادي، في التقدم، مع أن المستقبل قد يحمل تغيرات غير متوقعة.