السياسة الألمانية و “الهجرة الانتقائية”
عرض: هبة محيي
تشهد الساحة الألمانية جدلاً واسعاً حول زيادة تدفقات الهجرة، إذ يذهب البعض إلى أن تزايد أعداد المهاجرين، ولاسيما الناجين من الحرب في أوكرانيا، أو طالبي اللجوء السياسي من دول عدة لا يمكن أن ينتج عنه سوى الضغط على موارد الدولة. بينما يرى الفريق الآخر أن الهجرة تمثل فرصة ذهبية لضمان استمرار الرفاهة والنمو الاقتصاديين، إذا ما تم استغلال المهاجرين من أصحاب الكفاءات الفنية والعملية لسد الفجوة الحالية بين عرض وطلب القوى العاملة الماهرة.
ومما يدعم حُجة الفريق الآخر ما يشهده الاقتصاد الألماني من متغيرات اقتصادية وسياسية وبيئية تؤثر في هيكل سوق العمل؛ إذ تؤدي توابع جائحة “كورونا”، والحرب الروسية الأوكرانية، وأزمة الطاقة، والتحول الرقمي واستخدام الذكاء الاصطناعي وغيرها من العوامل إلى تغيرات نوعية متسارعة الخُطى في نوعية العمالة القادرة على مواكبة التطورات التقنية والقادرة على الاضطلاع بمهامها المنوطة بها لتحقيق الأهداف الاقتصادية.
ومن أبرز المجالات الألمانية التي تعاني نقصاً حاداً في الكفاءات: مجالات البناء وتكنولوجيا المباني والصحة والخدمات الاجتماعية والطب والخدمات والزراعة والصيدلة وتجارة التجزئة، وهي مجالات أساسية لا يمكن تجاهل حاجتها الماسة، والتي من الممكن أن تؤدي إلى نتائج كارثية على المدى البعيد إذا لم يتم معالجة المشكلة.
في هذا السياق، يناقش تقرير لبولا أباتي، صادر عن مؤسسة بيرتلسمان البحثية في ديسمبر 2023، ظاهرة هجرة العمالة الماهرة إلى ألمانيا والأطر المفسرة لها، إذ أشار إلى أهم الاستراتيجيات المتبعة بواسطة الحكومة الألمانية لتشجيع الهجرة الموجهة أو الانتقائية، وأخيراً طرح حلولاً عملية للعمل على جذب المزيد من أصحاب الكفاءات.
وضع الهجرة إلى ألمانيا:
شهدت ألمانيا مطلع عام 2022 زيادة غير مسبوقة في أعداد المهاجرين، إذ تخطت الهجرة الإجمالية نسبة 142% مقارنة بعام 2021. فقد استقبلت ألمانيا ما يقرب من 2.414.566 مهاجراً في عام 2022. وبوجه عام تستأثر أوروبا حتى الآن بنصيب الأسد من أعداد المهاجرين، إذ وطأ ما يقارب 1.735.866 مواطناً أوروبياً الأراضي الألمانية عام 2022، في حين أنه لم تتخط أعداد المهاجرين الأوروبيين 480.178 شخصاً العام الذي سبقه، وهو ما يرجع بالأساس إلى لجوء الأوكرانيين إلى ألمانيا بعد حرب روسيا وأوكرانيا وما تلاها من تبعات سياسية واقتصادية.
وثمة أسباب أخرى إضافية لزيادة تدفقات الهجرة، إذ ذكر التقرير أنه في عام 2022 قد بلغت نسبة الوافدين لغرض الانضمام العائلي أو لم الشمل 90.464 مهاجراً، وتخطت نسبة الوافدين لأغراض تعليمية وتدريبية حاجز 60.397 شخصاً. أضف إلى ذلك الهجرة لأسباب أخرى إنسانية، كطلب اللجوء السياسي من دول متعددة كتركيا وسوريا وأفغانستان.
وعلى الرغم من أن زيادة أعداد المهاجرين قد يعتبرها البعض فرصة لسد عجز العمالة في ألمانيا، لكن عند دراسة أعداد ونسبة هجرة العمالة الماهرة تتكشف حالة من التفاوت، إذ بلغت نسبة المهاجرين الأوروبيين من العمال المهرة 20% من إجمالي المهاجرين الأوروبيين بواقع 481.610 مهاجرين.
أما نسب الهجرة من دول العالم الثالث، فيوضح التقرير أن زيادتها قد تخطت 75% مقارنة بعام 2021، إذ بلغ عدد المهاجرين 71.046 شخصاً مقارنة 40.400 شخص عام 2021. وتُصدر الدول الأوروبية غير التابعة للاتحاد الأوروبي ما يقرب من 40% من هذه النسبة وتأتي في المقدمة دول غرب البلقان. وتصدر قارة آسيا ذات النسبة من العمالة الماهرة، وتحتل دول الهند وتركيا وروسيا الصدارة. وتسهم قارة إفريقيا أيضاً بحوالي 6% من العمال المهرة. وبالرغم من الطفرة الهائلة في أعداد مهاجري العمال المهرة من دول العالم النامي إلى ألمانيا، فإن النسبة ما زالت ضئيلة عند مقارنتها بالهجرة الإجمالية (أقل من 3%).
سياسة الهجرة الانتقائية:
أوضح التقرير أن الجهود الألمانية للإفادة من الهجرة ليست حديثة العهد، إذ لم تأل الحكومة جهداً لسد ذلك العجز عن طريق استغلال أعداد المهاجرين المتزايدة. وذلك بواسطة إصدار العديد من القواعد التي تساعد على استقطاب العمالة الماهرة بالمقام الأول، ومن أهم القوانين والجهود الميسرة للهجرة الانتقائية المتبعة:
– البطاقة الزرقاء الأوروبية: وهي وسيلة تسهل إقامة العمالة الماهرة المهاجرة في الدول الأوروبية، وفقاً لمعايير محددة منها توافر شهادة جامعية ألمانية، أو شهادة معترف بها في ألمانيا أو تقديم شهادة عملية تعادل شهادة جامعية ألمانية، وتوافر فرصة عمل براتب سنوي لا يقل عن 58400 يورو سنوياً، ويستثنى من قاعدة الراتب المجالات التي تعاني نقصاً كبيراً في العمالة الماهرة، كالرعاية الصحية. وتعطي البطاقة الحق لحاملها في المكوث في ألمانيا مدة أربع سنوات قابلة للتجديد، وأوضح التقرير أن البطاقة الزرقاء أكثر الطرق فعالية واستمرارية في ألمانيا منذ تطبيقها عام 2013، إذ كانت الوسيلة الداعمة لهجرة 21.985 عاملاً ماهراً عام 2022؛ أي ما يعادل 56% من نسبة المهاجرين من العمالة الماهرة في ذلك العام.
– لائحة دول غرب البلقان: تتيح تلك اللائحة لمواطني ألبانيا والبوسنة والهرسك وكوسوفو وجمهورية مقدونيا الشمالية والجبل الأسود وصربيا الوصول إلى سوق العمل في ألمانيا، وفق شروط معينة أهمها، حصول المتقدم على عرض عمل في ألمانيا وأن يكون المتقدم مستوفٍ لجميع المتطلبات القانونية للتأشيرة. وقد دخل القانون حيز التنفيذ لأول مرة عام 2016، وكانت النية أن ينتهي العمل باللائحة عام 2020، إلا أن الحاجة المتزايدة للأيدي العاملة الماهرة قد أدت إلى تمديد اللائحة حتى نهاية 2023. ومن المتوقع أن يتم تمديد العمل باللائحة إلى أجل غير مسمى. الجدير بالذكر أن الدول غير المشاركة في الاتحاد الأوروبي تسهم بنسبة 40% من المهاجرين ذوي الكفاءات، وتستأثر دول البلقان بنصيب الأسد في تلك النسبة.
– قانون هجرة العمالة الماهرة: قامت الحكومة الألمانية في نوفمبر 2023 بإصدار قانون يهدف بالأساس إلى تسهيل الإجراءات اللازمة لهجرة العمالة الماهرة، كما عمدت إلى إدخال القانون في حيز التنفيذ على ثلاث مراحل في نوفمبر 2023 ومارس 2024 ويونيو 2024. ويرتكز القانون على إتاحة ما يسمى ببطاقة الفرصة التي تتيح للعمالة الماهرة المكوث في ألمانيا مدة سنة، بل وتسمح للعمال بحق لم الشمل وإلحاق ذويهم بهم في ألمانيا بشرط توافر القدرة المالية لإعالة ذويهم. وترتكز بطاقة الفرصة بالأساس على نظام النقاط التي يتم احتسابها وفقاً للعديد من العوامل كالمؤهلات، والعمر، والخبرة المهنية ومهارات اللغة الألمانية.
الشركات والمهاجرين:
اهتم التقرير بإرساء مجموعة من الحقائق حول نظرة الشركات للعمالة المهاجرة، لكي ينطلق منها فيما بعد لتقديم حلول عملية يمكن استخدامها للإفادة من تلك الظاهرة:
– أشارت 70% من الشركات الألمانية عام 2023 في استطلاع رأي تم إجراؤه بواسطة مؤسسة بيرتلسمان، إلى أنها تعاني من نقص في نسبة العمالة الماهرة لديها، وعبرت نسبة مماثلة من الشركات أيضاً أنها تتوقع استمرار العجز في نسبة المعروض من العمالة الماهرة في العام المقبل.
– تتسم الشركات بالحيطة والحذر فيما يتعلق بتوظيف غير المواطنين، إذ تولي فقط 16.8% من الشركات اهتماماً بتوظيف أصحاب الكفاءات من المهاجرين، في حين يعمد السواد الأعظم من الشركات إلى جذب العمال المهرة المحليين، عن طريق زيادة الرواتب، وتوفير أنظمة تعزز التوازن بين العمل والحياة الأسرية، والاهتمام بالتدريب الفعال.
– أبرز العوامل الدافعة إلى حذر الشركات الألمانية من توظيف المهاجرين تكمن في صعوبة التواصل الناتج عن حاجز اللغة، وصعوبة تقييم والاعتراف بالمؤهلات الأجنبية، كما أن توقعات المتقدمين للوظائف غير واقعية، إضافة إلى التعقيدات القانونية والبيروقراطية.
– تضاؤل نسبة التمثيل النسائي للمهاجرين، إذ تشغل النساء المهاجرات من غير دول الاتحاد الأوروبي 30% من الوظائف، وبالتطرق إلى العمالة الماهرة تسهم المهاجرات بنسبة 34% من العمالة الأجنبية. الجدير بالذكر أن نسب التمثيل النسائي تتباين وفقاً لطبيعة المجال، إذ تزداد نسبة النساء العاملات في مجالي التمريض ورعاية كبار السن.
مسارات متوازية:
استنتج التقرير أهمية السير في مسارات متوازية لاجتذاب العمالة الماهرة من المهاجرين عبر إدخال التغييرات الفعالة على الإطار القانوني لملف الهجرة، مثل: تسريع ورقمنة الإجراءات الإدارية المتبعة في العديد من مكاتب الهجرة والعمل على توفير الميزانيات المالية المطلوبة لتلك المكاتب. ولا يمكن بأي حال أيضاً تجاهل أهمية تحسين عملية قياس مهارات المهاجرين، لضمان الاستغلال الأمثل لمهارات وقدرات المهاجرين في المجالات المناسبة لهم، وتطوير طرائق تعلم اللغة الألمانية والعمل على التوسع في نشرها.
وأكَّد التقرير أهمية نشر تعلم اللغة الألمانية في الدول المصدرة للعمالة الماهرة كاستراتيجية استباقية، أضف إلى ذلك توفير تدريب لغوي خاص بكل وظيفة، كما يجب العمل على قبول اللغة الإنجليزية كلغة تواصل أو لغة عمل، الأمر الذي يحتاج إلى تحقيق تقبل مجتمعي لاستخدام لغات أخرى، وهو ما يُعد صعباً بعض الشيء في ظل اعتزاز المجتمع الألماني بلغته والإصرار على استخدامها وحدها في الحياة اليومية.
كذلك، ثمة أهمية لتعزيز فرص توظيف النساء المهاجرات، خاصة النساء المهاجرات اللاتي يرغبن في الانضمام إلى شركائهن في ألمانيا، الأمر الذي سيتطلب نهجاً دقيقاً موجهاً لتحقيق المساواة بين الجنسين، وتوفير ظروف عمل ملائمة خاصة للمهاجرات اللواتي لديهن أطفال، وتعزيز التعاون العابر للحدود بين دول عجز وفائض العمالة الماهرة، وذلك من خلال العمل على استقطاب العمالة الماهرة، دون الإضرار بمصالح الدولة المصدرة للعمالة الماهرة عن طريق ما يسمى “مشروعات الهجرة المنسقة”.
دعا التقرير أيضاً إلى تعزيز وتعجيل إدماج الأطراف المهاجرة في المجتمع الألماني؛ ولتحقيق ذلك الهدف يجب سلك طرائق عدة: كتوفير أنظمة الصحة والسلامة في العمل والأنظمة التدريبية المختلفة لمساعدة المهاجرين على الارتقاء والتقدم الوظيفي، ولتحقيق التكامل والتلاحم المجتمعي يجب نشر ثقافة الاستقبال للمهاجرين ومناهضة الأفكار الداعية لتضييق الخناق على المهاجرين أو وقف حركة الهجرة بالأساس، وقد أوضح التقرير أن ألمانيا تخطو خطوات إيجابية في هذا الصدد بواسطة العمل على تسهيل عملية التجنيس.
.