إعادة صناعة الطوائف
“أفكار حافة الهاوية”
موسى الزعيم
أفكارُ حافّة الهاوية، أو إعادة صناعة الطوائف عنوان كتاب الدكتور حسين شاويش، والذي يأتي في وقتٍ تبدو فيه الحاجة ملحّة إلى مقاربة هكذا قضايا تحفر عميقاً في النسيج الاجتماعي وخاصة بعد الحراك الشعبي الذي بدأ في عدّة بلدان عربية متمثلاً ” بالربيع العربي”، هذا الحراك المترافق مع تعويمٍ إعلامي عبر الميديا وبعيداً عن الخطابات الرسميّة للأنظمة، سلّط الضوء على كثير من القضايا المُعطّلة لهذا الحراك وأهمّها الانتكاس إلى حضن الطائفة، باعتبارها الملاذ الحامي للفرد في ظلّ غياب سُلطةٍ ديمقراطيّة حقيقية.
ونتيجة حالة الوعي، استشعر الشباب مخاطر الطائفيّة، وقد بد ذلك واضحاً في مظاهرات لبنان في تشرين الأول 2019 والتي شملت كلّ فئات الشعب اللبناني، عدا أمراء الطوائف.
هذه الارهاصات التي ظنّ الشباب العربي أنّها سوف تسلخهم عن عَمامة الشيخ، لكن يبدو أنّ للأمر جذوراً أعمق من ذلك وأن جدران الطائفة شاهقة ولا تقلّ تحصيناً عن متاريس الأنظمة.
يأتي هذا الكتاب، كمرحلةٍ تاليةٍ للكتاب الأول ” الرماد الثقيل ” والذي بحث فيه عملية تشكيل الطوائف وآلية تحويل الولاء الطائفي إلى هويّات تقسيميّة للمجتمع وآليات إعادة إنتاج لها.
هنا يرى الباحث أنّ ما قام به، ما هو إلاّ محاولة “لقرع الأجراس” من خلال رصد التكوينات والسرديات الجديدة للطائفة، قد تنتهي بتكوينات طائفية وهويات عدائية جديدة وربما حروب…
يرى الباحث من خلال جملة من المُعطيات التاريخية أن الطائفة غير موجودة كحقيقة ماديّة، وما في الكتاب كما في كتب التراث الأخرى، سوى سرديات غايتها أن تتحوّل إلى دوافع للعمل السياسي والاجتماعي وما حفلت به الكتب سوى الشكل النفسي والفلسفي والايديولوجي للطائفة و ما هو إلاّ الظلّ الذهني لوجودها الواقعي، لذلك كما يرى شاويش أن من يبحث في مسألة الطائفية، لن يجد ضالته في كتابه، كما الكتب الأخرى، لأنّ الطائفة بحدّ ذاتها غير موجودة أصلاً كحقيقة ماديّة ” فنخلص إلى أننا عندما نقول هوية دينية فإننا نعني طائفية في أغلب الحالات”.
قسّم الباحث كتابه إلى ستةِ فصول،
ففي الفصل الأول عرض أفكاره من وجهة نظر تاريخية، فعالج قضيّة التدين والتطيّف ضمن الإطار الاجتماعي والتاريخي، في مُحاولة أوليّة لتحقيب موضوع البحث.
حيث شمل المرحلة التاريخية من نهاية الأربعينيات إلى نهاية السبعينيات هذه المرحلة اتسمت بأنها مرحلة البناء السياسي للهويات القوميّة الحديثة، مروا بمرحلة الصحوة الإسلامية حتى انحسار موجة الربيع العربي.
هنا ينطلقُ الباحث من فكرة أنّ الطائفة هي كأيّ شكل آخر للتجمع البشري وبالتالي هي ظاهرة تاريخيّة بشريّة، فهي خاضعة للتأثر والتغيّر، وقد يبدو ذلك جليّا لدى أبناء الطائفة الواحدة في بلدين متجاورين مثلاً في حين تقتصر بعض مظاهر الطائفية في مكان آخر على طقوس الجنازة، وضمن مجموعةٍ من المسارات، يتتبعها الباحث، يخلص إلى أن الطوائف صناعة بشريّة ” صُنعت وعدّلت آلاف المرات من قبل الشخصيّات الفاعلة، فيها، ومنها، وعليها، وبتأثير الشرط المحليّ والإقليمي بل والدولي.
كما يرى الباحث أن خطورة حجب هذه السرديات، يجعل الناس تشعر أنّ انتماءها للطائفة طبيعياً كولادتها، وبالتالي يسهُل تسيسُ هذا الانتماء والتحكم به.
ومن ثم يبحث الكاتب في الأنساق الثلاثة التي تجعل من الطائفة كياناً مستقلاً منفصلاً وهي النسق” الاقتصادي والسياسي والايديولوجي.. هذه الأنساق تدعم الارتباط السياسي مع الحزبي في تثبيت الكيان الطائفي، فتغدو هذه الطوائف ممثلة بكيانها السياسي، كــَ”دور البطرك الماروني في لبنان والسيستاني في العراق..”
هذا على المستوى المحلي، أمّا على المستوى الخارجي، هناك بُنى اجتماعية سياسيّة وإقليمية تشكّل صلة القرابة الجغرافية أو الإقليمية مع الطائفة، فتلعب دوراً تحالفياً أو تبعيّا في تقوية التحالفات الطائفية كما تلعب دوراً تأثيرياً من الخارج لتقوية مصالحها وهذا يبدو واضحاً في الدور الأمريكي في العراق والأدوار المُتعددة التي تلعبها القوى الخارجية في لبنان.
كما يركز الكتاب على المشكلة الطائفية من خلال انعكاس العلاقة الخارجية على الولاءات الطائفية أو التبعية الطائفية، لها لكن هذه المرّة من جهة اقتصادية، فيسوق مثالاً على ذلك الحالة العراقيّة، وفق ذلك يمكننا استنتاج وضع الشرق الأوسط عموماً.
يرى الباحث أن جارتي العراق “الدولة العثمانية والصفوية” فشلتا في تحديث البنى الاقتصادية لديهما فلجأتا إلى الاقتراض من الدول الأوربية مما جعلها تفرض وصايتها على بعض الطوائف حتى ولو كانت خارج حدود هاتين الدولتين، مما عزّز التبعية الاقتصادية الطائفية أو الوصاية الطائفية، كما حدث في العراق ولبنان أيضاً.
في جزئية أخرى وعلى غاية من الأهمية يرى الباحث أنّ “معاهدة السلام الديني” أو صلح عام 1555م كان الخطوة الجديّة الأولى في فصل المسيحيّة عن السياسة الأوربية في حين كان المشرق يسير في الاتجاه المعاكس، تلك الفترة، فيعيش مرحلة “شيخ الإسلام” الذي تحوّل إلى مؤسسة تُشرف على القضاء والتعليم و الفتوى”.
في تلك المرحلة وما تلاها انطلق الأوربيون نحو نهضةٍ علميّة وفكريّة، في حين انكفأ المسلمون في الشرق واقتصروا على علم التوحيد.
ففي أوربا أدّت هذه النزعة العلميّة إلى التحرر من سطوة “الكتب المرجعيّة” بينما تكرس ذلك في الشرق، في أوربا أفرز ذلك الكثير من التأثيرات الاجتماعية وساهم في نشوء نُظُم جديدة، مثل الاقطاع والمستعمرات والنقابات.. وفي مرحلة لاحقة بدأت الثورات بما تحمله من أفكار ديمقراطيّة وتحرريّة ونشوء الدول القوميّة وأفكار التنوير، كلّ ذلك عبر عجلة صناعية مُتحررة، بدأت بالنّول والمحرك البخاريّ، في حين بقي المشرق تحت وصاية العباءة والعمامة. فيما بعد كان التغير الوحيد الذي أجرته النُّخب المثقّفة المُسلمة هو التركيز على مفهوم الوحدة الإسلامية في مواجهة النفوذ الغربي.
في هذا الفصل حاول التركيز على ما حدث، دون التركيز على ما مُنِع حدوثه أو ما هي الكوابح التي أعاقت التطور الطبيعي والاجتماعي للمجتمعات العربية.
أمّا الفصل الثاني من الكتاب فقد جاء تحت عنوان “عرض أزياء طائفي”
يبدأ هذا الفصل بقاعدة، تبدو للقارئ على غاية من الأهمية وترسم إطار ما سيأتي بعدها، وهي أنّ ” لدينا سرديات مُختلفة للحدث الديني نفسه. أو موديلات “للثوب الديني ” يلائم كلّ واحدٍ منها جسداً معيناً.
ومن ثم ينتقل إلى السرديّة الشيعية أو”بعض الموديلات الشيعية” كما يسميه، كنماذج بين مَنْ هم أقلهم شيعية، إلى أكثرهم تشدداً، فيبدأ “بأحمد الكاتب” والتشيع الديمقراطي المنفتح كصورةٍ معتدلةٍ وتصالحية.
في حين أنّ الخميني وهو النسخةُ الشيعيّة من الإسلام السياسي الذي يقول في كتابة “الحكومة الإسلامية” ولاية الفقيه: فِكرة علميّةٌ واضحةُ قد لا تحتاج إلى برهان” ثم يميز الباحث في كتابه بين الولاية الاعتبارية والولاية التكوينية.
أمّا في “الموديلات السنيّة” فيرى شاويش أنّ الإسلام السياسي يمكن رؤيته لدى يوسف القرضاوي وقد تجلّى ذلك من خلال برنامجه الشريعة والحياة على شاشة الجزيرة و ترؤسه للاتحاد العالمي للعلماء المسلمين.
كما يتحدث ضمن هذه السرديّة عن الشيخ “محمود شلتوت” أو كما يسميه النسخة الحديثة للتسنّن المنفتح على العصر والأخر والذي كان شيخاً للأزهر بين عامي1958 – 1963 وقد حاول”عصرنة الأزهر” حسب تعبير الباحث.
جاء الفصل الثالث تحت عنوان “يا لثارات عثمان” أو طريقة تصنيع الطائفة السنيّة في العراق هنا يحاول الباحث وضع الأمور في نصابها الصحيح أو يحاول نفض الغبار عن حقائق تم اخفاؤها أو تجاهلها.
كما يتعرّض للسردية السنيّة الجديدة لدى طه الدليمي، فمن خلاله يعرض الكاتب للسياق الموضوعي ” لَبننة العراق وظروفها”
ومن ثم يتحدث عن صناعة الطائفة المقاومة منتقلاً بعد ذلك للحديث عن نشأة الشيخ طه الدليمي والظروف المؤسسة لفكره الذي ارتكز في الأساس على محاربة الشيعة من منطلق دحض أفكارهم الأيديولوجية وتفنيدها كما في كتابه “أسطورة المذهب الجعفري” مثلاً، ومن خلال مشروعه الذي يرتكز على سحب المشروعية الدينية من الشيعة، وتحصين الصف الداخلي لأهل السنّة والتأكيد على أن الولاء للعقيدة، مما يفجّر طاقات الأمة ضدّ مشروع الشيعة السياسي، وبالتالي يفضي إلى تفجير طاقات دعوية وسياسية وعسكرية. يستطرد الباحث في الغوص في تلك العلائق، ضمن البيئة الاجتماعية السنيّة والصراعات الداخلية لها حول تمثيل الطائفة وما يتعلق بالإخوان المسلمين في مصر والعراق عارضاً كذلك الخطر الأكبر المُتمثل في المدّ الإيراني وخاصة بما قامت به ايران من تدمير للحضارة العراقية … إيران: كانت ومازلت تسوق الخطر المُهدد للبلدان العربية ويتمثل ذلك في مطامعها في بعض جزر الخليج العربي.. وضمّ الاهواز.
يتحدّث الفصل الرابع من الكتاب عن “الشيعة الجدرية والقطع مع تكتيك التقيّة”.
في هذا الفصل وعلى نحو مشابهٍ لما سبقه يتحدّث عن الشيخ “ياسر الحبيب” ويعرض عدداً من كتبه مبرزاً باختصار بعض مضامينها، مقارناً بين منهج الدليمي الذي يُرجع الأحكام إلى القرآن والحديث النبوي، بينما ياسر الحبيب يعتمدُ على “المدرسة التفكيكية” من خلال فكّ العلاقة بين الفلسفة والنصّ المُقدّس “فصل الفلسفة والعرفان عن الوحي والقرآن” وتفوّق المعرفة الدينية على المعارف البشريّة والذي ينصّ على لزوم الاستناد إلى القرآن والحديث والابتعاد عن التأويل والعمل بظاهر الآيات.
يرى الباحث أنّ الشيخ الحبيب مثالٌ جيّد على صناعة الطائفة، لأنّه لم يكتفِ بإعادة صناعتها وإنما أعاد صياغتها باختيار أكثر عناصرها راديكاليّة، بل وأعاد صياغة التاريخ الإسلامي ليتلاءم معها.
الفصل الخامس يتحدّث عن موديلات علويّة جديدة أو إعادة تصنيع ثيولوجية سياسيّة للطائفة.
يرى الباحث أنّ العالم الرقمي المتسارع، عجّل في كشف بعض الأدبيّات الثيولوجية لبعض الطوائف الباطنية وهنا يكشف عن وثيقة الكترونية سمّيت “الابتدار العلوي” والتي انتشرت عقب الثورة السورية، ما بعد 2011 ويبدو أن ” وازنين في الطائفة العلوية ” أو من لهم سلطة الضمير الجماعي أو السلطة الآمرة، هم من حدد الأُطر العامّة للطائفة.
تتألف الوثيقة من خمس وثلاثين صفحة، تتوزع على ثلاثة محاور وهي الوثيقة الأوضح والدليل على صناعة الطائفة، كان الهدف الأول من الوثيقة إعادة العلوي إلى حضن الطائفة وتحديد الهوية العلوية بأنّها ” سوريّة وطنيّة إسلاميّة عرفانيّة، مُنفصلة عن الشيعة والسنة.. وهي علنيّة، بما يتعلّق بالعلويّ نفسه وسلوكه وعلاقاته الاجتماعية.. وهي ليست منظمة لله وإنما طريق إليه..
من خلال الوثيقة، يرى الباحث نوع الشخصية العلويّة، وكيف تحاول صناعة واقعٍ يتكيّف معها، وتعيد تصميم صورتها وفق سردياتها، مما يعيدنا إلى ثلاثينيات القرن الماضي، عندما واجهت الطائفة مشكلة التعريف بها، فأرادت أيضا صياغة تعريف جديد لها، وهذا كان غاية مجلّة ” الهدف”.
في الفصل الأخير والذي جاء تحت عنوان “عندما تأتي الطائفية من الشمال”،
يفرده مجدداً للحديث عن الحالة العراقية من خلال السفير الأمريكي بريمر وتطييف السياسة والمجتمع العراقيين ومن خلاله يمكن لنا فهم الطريقة التي يتعاطى بها الأمريكان مع قضيّة الطائفة في العراق.
ينتقل بعد ذلك إلى توصيف الحالة السورية إذ يرى وباختصار أنّ الصراع في سوريا سمّي بغير اسمه الحقيقي “إشعال الحرب بين الطوائف، وترسيخ حالة توازن الرعب فيها بحيث يلعب النظام دور المركز والمنظّم والمدبّر لتلك الصراعات”.
يختم الباحث كتابه بلوحة يحملها فتى عراقي كُتب عليها “أفضل حلّ للعراق، تعيين رئيس وزراء شيعي أبوه سنّي أمه مسيحية متزوج كرديّة عنده جنسيّة أمريكيّة، يشرب في الليل ويصلّي بالنهار”.. وهي المقولة التي أسس عليها شاويش موضوع كتابه.
يقع الكتاب في 242 صفحة من القطع المتوسط، وقد بذل الباحث فيه جهداً كبيراً، يبدو ذلك واضحاً من خلال العدد الكبير من المصادر والمراجع التي استند اليها في بحثه، مما يعطيه الصفة الاكاديمية، وقد جاء الكتاب بلغة دقيقة قريبة إلى فهم القارئ العادي.
ـ الدكتور حسين شاويش كاتب فلسطيني مقيم في ألمانيا.
.