حرب النجوم واحتلال الفضاء الخارجي

بهاء الدين عياد /

أوائل الأربعينيات دشنت ألمانيا النازية ما يطلق عليه اليوم مصطلح “عسكرة الفضاء الخارجي” لتتسابق واشنطن وموسكو في “حرب النجوم” لعقود إبان الحرب الباردة، وتتحول التكنولوجيا والمعرفة عن الفضاء من الاستخدام المدني إلى العسكري.

مما يعني تغيير مسار القوى الدولية لفرض الهيمنة والنفوذ من الأرض إلى السماء، غير أن تقاسم كعكة السيطرة على الأرض بين السوفيات والأميركيين تراجع نسبياً إبان الحرب الباردة مع إدراك واشنطن أن التهديد السوفياتي القادم من الفضاء لا يضاهي خطورة الشيوعية وسطوتها وتمددها، الأمر الذي مهد الطريق أمام القوى الناشئة والصاعدة لغزو الفضاء وتثبيت أقدامها ومحاولة فرض سيادتها إلى خارج حدودها السياسية المعترف بها.

الصراع في الفضاء يدور حول الموارد والسيادة والاستخدامات الدفاعية للفضاء الخارجي لحماية الأمن القومي للدول على الأرض، بل والاستخدامات الدعائية أيضاً، مما دفع الصين الصاعدة بسرعة صواريخها الفرط صوتية إلى بلوغ ومنافسة تقدم الولايات المتحدة من خلال تطوير الاستخدام المزدوج للتكنولوجيا للتغلب على حظر معاهدة الفضاء الخارجي وضع أسلحة نووية أو أسلحة دمار شامل في أي مكان في الفضاء، إذ يظل مباحاً أمام مختلف الدول استخدام الأسلحة التقليدية في الفضاء أو استخدام الأسلحة المنطلقة من قواعد أرضية ضد الأجسام الفضائية مثل الأقمار الاصطناعية والمحطات المدارية وغيرها مما قد يهدد سلامة كوكب الأرض.

وبعد 100 عام من إطلاق ألفريد ماهان نظرية قوة البحر (من يمتلك البحر يملك العالم)، يدافع الاستراتيجيون الأميركيون حالياً عن “نظرية القوة الفضائية” للسيطرة على الأرض من خلال التفوق في الهيمنة على الفضاء. وانتقلت خلال العامين الماضيين الحرب للسيطرة على موارد الفضاء كما صورتها شاشات هوليوود إلى حرب فعلية تدور بالأساس بين روسيا والصين والولايات المتحدة.

ولعله ليس من قبيل العبث إطلاق النسخة الثانية من فيلم الخيال العلمي الملحمي الأميركي “أفاتار” المعروض حالياً في السينما العالمية، بينما فارق عديد من القوى الدولية زمن السلم، إذ مثل المنتج الثقافي أداة ترويجية لما يدور من صراع بين القوى الكبرى لتقاسم كعكة النفوذ في الفضاء، الأمر الذي طور مفهوم الجغرافيا السياسية لتشمل بسط النفوذ وشكلاً من أشكال السيادة في الفضاء أيضاً.

الفضاء… عسكرة وساحة حرب

تخشى واشنطن من احتمالات تعرض أنظمتها الفضائية لهجمات من جانب روسيا والصين، وهو ما يطلق عليه في الاستراتيجية الأميركية “بيرل هاربور الفضاء”.

 من خلال أسلحة فضائية تشمل التشويش والليزر والأسلحة والصواريخ المضادة للأقمار الاصطناعية تهدد القدرات الفضائية للصين وروسيا استراتيجية الفضاء الدفاعية الأميركية، في ظل اعتماد واشنطن المتزايد على تكنولوجيا الفضاء، والاستخدام المزدوج لها للأغراض السلمية والدفاعية.

التنافس الدولي حول الفضاء احتدم خلال السنوات الأخيرة، خصوصاً منذ 2007 عندما أجرت الصين اختباراً لتدمير الأقمار الاصطناعية باستخدام أسلحة مضادة كرد فعل للطوارئ المتوقعة في مضيق تايوان، مما أثار انتقادات شديدة لأن الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي على رغم استخدامهما للفضاء عسكرياً لعقود خلال الحرب الباردة امتنعتا عن إجراء هذه الأنواع من الاختبارات لأن لها تأثيراً كبيراً في جميع العاملين بالفضاء. هذا الاختبار أسهم في تطوير الفضاء كمجال حربي في حقبة ما بعد الحرب الباردة، ودفع الدول الأخرى لزيادة تسليحها لأنها أدركت ضعف نظامها الفضائي.

من يمتلك الفضاء؟

دخلت الصين وروسيا والهند والولايات المتحدة في سباق تسلح فضائي بمجال إنتاج واختبار واستخدام الأسلحة المضادة للأقمار الاصطناعية خلال السنوات الأخيرة، بينما أعلنت وكالة “ناسا” الأميركية أواخر يناير (كانون الثاني) الماضي العمل مع وزارة الدفاع (البنتاغون) لتطوير صواريخ تعمل بالطاقة النووية استعداداً لمهمات مأهولة لاستكشاف المريخ.

ومنذ عام 2021 أعلن حلف شمال الأطلسي (ناتو) أن روسيا أصبحت قادرة على تطوير أسلحة جديدة بإمكانها تدمير أنظمة اتصالات وملاحة أرضية وأنظمة إنذار مضادة للصواريخ في الفضاء.

وأعلنت موسكو أن تجاربها لإسقاط الأقمار الاصطناعية جزء من خطة لتعزيز القدرات الدفاعية الروسية لمنع التهديد المفاجئ للأمن القومي الروسي في الفضاء وعلى الأرض من خلال تكنولوجيا الفضاء الحالية والمستقبلية للدول، وذلك بعدما أجرت واشنطن في 2020 تدابير اعتماد استراتيجية الفضاء الدفاعية بعد أربعة عقود من بدء اختبارها أسلحة مضادة للأقمار الاصطناعية في ثمانينيات القرن الـ20.

معضلة سباق التسلح لم تعد مقتصرة على كوكب الأرض بمجالاته المتعددة، الجوية والبحرية والبرية، بل اشتمتلت على الفضاء الخارجي أيضاً على رغم تصنيف القانون الدولي له على أنه “مشترك عالمي” غير خاضع لسيادة دولة بعينها بعد. مما يعني “أن موارده الاقتصادية عالمية تقع خارج نطاق الولاية الوطنية لأية دولة وينظمها القانون الدولي وفقاً لمعاهدة الفضاء الخارجي التي صاغتها لجنة الفضاء الخارجي بالأمم المتحدة عام 1959. وعلى رغم ذلك بدأ منذ ستينيات القرن الماضي الحديث عن السيطرة العسكرية من قبل الدول العظمى على أجزاء بعينها في الفضاء مع أزمة سبوتنيك في أكتوبر (تشرين الأول) 1975، وتطور ذلك إلى حد التنافس وصدام في بعض الأحيان بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي”.

الأنشطة العسكرية للدول الكبرى في الفضاء لم يتم اعتبارها مخالفة للقانون الدولي نتيجة ثلاثة أمور. الأول وجود اختلاف في تفسير (الأغراض السلمية) المنصوص عليها في معاهدة الفضاء، فالولايات المتحدة تفسرها على أنها تعني (غير عدواني)، بالتالي جميع الأغراض العسكرية مشروعة طالما ظلت كذلك، وهو ما يترك المجال لها ولغيرها من الدول لزيادة عسكرة الفضاء في نطاق القانون الدولي. أما الثاني فيتمثل في حظر المعاهدة وضع الأسلحة النووية أو أسلحة الدمار الشامل في الفضاء الخارجي، وهو ما يعني أن الدول يمكنها إرسال أية أسلحة أخرى طالما لم تكن نووية أو مدمرة.

أمر ثالث وأخير يسمح للدول بفعل ما تشاء من دون محاسبة وهو عدم وجود أية منظمة مخولة بتنظيم الفضاء، فمعاهدة الفضاء الخارجي تم فرضها من قبل مكتب الأمم المتحدة لشؤون الفضاء الخارجي الذي يفتقر إلى السلطة القانونية والهيكلية لتنظيم الفضاء بشكل فعال.

محطة الفضاء الصينية

مع دخول محطة الفضاء الصينية المرحلة الأولى من تطبيقاتها وتطويرها، أعلنت بكين خطة لإطلاق أكثر من 60 عملية فضائية في عام 2023 بعد أن اكتملت الشهر الماضي أول محطة فضاء صينية في مدار حول الأرض، فيما رفضت وكالة الفضاء الأوروبية المشاركة بإرسال روادها إلى المحطة الصينية.

واشنطن من جانبها تتهم برنامج الفضاء الصيني بأنه عسكري، فيما تؤكد استراتيجية الأمن القومي الأميركي الجديدة على حتمية تجاوز الصين وتأكيد المكانة الرائدة للولايات المتحدة في مجال الفضاء ومواجهة روسيا والصين.

وأعادت تجربة إسقاط القمر الاصطناعي الروسي التي أجرتها موسكو في نوفمبر (تشرين الثاني) 2021، الحسابات بشأن محطة الفضاء الدولية التي يديرها سبعة من رواد الفضاء أربعة أميركيين وألماني وروسيان. ومع مخاطر الانسحاب الروسي من محطة الفضاء الدولية، ومساعي الصين للاعتماد بشكل كامل على محطتها الفضائية بحلول عام 2029، يثار في الغرب القلق في شأن تشكيل تحالف عسكري ثلاثي بين الصين وروسيا وإيران، في مواجهة الولايات المتحدة والغرب فضائياً.

وتشير العقيدة الفضائية الصينية إلى اعتبار كل من القمر والمريخ مستعمرات متنازعاً عليها بين القوى الكبرى، وانعكاس في السماء للصراع حول الجزر المتنازع عليها في بحر الصين الجنوبي، بحسب تصريحات لمسؤولين صينيين.

التفوق الصيني في الصواريخ الفرط صوتية يرجع إلى أن كلاً من الصين وروسيا أجرتا أبحاثاً لتطوير أنظمة صواريخ تفوق سرعة الصوت، ونجحتا في إنشاء منظومة من هذا النوع قبل إنشاء الولايات المتحدة لهذه المنظومة بفترة طويلة.

في المقابل كانت الولايات المتحدة تعمل على تطوير دفاعات صاروخية، لكنها تواجه على ما يبدو مشكلات عديدة في تطوير دفاعات ضد الصواريخ التي تفوق سرعتها الصوت، إضافة إلى مشكلات في تطوير رؤوس حربية مناسبة لهذه السرعة. من جانبها، تدرك الصين المشكلات التي تواجهها الولايات المتحدة في ما يتعلق بهذه الرؤوس الحربية.

بينما تشير تقييمات تتعلق بالوضع الاستراتيجي الدولي وأمن الولايات المتحدة، إلى أن الأجهزة الأمنية الصينية تراقب احتمال حدوث صراع إقليمي في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، لكنها في الوقت نفسه قللت من احتمال نشوب حرب عالمية جديدة، وفي ضوء الحرب الروسية – الأوكرانية، لم يجر تحديث لهذا التقييم من جانب الصين حتى الآن.

أقمار إيلون ماسك

أحدثت الحرب في أوكرانيا نقلة نوعية في عملية عسكرة الفضاء الخارجي، فالحرب أصبحت مفتوحة أمام استخدام كل السلاح المتاح في يد روسيا والغرب، وعندما لجأت موسكو إلى ضرب شبكة الاتصالات الأوكرانية في بداية الحرب لم يعزز صمود كييف سوى الأقمار الاصطناعية التي وفرتها شبكة ستارلينك المملوكة للملياردير الأميركي إيلون ماسك، شبكة الاتصالات الكونية الجديدة غيرت مفاهيم الاتصالات العسكرية والأسلحة والأهداف العسكرية كما غيرت أطراف الحرب، ليصبح فرد واحد يمتلك التكنولوجيا المتقدمة، طرفاً في صراع دولي ومعارك على الأرض يقودها استخبارياً من الفضاء، من دون تحميل الولايات المتحدة كدولة مسؤولية المشاركة بنفسها في تلك الحرب، لتصبح أقمار ستارلينك وما شابه بمثابة “أهداف مشروعة” للجيش الروسي، إذا قررت القيادة السياسية والعسكرية الروسية نقل المعارك مع الغرب وواشنطن من الأراضي الأوكرانية إلى الفضاء الخارجي.

لم تنفصل مبادرة ماسك عن قرار الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب في 2020 باعتماد تمويل الهيئة العسكرية الأميركية المتخصصة بالفضاء “قوة الفضاء الأميركية” من أجل تأكيد تفوق واشنطن في أحدث ساحات الحروب العالمية.

وقبيل أسابيع من اندلاع الحرب في أوكرانيا استبقت روسيا حربها، بما وصفته الولايات المتحدة “التصرف الخطر”، بعدما اختبرت موسكو صاروخاً مضاداً للأقمار الاصطناعية، أسقطت به أحد أقمارها الاصطناعية المتهالكة، وأسفرت هذه التجربة عن أزمة كان يمكن أن تشكل تهديداً لسلامة الأجسام الفضائية الأخرى.

وبمقدرة منظومة “إس-550” الروسية المضادة للطائرات إسقاط المركبة الفضائية العسكرية الأميركية “إكس-37 بي”، وهو ما يشير إلى الوصول إلى نقطة تغير في العقيدة الروسية الفضائية، وتأكيداً لاتهامات واشنطن ضد روسيا والصين بعسكرة الفضاء، فضلاً عما كشفته الحرب في أوكرانيا من جوانب من البرنامج السري الأميركي للأمر ذاته.

ومنذ عامين تكشف نشرات وزارة الدفاع الأميركية وتقاريرها المعلنة عن نظر واشنطن إلى الصين وروسيا كأكبر تهديد استراتيجي للولايات المتحدة بفضل تطوير واختبار ونشر أسلحة في الفضاء، بما في ذلك تعديل عقيدتهما العسكرية نحو العمل على تحويل الفضاء كساحة للصراع الدولي، فيما يعتقد مراقبون أن الحرب في أوكرانيا تعكس النسخة “الأرضية” للمعركة التي تدور في السماء بين الولايات المتحدة وحلفائها من جانب، وروسيا من جانب آخر، بينما تستغل بكين ذلك لإنشاء فضائها المسلح الخاص بها في مواجهة الجميع.

“حرب النجوم” بين واشنطن وبكين

إطلاق الصين لصاروخ تفوق سرعته الصوت، ويحمل اسم Dong Feng17 (DF17)، في أغسطس (آب) 2021، أثار تساؤلات حول دوافع بكين من تطوير منظومة الصواريخ الفرط الصوتية في هذا التوقيت، بخاصة أن ذلك الصاروخ الذي أطلقته قادر على حمل رؤوس حربية نووية.

وفوجئت وكالات الاستخبارات الأميركية بالقدرة العسكرية الفضائية المتقدمة للصين التي كشف عنها هذا الصاروخ، ويرجع السبب في ذلك إلى أنه أطلق في مدار خارج الغلاف الجوي، ودار حول الأرض وعاد إلى الغلاف الجوي، واقترب من هدفه بسرعة تفوق الصوت.

وتكمن خطورة هذا الصاروخ في أن الدفاعات الأميركية ضد الصواريخ الباليستية العابرة للقارات في ألاسكا لن تكون قادرة على التصدي له، فأنظمة الدفاع الصاروخي التابعة لقيادة الدفاع الفضائي والصاروخي بالجيش الأميركي المنتشرة لاعتراض الصواريخ الباليستية تعترضها من اتجاه واحد فقط وهذا يختلف عن الصواريخ المدارية، وعلى رغم أن الرأس الحربي أخطأ هدفه بهامش واسع، فإن التطوير الصيني المستمر لهذه النوعية من الصواريخ من المحتمل أن يجعل بكين قادرة على تقليل هذا الهامش إلى أقل درجة ممكنة.

وفي مواجهة التمدد الصيني في الفضاء الخارجي، عززت الولايات المتحدة من موازنة الدفاع للعام المالي 2023، فتجاوزت الأموال المخصصة لقطاع الفضاء 50 مليار دولار أميركي، بينها 25.4 مليار دولار لوكالة “ناسا” بزيادة قدرها 5.6 في المئة عن 2022، وتم تخصيص نحو 26.3 مليار دولار لقوة الفضاء الأميركية، بزيادة تقدر بـ40 في المئة.

.