الذهبُ السوريُّ

جمال قارصلي ـ نائب ألماني سابق من أصل سوري /

هلْ تعرفُ ما هو الذهبُ السوري؟

دعني أحدثكَ عنهُ قليلاً، فهوَ ليسَ معدناً ولا يشبهُ المعادنَ الأخرى ولا أنواعَ الذهبِ التي يقاسُ عيارها بالقيراطِ، بل هو شيءٌ مميزٌ بجودتهِ ونوعيتهِ، ومعروفٌ في كلِّ مكانٍ، وتفتخرُ بهِ الكثيرُ من مدن العالمِ .. نعم إنهُ الذهبُ السوري!

تعالَ معي لكي أُعرفكَ عليهِ.

بدايةً أرجو أن تسمعَ مني ما حصلَ لي في أولِ يومٍ من عيدِ الأضحى الفائتِ، حيثُ أنني شاركتُ في صلاةِ العيدِ في وسطِ حديقةٍ واسعةٍ  في عاصمةِ سكوتلاندا / أنبره (Edinburgh) ، وكان هنالكَ الآلافُ من المصلينَ والمصليات.

فقمتُ بمشاركةِ بعضِ صورِ هذا الاحتفالِ العظيمِ على صفحتي في الفيسبوك، وبعدَ لحظاتٍ  قليلةٍ كتبَ لي أبو محمد، ابنُ صديقٍ لي من قريتي، يعيشُ في قطرَ: عمو اذا لازلتَ في أنبره (Edinburgh)  سيأتي إليكَ أخي الصغيرَ، علكش، لربما تحتاجُ لشيءٍ ما في هذهِ المدينةِ. وبعدَ  أخذِ ورد، وإصرارٍ شديدٍ من طرفِ أبو محمدٍ، وشعورُهُ بالقيامِ  بواجبِ الضيافةِ، وعدمُ قبولهِ كلَّ اعتذاراتي، جاءَ علكش، وهو الذي لم أراهُ سابقاً في حياتي، لأنهُ لم يكن مولوداً عندما غادرتُ وطني الأم سوريا إلى ألمانيا.

للوهلةِ الأولى لم أعرفهُ لأنَّ تأثيرَ الطابعِ البريطاني كانَ واضحاً عليه، وعلاماتُ الاندماج لا يمكنُ أن تتجاهلها عينُ الناظرِ. وعندما رأيتهُ فرحتُ كثيراً وكأنني التقيتُ مع جميعِ أهلِ قريتي وأقاربي.

التقينا، لم نكنْ نعرفُ من أينَ سنبدأُ حديثنا، منَ الحاضرِ أم منَ الماضي أم سنتطلعُ إلى المستقبلِ.

علكش شابٌّ نشيطٌ يطفحُ بالحيويةِ، في بدايةِ الثلاثيناتِ من عمره، هاجرَ إلى بريطانيا بعدَ انطلاق الثورةِ السوريةِ بعدةِ سنواتٍ وأكملَ دراستهُ في هندسةِ الحواسيبِ هناكَ وحصلَ على الماجستيرِ في ادارةِ أنظمةِ الحواسيبِ، والآن يعملُ في شركةٍ بريطانيةٍ  كبيرةٍ ..

أعادني علكش إلى أيامِ شبابي وطفولتي في قريتي .. تذكرتُ كلَّ جميلٍ كانَ فيها .. تذكرتُ البيادرَ وأشجارَ الحورِ والصفصافِ، ونهرِ قريتي الذي يزيدها خضارا وجمالا .. تذكرتُ كيفَ كنا نصيدُ فيه الأسماكَ وبطرقٍ متعددةٍ .. وتذكرتُ أرضها الواسعةَ وبساتينها وكرومَها وطريقةِ صيدِ الأرانبِ  والطيورِ .. تذكرتُ العينَ وماءَها الباردَ العذبَ، وتذكرتُ الهياكلَ والمجسماتِ الرخاميةَ الثقيلةَ التي كانت مرميةً في الأراضي الزراعيةِ وبدونِ أن يكترثَ بها أحدا والتي اختفت بينَ عشيةٍ وضحاها وبدونِ سابقِ إنذار .. وتذكرتُ أعراسَ قريتي ودبكاتها .. وتذكرتُ الزيارة، وهي المبنى الذي فيه ضريح جدي من والدتي بوزكيج (BOZGEYIK) والذي من اسمهِ أُخذ اسمُ قريتنا، وكذلكَ اسمُ أخوالٍ لي في مدينةِ غازي عنتاب التركيةِ (GAZIANTEP) ، وتذكرتُ الجرجر (النورس) .. وتذكرتُ مراسمَ صناعةِ البرغلِ وإحتفالياتهِ (الدقاق) .. وتذكرتُ مدرستي التي وضعها والدي تحتَ تصرفِ مديريةِ التربيةِ في حلب لكي ترسلَ معلماً يعلمَ أطفالَ القريةِ والقرى المجاورةِ لها، والتي فيها تعلمتُ الأحرفَ الأولى للقراءةِ والكتابةِ و الحسابِ .. تذكرتُ باحتها التي كنا نلعبُ بها وهيَ التي تتحولُ في الصيفِ إلى أرضِ لبيادرنا، وتذكرتُ مبناها والذي كانَ مؤلفاً من غرفتين فقط، واحدةٌ منها يسكنها معلمُ القريةِ، والأخرى هي مدرستنا وصفنا وشعبتنا بآنٍ واحدٍ، أي من الصفِّ الأولِ إلى الصفِّ الرابعِ الإبتدائي للذكورِ والإناثِ. الشيءُ المفيدُ كان في هذهِ الغرفةِ الوحيدةِ بأنَّ الطالبَ يستطيعُ أن يتعلمَ مناهجَ كلِّ الصفوفِ الأربعةِ بآنٍ واحدٍ، ولهذا حفظتُ كلَّ القصائدِ والأناشيدِ والآياتِ التي كان على طلابِ وطالباتِ الصفوفِ العليا أن يتعلمونها. أما من كانَ قد انتقلَ إلى الصفِ الخامسِ، أي أنهى (أكاديمية القرية)، فما كان عليهِ إلا أن يلتحقَ في إحدى مدارسِ مدينةِ منبجَ ليكملَ دراستهُ هناك .. وتذكرتُ كيفَ كانَ يجبُ علينا، نحنُ التلاميذُ، وكلُّ واحدٍ منا بدورهِ وبيومه، أن نأتيَ بما حضرتهُ والداتنا من طعامِ الغداءِ لمعلمِ القريةِ، لأنه يُعتبر ضيف القرية كلها، ولكي يبقى ممنوناً ولا يتركَ قريتنا بدونِ معلمٍ. تذكرتُ شبابَ القريةِ وفتياتها وتذكرتُ مشاكلها ومشاجراتها .. وتذكرتُ وتذكرتُ وتذكرتُ .. يا إلهي، الذكرياتُ كلها أتتْ ولمرةٍ واحدةٍ ولا أعرفُ كيفُ أرتبها في رأسي ومن كثرتِها راحتْ تتصادمُ معَ بعضها البعضِ وكلُّ واحدةٍ منها تجرني إلى طرفِها وتقولُ لي أنا أجملُ من ذكرياتك الأخريات.

نعم كلُّ هذه الذكرياتُ فجرها في نفسي علكش ولا أعرفُ لماذا. هل لأنني لم أكنْ أتوقعُ بأن ألتقي بأحدٍ من قريتي في هذا المكانِ البعيدِ عن وطني الأم، أم لأنه ذكرني بأهلي وأصدقائي وأقاربي، أم هوَ وأمثالهُ من شبابنا وشاباتنا أرى فيهم الكنزَ العظيمَ الذي اضاعتهُ سوريا ؟

كنتُ أنظرُ إلى علكش وأتذكر بعضَ الأحزابِ في بلادِ المهجرِ، ومنها من يدعي بأنه يساري، والمجموعاتِ المتطرفةِ التي تحرضُ ضدَّ اللاجئينَ وتحاولُ أن تنتقصَ من قيمتهمُ الإنسانيةِ والعلميةِ والاقتصاديةِ، وخطرَ ببالي المثلُ القائلُ: “الما يعرف الصقر يشويه”. نعم هذه الطاقاتُ والقدراتِ والثروةِ العظيمةِ لا يعرفها إلا العاقلونَ والذينَ لديهم بُعدُ نظر. ولكنهُ و يا حسرتاهُ هاجرَ الكثيرونَ من الشاباتِ والشبابِ السوريينَ إلى دولٍ قريبةٍ وبعيدةٍ لكي يقدموا الأجملَ ويبدعوا في عملهم وإنتاجهم .. نعم إنهم الثروةُ الحقيقية. هؤلاءِ هاجروا حاملينَ معهم ذاتهمُ الثمينَ إلى جانبِ ما أنفقه عليهم أهلهم من أجل تعليمهم، وربما اقتطعَ أهلهم ذلكَ من لقمة عيشهم.

نعم شبابنا وشاباتنا همُ الطاقةُ وهم الثروةُ وهم المستقبل، ولكن وللأسفِ هنالكَ من يعملُ على تهجيرهم من وطنهمُ الأصليِّ الذي هوَ بأمسِّ الحاجةِ إليهم.

نعم هؤلاءِ همُ الذهبُ السوريُّ الذي أصبحنا نجدهُ في كلِّ أنحاءِ العالمِ، وبريقه يشعُّ في كلِّ مكانٍ. ها هم يبنونَ في أوطانهم الجديدةِ أمجاداً، ويرفدونَ حضاراتٍ، ويرفعونَ مناراتٍ .. إنهم الشاباتُ والشبابُ السوريون، إنهم أحمد و علي و بيبرس و غازي و أنطون و حسو و زينو و فاطمة وإسراء وجورجيت ومنى .. و .. و .. نعمَ هؤلاءِ همُ الذهبُ السوريُّ، ومن لا يرى جودته العاليةَ وثمنه الغالي فهو لا يعرف عن المعادنِ الثمينةِ شيئا.

أقولُ هذا وها هيَ دمعةٌ تتدحرجُ من عيني فرحاً على هؤلاءِ الشبابِ والشاباتِ على ما يحققونهُ من نجاحاتٍ في مهجرهم الإضطراريِّ، ولكن وفي ذاتِ الحينِ في عيني الأخرى دمعةٌ تسيلُ حزناً على وطني سوريا.

ولكنني أعودُ وأعزي نفسي وأهمسُ في أذنِ سوريتي وأقولُ لها، أُمُنا لا تحزني، بل عليكِ ان تفتخري بشاباتكِ وشبابكِ، هم سيرجعون إليكِ كالطيورِ المهاجرةِ التي ترجعُ إلى بيوتها الأصليةِ، حاملينَ إليكِ أثمنَ الهدايا وأجمل الأشياء من العلمِ والخبراتِ والتجاربِ الناجحةِ من أجلِ إِعماركِ مجدداً ولتصبحي نبراساً في الإخاءِ والتطورِ والإزدهارِ والديمقراطية، وستفرحينَ وتفتخرينَ بهم وتضمينهم إلى صدركِ وتغنينَ لهم، أنا أمكم كلكم .. أنا أمُّ العظماءِ والتاريخِ و أولى الأبجديةِ .. أنا سوريا الأبية!

.