اندماج المسلمين في المجتمع الأوروبي ..

مصطفى عبدالله

لم يستطع الجنس البشري الانفصال عن غريزة حب التنقل، حتى أن تاريخه الطويل تكاد ترسمه حلقات عديدة من الهجرات، التي، وإن تنوعت أسبابها، فإن جوهرها واحد، هو “تغيير مكان الإقامة”، واليوم أصبحت الهجرة، وخصوصًا هجرة اليد العاملة، جزءًا لا يتجزأ من العلاقات الاقتصادية الدولية، حتى أن أكثر من 175 مليون شخص لا يعيشون في البلد الذي ولدوا فيه، أي ما يعادل 3% من مجموع سكان العالم، واليوم صار من غير الممكن التنبؤ بمستقبل أوروبا دون أخذ عامل الهجرة في الحسبان.

وعلى الرغم من أن سيد قطب، عقب زيارته لأميركا فيما بين عامي 1948،1951، قد قام بانتقاد الحضارة الغربية، ووصفها بـ “المنحطة”، أخلاقيًا، وهي نظرة رجل الدين الباكستاني أبو الأعلى المودودي ذاتها التي كونها عقب زيارته لانجلترا في عام 1969، إلا أن المسلمين، في أغلبهم، منذ نهاية العهد الاستعماري، لم يروا في الغرب إلا جنة يجب العيش فيها عوضًا عن جحيم بلادهم المتخلفة اجتماعيًا، والمتسلطة بأنظمة حكمها الديكتاتورية، ومع أن فتاوى السلفية حرمت هجرة المسلمين إلى بلاد “الكفر”، إلا أن وفود الهجرة المسلمة انهمرت على اوروبا والغرب بلا انقطاع، حتى صار المسلمون اليوم يشكلون هناك جاليات كبرى لها وزنها وتأثيرها في الواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي لبلاد المهجر.

هذا الكتاب المعنون بـ “أوروبا والهجرة.. الإسلام في أوروبا” الصادر يقدم صورة واضحة لواقع الإسلام في أوروبا، وعلى الأخص في فرنسا، ويحاول استشراف مستقبله هناك في ظل عالم هو فيه المقاوم والضحية في آن، كما يلقي الضوء على واقع الهجرة الإسلامية إلى القارة العجوز باعتبارها ظاهرة مستمرة يمكن أن يكون لها دور بارز في رسم العلاقة المستقبلية بين الإسلام وأوروبا.

فكما يقول الكاتب الجزائري إدريس بوسكين، مؤلف الكتاب: “لقد صار من غير الإمكان التنبؤ بمستقبل أوروبا دون إدراج عامل الهجرة إليها”.

وفي أيامنا هذه يبلغ عدد المسلمين في أوروبا ما بين 15، و20 مليون نسمة، يمثلون 8 في المائة من عدد سكان فرنسا، و3 في المائة من عدد سكان بريطانيا العظمى، و4 في المائة من عدد سكان ألمانيا، ويتنبأ علماء الديموجرافيا بأن المسلمين، بحلول عام 2050 الميلادي، سيشكلون 20 في المائة من سكان اوروبا بالمجمل، بل إنهم بالفعل يشكلون الآن هذه النسبة في العديد من مدن أوروبا الكبرى.

لماذا أوروبا بالتحديد، دون العالم المتحضر كله شرقًا وغربًا، التي تستفيض الهجرة الإسلامية في القصد إليها؟

يقدم بوسكين إجابته عن هذا عندما يقول: “عامل القرب الجغرافي”.

فهو العامل المتكرر منذ القدم، وإن لم يعد اليوم حاسمًا، فأوروبا لا تبعد عن المغرب إلا أربعة عشر كيلومترًا فقط، والأراضي الإسبانية يمكن رؤيتها نهارًا من شواطئ طنجة، بل إن أوروبا نفسها موجودة في المغرب، عبر جزيرتي سبتة، ومليلة.

وأوروبا في حاجة ماسة للمهاجرين، وبخاصة أوروبا الغربية الأكثر تقدمًا وتطورًا، لاسيما إذا عرفنا أنه بحلول عام 2050 الميلادي سيزداد عدد سكان آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية، بينما ستنخفض أعداد الأوروبيين بشدة.

والمسلمون في أوروبا يتمايزون إثنيًا ولغويًا ومذهبيًا، وهم ينحدرون من أصول شمال إفريقية، وآسيوية، وشرق أوسطية، والكثير من الجاليات الإسلامية وجدت هناك منذ العهد الكولونيالي.

لكن هذه الهجرة العاتية، وتحديدًا الإسلامية، ظلت دائمًا محل خوف السكان الأصليين لاسيما في ظل العقم الفكري الذي تعيشه مجتمعاتنا الشرقية، فكانت لهم ردود أفعال عنصرية للغاية.

ولقد ورد في تقرير المركز الأوروبي بفيينا، وهو مركز يعنى بملاحقة التعديات ذات الطابع الإثني، أو الديني، في كل الدول الأوروبية وأوضح أن المسلمين، بشكل خاص، عادة ما يعانون من مشاكل عديدة، كالعنف، والتمييز، في العمل والسكن، العنصرية التي يتعرضون لها بسبب لباسهم، الاعتداءات المتكررة على مساجدهم ومراكزهم الإسلامية.

ولقد دعا، هذا التقرير، قادة الدول الأوروبية إلى الإسراع في اتخاذ إجراءات وسياسات ملائمة لدمج المسلمين أكثر في المجتمع الأوروبي.

وعلى الرغم من هذه الدعوة فإن تخوف أوروبا، في ظل تدفق الهجرات إليها، تمثل في ازدياد نشأة الأحزاب اليمينية المتطرفة، فـ “الجبهة الوطنية” في فرنسا، وفي بريطانيا “الحزب الوطني القومي”، و”رابطة الدفاع الإنجليزية”، وفي إيطاليا حزب “رابطة الشمال”، وفي المجر حزب “جوبيك”، وفي ألمانيا حزب “الحرية” الجديد، وحزب “من أجل شمال الراين وفيستفاليا”، وفي هولندا حزب “من أجل الحرية”، وفي الدانمارك الحزب “الشعبي الدانماركي”، وفي السويد حزب “ديموقراطيو السويد”، وفي روسيا “الحزب الليبرالي الديموقراطي الروسي”، وفي بلغاريا حزب “أتاكا”.

ويبرر المؤلف مثل هذا الموقف بأن الأوروبيين يشعرون بأنهم يفقدون أوطانهم، وبأنها تضيع باتجاه الغزاة الجدد، الذين ليسو غزاة فقط، وإنما متخلفون أيضًا، فما الذي لدي المسلمين ليحبهم الآخرون من أجله؟!

يقول المؤلف: “من وجهة نظر موضوعية ماذا يوجد لدينا نحن المسلمون غير التخلف والجهل والحروب والفقر والأمية والإرهاب والحساسيات الدينية ما جعلنا في مؤخرة الشعوب، وحتى وإن كانت بعض هذه الصفات تسم الغرب، لكنه يغطي على هذه الجوانب كونه يقود اليوم حضارة علمية وتكنولوجية وثقافية فائقة”.

ولن تحترم أوروبا المهاجرين المسلمين، كما أنها لن تحترم ثقافتهم، لأنها لا تحترم بلدانهم الأصلية الفاشلة الخانعة سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا، فالعالم لا يحترم إلا من يحترم نفسه أولًا.

ويخلص بوسكين إلى أن: “كل هذه الأحداث تبين لنا بما لا يدع مجالًا للشك أن الاندماج الكامل للجاليات المسلمة لن يحدث في المجتمع الأوروبي أبدًا، وستكون الأزمات دائمًا حاضرة، وستتواصل حلقات صدام الحضارات في إحدى جوانبها”.

والله وحده يعلم إن كان التطور الطبيعي لهذه الهجرات سيؤدي إلى “أسلمة” أوروبا، أم “أوربة” الإسلام.

.